جزيرة دارين بوابة العطور إلى الجزيرة العربية – بقلم صادق علي القطري

{ إلى أولئك الذين ما زال العطر يذكّرهم ببحرٍ قديم، ومجدٍ لم يَغب }

على تخوم الخليج، حيث يتصافح الموج والرمل، وتلوح المرافئ القديمة كصفحاتٍ من ذاكرةٍ لم تجف، تقف جزيرة دارين شامخةً مثل قارورةٍ من التاريخ المعبَّق. هي ليست مجرد جزيرةٍ صغيرةٍ من جزر المنطقة الشرقية، بل كانت عبر القرون بوابة العطور، وميناء الأرواح العابقة بالمسك واللبان والعنبر، وشريانًا من شرايين التجارة التي أنعشت قلب الجزيرة العربية قبل أن تُرسم الخرائط الحديثة بقرون.

كانت دارين، الواقعة في الطرف الشرقي من جزيرة تاروت، أشبه بنقطة التقاءٍ بين الشرق والغرب، بين أرض العطور في الجنوب العربي، من حضرموت وظفار وسواحل قنا، وبين أسواق فارس والهند وبلاد الرافدين. من موانئها انطلقت القوافل البحرية، تحمل روائح الطيوب التي لا تخطئها الأنوف، إلى أسواق مكة ويثرب والبصرة وسوق عكاظ، وحتى إلى روما وبيزنطة عبر طرق التجارة القديمة.

دارين العطر الذي كتب التاريخ:
لم تكن شهرة دارين في العطور وليدة صدفة، بل ناتجة عن موقعٍ جغرافي فريد جعلها جسرًا طبيعيًا لتجارة الطيب منذ الألف الأول قبل الميلاد. ذكر المؤرخون الإغريق واللاتين مرافئ شرق الجزيرة، وأشار بعضهم إلى موانئ يُعتقد أنها دارين، ضمن مسارات تجارة “اللبان العربي” الذي كان أثمن من الذهب في تلك العصور.

في كتب الجغرافيين العرب، كالإصطخري والمقدسي وياقوت الحموي، كانت دارين ميناءً يُضرب به المثل في جودة العطر المنسوب إليه، حتى صارت الكلمة نفسها علمًا على أجود أنواع الطيب:

“عطر دارين” كما ورد في المعاجم القديمة يُقصد به أصفى ما تُستخلصه التجارة من دهن الورد والمسك والعنبر، وكان يُستعمل في قصور الملوك وأروقة الحرم المكي.

كان العطر في تلك الأزمنة أكثر من سلعة؛ كان رمزًا للحضارة والتواصل بين الشعوب. فمن دارين عبرت الزيوت العطرية القادمة من الهند، ممزوجة باللبان القادم من ظفار، والمسك القادم من التبت، إلى أيدي تجار مكة الذين كانوا بدورهم ينشرونه في بلاد الشام ومصر. هكذا تحوّلت الجزيرة الصغيرة إلى عقدٍ من روائح البحر والتاريخ.

بين الموج والمراكب صورة المكان:
حين كانت السفن الشراعية تقترب من شواطئ دارين، كان العطر يُشمّ قبل أن تُرى اليابسة. وكانت الأسواق تفوح من بعيد برائحة العود والعنبر والورد، والبيوت مبنية من الحجر المرجاني، ينعكس عليها ضوء الغروب الذهبي فيبدو المشهد كلوحةٍ من السكينة البحرية.

يصف بعض الرحالة الأوائل دارين بأنها كانت “مخزن الطيب وملتقى القوافل البحرية”، حيث تتكدس القوارير في المخازن، ويُغلف المسك في أقمشةٍ هندية، وتُرسل عبر البحرين إلى الخليج ومن ثم الى البحر الأحمر. وفي كل زجاجةٍ من عطور دارين، تختبئ قصة طريقٍ طويلٍ من الجنوب العربي، حيث كان اللبان يُجمع من أشجارٍ مقدسة في جبال ظفار، ثم يعبر إلى دارين ليأخذ منها اسمه النهائي “عطر دارين”.

دارين في الذاكرة العربية:

في الأدب العربي القديم، كان ذكر دارين يُستدعى للدلالة على النقاء والفخامة. قال احد الشعراء القداما:

“كأنّ مسك دارين إذ مرّ النسيم به …………. يُهدي إلى القلب عطرًا لا يزولُ”

وقد أصبحت كلمة “دارين” في اللغة العربية مرادفةً للعطر الفاخر، حتى قال أهل اللغة: “الدارينيّ من الطيب هو ما نُسب إلى دارين”. وهذا يدل على أن شهرتها لم تكن تجارية فحسب، بل لغوية وثقافية أيضًا، تسللت إلى الأمثال والشعر وأسماء الطيوب.

دارين والتاريخ الاقتصادي للخليج:
من الناحية الاقتصادية، كانت دارين في العصور القديمة نقطة وصل أساسية في تجارة الطيب والبخور والعنبر والعود، مما جعلها تؤثر في ثراء القرى والمدن المجاورة، خاصة في جزيرة تاروت والقطيف. فقد سبقت دارين، بمعناها التجاري، ظهور موانئ حديثة كثيرة، إذ كانت أحد أقدم المرافئ المنظمة في شرق الجزيرة، بشبكةٍ من التجار الذين ربطوا سواحل الهند وجزيرة سقطرى وعُمان والبحرين في منظومةٍ بحرية واحدة.

وكما تشير الاكتشافات الأثرية الحديثة في جزيرة تاروت إلى وجود جرار فخارية وعقود زجاجية هندية تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد، مما يؤكد أن دارين كانت بالفعل مركزًا لتخزين وتوزيع العطور والزيوت القادمة من الخارج.

الهوية والعطر حين تتحد الرائحة بالمكان:
دارين لم تكن مجرد محطة تجارة، بل جزء من هوية الخليج العميقة، ذلك الخليج الذي عرف معنى التبادل قبل أن يُعرف الاقتصاد الحديث. فكما أن اللؤلؤ كان جوهر البحر، كان العطر جوهر اليابسة، ورمز النقاء والتكامل بين الماء والبرّ.

ولعل أجمل ما في حكاية دارين أن العطر لا يزال يسكنها رمزًا ومعنى؛ فكل ما تبقّى من أسمائها وذكرياتها يوحي بذلك الإرث العميق الذي لا يُمحى. حين يمرّ الزائر اليوم بساحلها الصغير، ربما لا يرى المراكب التي كانت تملأ الأفق، لكنه قد يشمّ في الهواء شيئًا من رائحة الزمن القديم، رائحة دارين نفسها، التي لم تزل تعبق رغم تغيّر المرافئ وتبدّل الأزمنة.

وفي الختام:

كانت دارين بوابة العطور إلى الجزيرة العربية، نقطةً صغيرة في الجغرافيا، عظيمةً في التاريخ. منها انتشر الطيب، وعبرها وامتد خيطٌ من الروائح بين الجنوب والشمال، بين الهند ومكة، بين الإنسان والبحر.

[إن الحديث عن دارين هو في جوهره حديثٌ عن الخليج ذاته وعن تاريخٍ يعبق بالملاحم البحرية، والهوية التي تتكوّن من رائحةٍ ونسمةٍ وموجةٍ وذاكرةٍ لا تزول].

المهندس صادق علي القطري

المصادر:
المصادر العربية التراثية:
• الهمداني، الحسن بن أحمد. صفة جزيرة العرب. تحقيق محمد بن علي الأكوع. صنعاء: وزارة الإعلام والثقافة، 1989.
• الاصطخري، إبراهيم بن محمد. المسالك والممالك. بيروت: دار صادر، 1987.
• المقدسي (البشاري)، محمد بن أحمد. أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم. القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 1991.
• ابن خرداذبه، عبيد الله بن عبد الله. المسالك والممالك. بيروت: دار صادر، 1986.
• ياقوت الحموي، شهاب الدين. معجم البلدان. بيروت: دار صادر، 1977.
• ابن المجاور، يوسف بن يعقوب. تاريخ المستبصر. بيروت: دار مكتبة الحياة، 1986.

الدراسات العربية الحديثة:
• الأنصاري، عبد الرحمن. تاريخ المملكة العربية السعودية قبل الإسلام. الرياض: جامعة الملك سعود، 1999.
• العثيمين، عبد الله بن صالح. الجزيرة العربية في الوثائق والنقوش اليونانية والرومانية. الرياض: جامعة الملك سعود، 1993.
• النبهاني، محمد خليفة. التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية. بيروت: دار الفكر، 1986.
• الوهبي، عبد الكريم. القطيف وتوابعها عبر التاريخ. القطيف: دار الواحة للنشر، 2005.
• هيئة التراث السعودية. تقارير المسوحات الأثرية في جزيرة تاروت ودارين (2020–2024). الرياض: وزارة الثقافة، 2024.

المراجع الأجنبية:
• Bibby, Geoffrey. Looking for Dilmun. New York: Alfred A. Knopf, 1969.
• Potts, Daniel T. The Arabian Gulf in Antiquity, Vols. I–II. Oxford: Clarendon Press, 1990.
• Strabo. Geography, Book XVI. Translated by H.C. Hamilton and W. Falconer. London: George Bell & Sons, 1903.
• Pliny the Elder. Natural History. Translated by H. Rackham. Cambridge, MA: Harvard University Press, 1938.
• Lunde, Paul, and Caroline Stone. Trade and Travel in the Red Sea and the Arabian Gulf. London: British Museum Press, 2004.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *