ومضات معرفية من كتاب: الأمل للمتشائمين [العلم المدهش في طيبة الإنسان] – ترجمة* عبدالله سلمان العوامي

إسم الكتاب: 
“الأمل للمتشائمين: العلم المدهش في طيبة الإنسان”
[Hope for Cynics: The Surprising Science of Human Goodness]

تنصّل:
هذه الترجمات لا تعبّر بالضرورة عن تأييدٍ أو معارضةٍ للأفكار والآراء الواردة في النصوص الأصلية، وإنما تهدف إلى إثراء المحتوى العربي بتقديم معارف ووجهات نظر متنوعة من مصادر متعددة، مع الحرص على نقل المعنى والسياق بدقة قدر الإمكان. وقد تتضمن هذه المواد رؤى أو معلومات لا تتوافق مع بعض القناعات الشخصية؛ غير أنّ نشرها يأتي بوصفه جسرًا للتواصل الثقافي والفكري، وفتحًا لباب النقاش الموضوعي في مجالات كالصحة والتقنية والاقتصاد وغيرها. ونأمل أن تُسهم هذه الترجمات في توسيع آفاق القارئ العربي وتعزيز الحوار البنّاء حول مختلف القضايا، مع التأكيد على حق كل قارئ في انتقاء الأفكار أو نقدها بوعيٍ واحترام.

تنويه:
كلمة (Cynics) تحمل أكثر من معنى بحسب السياق؛ ففي الفلسفة اليونانية القديمة تشير إلى الكلبيين (Cynicism)، وهم أتباع مدرسة أسسها أنتيستنيس (Antisthenes) وتبناها ديوجين السينوبي (Diogenes of Sinope)، وكانوا يرون أن الفضيلة تكمن في البساطة والابتعاد عن الترف والمجتمع المادي، أما في الاستعمال الحديث للغة الإنجليزية فهي تُطلق على أشخاص ساخرين أو متشائمين أو مشككين في النوايا الحسنة للآخرين، وخلاصة القول: إذا وردت الكلمة في سياق فلسفي قديم فهي تعني الكلبيون، أما في السياقات المعاصرة فهي تعني المشككون أو المتشائمون.

تعريف مختصر بالكتاب من شركة أمازون (Amazon):
تصيبنا السخرية بالمرض، ولكن الطبيب النفسي من جامعة (ستانفورد Stanford) الدكتور جميل زكي (Dr. Jamil Zaki) يملك العلاج – “شعاع نور للأيام المظلمة”، وذلك حسبما وصفه (آدم غرانت Adam Grant)، المؤلف الأكثر مبيعاً في قائمة نيويورك تايمز (New York Times).
في عام 1972، كان نصف الأمريكيين يعتقدون أن معظم الناس يمكن الوثوق بهم؛ وبحلول عام 2018، لم يعد يعتقد ذلك سوى الثلث فقط. أجيال مختلفة، وجنسيات مختلفة، وأديان، وأحزاب سياسية جميعها ترى أن الفضيلة الإنسانية آخذة في التلاشي. إن السخرية هي استجابة مفهومة لعالم مليء بالظلم وعدم المساواة. ولكن في كثير من الحالات، تكون في غير محلها. وتجد العشرات من الدراسات أن الناس لا يدركون مدى لطف الآخرين وكرمهم وانفتاحهم. فالتفكير الساخر يعمق المشاكل الاجتماعية: فعندما نتوقع الأسوأ في الناس، فإننا غالباً ما نستخرجه منهم.
لكننا لسنا مضطرين للبقاء عالقين في هذا الفخ الساخر. من خلال العلم ورواية القصص، يقدّم الدكتور جميل زكي السر للتغلب على السخرية: التشكيك المتفائل (Hopeful Skepticism) — التفكير النقدي في الناس ومشكلاتهم، مع احترام وتشجيع نقاط قوتهم. وبعيدًا عن السذاجة، فإن التشكيك المتفائل يمثل أسلوبًا دقيقًا لفهم الآخرين يمكنه أن يعيد التوازن إلى نظرتنا للطبيعة الإنسانية، ويساعدنا على بناء العالم الذي نطمح إليه حقًا.

مؤلف الكتاب:
الدكتور جميل زكي (Jamil Zaki) هو أستاذ مساعد في علم النفس بجامعة ستانفورد (Stanford University)، ومدير مختبر علم الأعصاب الاجتماعي (Stanford Social Neuroscience Laboratory). تمتد أبحاثه إلى عدة مجالات من أبرزها: التأثير الاجتماعي (Social Influence)، السلوك الاجتماعي الإيجابي (Pro-social Behavior)، والتعاطف (Empathy). وقد طوّر منظورًا جديدًا للتعاطف باعتباره مهارة يمكن تعلمها وصقلها، ويركز عمله على تدريب الأفراد والمجموعات والمؤسسات على ممارسته بشكل أكثر فاعلية.
حصل الدكتور جميل زكي على درجة البكالوريوس في علم الأعصاب الإدراكي (Cognitive Neuroscience) من جامعة بوسطن (Boston University)، ثم نال درجة الدكتوراه (Ph.D.) في علم النفس (Psychology) من جامعة كولومبيا (Columbia University)، قبل أن يُكمل أبحاث ما بعد الدكتوراه في مركز هارفارد لعلوم الدماغ (Harvard Center for Brain Science).
نشر الدكتور جميل زكي أكثر من مئة مقال علمي محكَّم في دوريات مرموقة، وحصل على العديد من الجوائز تقديرًا لإسهاماته البحثية والتعليمية من جمعيات علمية بارزة مثل جمعية علم الأعصاب الاجتماعي والوجداني (Society for Social and Affective Neuroscience)، وجمعية الشخصية وعلم النفس الاجتماعي (Society for Personality and Social Psychology)، وجمعية علم الأعصاب الإدراكي (Cognitive Neuroscience Society)، وجمعية علم النفس الأمريكية (American Psychological Association)، إلى جانب تكريمات من جامعة هارفارد (Harvard University) وجامعة ستانفورد (Stanford University). وفي عام 2019، نال الجائزة الرئاسية للوظيفة المبكرة للعلماء والمهندسين (Presidential Early Career Award for Scientists and Engineers – PECASE)، وهي أرفع تكريم أمريكي للعلماء في بدايات مسيرتهم المهنية.
بجانب عمله الأكاديمي، ينشط الدكتور جميل زكي في مجال التواصل العلمي العام (Science Communication)، حيث يكتب بانتظام مقالات في صحف ومجلات عالمية مرموقة مثل: (The New York Times، The Washington Post، The Atlantic، The Wall Street Journal، Harvard Business Review، وThe New Yorker). وقد أسهمت هذه المشاركات في إيصال أفكاره إلى جمهور واسع خارج الأوساط الأكاديمية. ومن أبرز مؤلفاته:
1. الحرب من أجل الإحسان: بناء التعاطف في عالم منقسم (The War for Kindness: Building Empathy in a Fractured World) (2019)، وهو كتاب يستعرض فيه علم التعاطف وأثره في ترميم العلاقات الإنسانية وبناء مجتمعات أكثر ترابطًا.
2. الأمل للمتشائمين: العلم المدهش في طيبة الإنسان Hope for Cynics: The Surprising Science of Human Goodness) (2024))، حيث يقدم فيه رؤية علمية متفائلة حول نزعة الخير الفطرية في البشر، وتحدي النظرة التشاؤمية الشائعة.

منصة الوميض** (Blinkist) قامت بتلخيص الكتاب في “أربع ومضات” معرفية ومقدمة وخلاصة نهائية، وتعتبر كل ومضة تلخيصا لفصل كامل من الكتاب وهي كالتالي:

مقدمة – اكتشف التكاليف الخفية للسخرية:
هل شعرت يوماً أن العالم يزداد سوءاً يوماً بعد يوم؟ فوسائل الإعلام اليوم تمطرنا بالأخبار المروعة والخطابات المثيرة للانقسام، ومن السهل الوقوع في فخ السخرية. ولكن ماذا لو كانت وجهة النظر هذه ليست غير دقيقة فحسب، بل إنها ذات نتائج عكسية أيضاً؟
في هذه الومضات، ستستكشف الحقيقة المفاجئة حول السخرية وتأثيرها على حياتنا. ستتعرف لماذا يُعد “الساخر الذكي” (smart cynic) أقرب إلى الأسطورة منه إلى الواقع، وكيف يمكن أن يؤدي تبني رؤية أكثر دقة للطبيعة الإنسانية إلى نجاح وسعادة أكبر.
وأثناء ذلك، ستجد بعض الاستراتيجيات العملية للتغلب على التفكير الساخر، للمساعدة في تنمية منظور أكثر توازناً وتفاؤلاً – منظور يعترف بعيوب البشرية دون تجاهل قدرتنا الكبيرة على فعل الخير.

الومضة الأولى: حكمة قديمة، ومشاكل عصرية:
في شوارع مدينة أثينا (Athens) القديمة الصاخبة، يجوب شخصية غريبة تحمل مصباحًا، تحدّق في وجوه المارة. كان اسمه ديوجينيس السينوبي (Diogenes of Sinope)، وعندما سُئل عن سلوكه الغريب، أجاب ببساطة: “أبحث عن رجل صادق”. هذا الفيلسوف الغريب الأطوار كان المؤسس غير المتوقع للفلسفة الكلبية الساخرة (Cynicism) – وهي فلسفة كانت، بشكل مفارق، تدافع عن الأمل والإمكانات الإنسانية.
لكن الكلبية الساخرة التي دعا إليها ديوجينيس (Diogenes) تكاد لا تشبه نظيرتها الحديثة. فقد كان الكلبيون القدماء (المتشككون) يؤمنون بالفضيلة المتأصلة في الإنسان، معتبرين أن الأعراف الاجتماعية هي المؤثرات المفسدة التي تحجب طبيعتنا الحقيقية. دافع الكلبيون عن الاكتفاء الذاتي، والعالمية، وحب الإنسانية. ورأوا في فلسفتهم شكلاً من أشكال الطب الاجتماعي – وهي محاولة لإخراج الناس من حالة الرضا السلبي ودفعهم نحو الأصالة.

لكن جوهر السخرية للفلسفة الكلبية المليء بالأمل تآكل، ولم يبقَ منها سوى تشكيكها في الأعراف الاجتماعية. وهكذا وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. فما نطلق عليه السخرية (Cynicism) في عصرنا هو ببساطة إيمان عميق بعيوب الإنسانية – مثل أنانيتنا، وجشعنا، وعدم أمانتنا.

ويمكن قياس انتشار المواقف الساخرة باستخدام اختبارات نفسية، مثل ذلك الذي طوّره السيد والتر كوك (Walter Cook) والسيد دونالد ميدلي (Donald Medley) في خمسينيات القرن العشرين. يتضمن استبيانهم مطالبة المشاركين بتقييم مدى إيمانهم بعبارات مثل: “معظم الناس يتسمون بالأمانة أساسًا خوفًا من انكشاف أمرهم” و ”من الأكثر أمانًا ألّا تثق بأحد”. والأفراد الذين يحصلون على درجات عالية في مثل هذه الاختبارات ينظرون إلى أفعال الآخرين من خلال عدسة الشك، وينسبون حتى السلوكيات البريئة والحميدة إلى دوافع خفية.
يكلف هذا المنظور الساخر ثمناً باهظاً. حيث تُظهر الأبحاث أن المتشائمين (الساخرين) غالباً ما يعانون من ضعف الصحة العقلية والجسدية، مع ارتفاع معدلات الإصابة بالاكتئاب، وتعاطي المخدرات، وحتى أمراض القلب والأوعية الدموية. ومن الناحية المالية، يمكن أن تكون السخرية ضارة أيضاً، حيث يكسب الأشخاص ذوو المواقف الساخرة عادةً أقل على مدار مسيرتهم المهنية مقارنةً بنظرائهم الأكثر ثقة.
كما أن العواقب المجتمعية للسخرية واضحة بشكل صارخ. فالدول ذات المستويات المنخفضة من الثقة الاجتماعية تشهد نموًا اقتصاديًا وتنمية أبطأ. ولماذا يحدث ذلك؟ لأن الثقة تعمل كمُزلِّق للتفاعلات الاجتماعية والاقتصادية، مما يقلل من تكاليف المعاملات وتشجع على الاستثمار في العلاقات والمشاريع طويلة الأجل. ولهذا تُظهر المجتمعات ذات الثقة العالية مستويات أكبر من السعادة والصحة والازدهار الاقتصادي.
تتجلّى أهمية الثقة بشكل خاص في أوقات الأزمات. ففي حالات الكوارث الطبيعية أو الطوارئ الصحية العامة، تُظهر المجتمعات ذات المستويات الأعلى من الثقة الاجتماعية مرونة أكبر وقدرة أسرع على الصمود والتعافي. وقد قدّمت جائحة كوفيد-19 (COVID-19) مثالًا صارخًا على هذه القاعدة، حيث تمكنت الدول ذات الثقة العالية عمومًا من تنظيم استجابات أكثر فاعلية وتحقيق نتائج صحية أفضل.
وبينما سعت السخرية القديمة للفلسفة الكلبية إلى إزالة الأقنعة الاجتماعية لكشف إنسانيتنا المشتركة، فإن السخرية الحديثة غالبًا ما تعمل على إقامة حواجز بين الأفراد، مما يفتت النسيج الاجتماعي الذي يتيح لنا الازدهار الجماعي. وإن إدراك هذا الاختلاف هو الخطوة الأولى نحو استعادة الإرث الفلسفي للسخرية الكلبية، وتعزيز مجتمع أكثر ثقة وتعاونًا.

الومضة الثانية – الحكيم غير الذكي:
في قاعات الاجتماعات، والفصول الدراسية، وحفلات الكوكتيل حول العالم، يختبئ افتراض مستمر: أن أذكى العقول هم الأكثر سخرية. هذا الافتراض يرى في الساخر مراقبًا حادًا في الذكاء للطبيعة البشرية، قادرًا على اختراق المجاملات الاجتماعية الظاهرة لكشف جوهر الأنانية الكامن تحتها. الثقافة الشعبية تعزز هذه الصورة النمطية، من خلال حدة الذكاء اللاذعة لشخصيات مثل الطبيب هاوس (House, M.D.) وصولاً إلى الواقعية القاسية للمحققين في أفلام الغموض والجريمة مثل قصص الـ نوير (Noir). والرسالة واضحة: أن تكون حكيمًا يعني أن تكون حذرًا. أما من يثق بسهولة فهم سذّج او حمقى.
لكن هذا الاعتقاد واسع الانتشار – الذي يُسمّى أحيانًا “وهم العبقري الساخر” (Cynical Genius Illusion) – ينهار تحت الفحص والتدقيق. فقد وجدت دراسة شملت أكثر من 200,000 مشارك في 30 دولة أن المتشائمين (الساخرين)، بعيدًا عن كونهم عمالقة فكريين، يؤدون باستمرار أداءً أقل في مقاييس القدرات المعرفية وحل المشكلات. الفجوة لافتة للنظر: ففي الاختبارات المعيارية لمهارات التحليل، والاستدلال الرياضي، والفهم اللفظي، حصل أصحاب النظرة الساخرة على درجات أقل بكثير من نظرائهم الأكثر ثقة. وربما كان الأكثر إدهاشًا أن المتشائمين (الساخرين) يتعثرون في المجالات ذاتها التي يُتوقع أن يبرعوا فيها – مثل كشف الأكاذيب والتعامل مع المواقف الاجتماعية المعقدة. وتظهر البيانات صورة واضحة: السخرية لا ترتبط بالبصيرة الثاقبة، بل بالإدراك المبتور (الضعيف).

لكن إذا لم تكن السخرية علامة على الحكمة، فلماذا يتبناها كثير من الناس؟ يكمن الجواب غالبًا في التاريخ الشخصي. فالكثير من المتشائمين (الساخرين) هم في جوهرهم مثاليون خابت آمالهم — وهم أشخاص مرّوا بصدمة، أو خيانة، أو خيبات متكررة. يمكن أن تضع التجارب المبكرة في الحياة، ولا سيما الارتباط غير الآمن في مرحلة الطفولة، الأساس لرؤية ساخرة للعالم. فعندما يتعلم الطفل أنه لا يستطيع الاعتماد على مقدمي الرعاية له، فغالبًا ما يتعمم هذا الشعور بعدم الأمان ليصبح انعدام ثقة أوسع بالبشرية.

تصبح السخرية بمثابة درع، وضربة استباقية ضد المزيد من الجروح العاطفية. ومن خلال افتراض الأسوأ في الآخرين، يأمل المتشائمون (الساخرون) أن يحموا أنفسهم من خيبة الأمل. لكن، كما ذكرنا سابقًا، فإن هذه الآلية الدفاعية تفرض ثمنًا باهظًا، إذ تقود إلى التعاسة، وانحسار المسيرة المهنية، وصعوبة بناء العلاقات.

إن الطريق للخروج من السخرية ليس من خلال التفاؤل القسري أو الثقة الساذجة، بل من خلال تنمية التشكيك، بما في ذلك التشكيك في معتقداتك الساخرة. فخلافاً للسخرية، التي تفترض وجهة نظر سلبية ثابتة للطبيعة البشرية، ينطوي التشكيك على التساؤل حول المعتقدات والبقاء منفتحاً على الأدلة الجديدة. وهذا النهج يسمح بفهم أكثر دقة وواقعية للعالم والناس فيه.
فما هي بعض الاستراتيجيات الفعّالة للتغلب على السخرية؟ إن إنشاء “قاعدة المنزل الآمن” من العلاقات الداعمة يمكن أن يوفر الأمن العاطفي اللازم لتحدي المعتقدات السلبية الراسخة. كما يقدّم العلاج السلوكي المعرفي (Cognitive Behavioral Therapy) أدوات عملية لفحص وتحديث الافتراضات الساخرة. على سبيل المثال، قد يُشجَّع شخص مقتنع بأن “الجميع يبحث عن مصلحته الخاصة” على البحث عن أمثلة على الإيثار في حياته اليومية. هذه التمارين، عند تكرارها مع مرور الوقت، يمكن أن تغيّر تدريجيًا منظور الفرد.

إن التغلب على السخرية يتعلق بالنمو العاطفي والفكري. فهو يتطلب شجاعة ليس فقط لمساءلة الآخرين، بل لأنفسنا أيضًا – بما في ذلك معتقداتنا الراسخة حول الطبيعة البشرية. ومن خلال القيام بذلك، ننفتح على فهم وإدراك أغنى وأكثر دقة للعالم – إدراك يعترف بعيوب الإنسان دون أن يغفل عن قدرتنا على فعل الخير.

الومضة الثالثة – البحث عن الأخبار الجيدة:
في عام 2009، أجرت صحيفة كندية تجربة اجتماعية لتحدي افتراضاتنا حول الطبيعة البشرية. فقد قامت صحيفة تورونتو ستار (Toronto Star) بنثر 20 محفظة في أنحاء المدينة، تحتوي كل منها على مال ومعلومات اتصال. قد يوحي التفكير التقليدي بأن معظم هذه المحافظ ستختفي، ويستولي عليها من يعثر عليها بدافع الانتهازية. لكن النتائج روت قصة مختلفة: فقد أُعيدت 16 محفظة من أصل 20 إلى “أصحابها”.
وقد أُعيد تنفيذ هذه التجربة لاحقًا على نطاق عالمي في دراسة شملت أكثر من 17,000 محفظة وُزعت عبر 40 دولة. والنتائج؟ معدلات عالية باستمرار من السلوك الصادق – فقد أُعيدت معظم المحافظ بغض النظر عن البلد، مع وصول معدلات الإعادة في بعض الدول إلى 80٪.
إذاً، لماذا نصر على الاعتقاد بالأسوأ حول إخواننا البشر؟ قد يكمن الجواب في تاريخنا التطوري. فقد تطوّر أدمغتنا بميزة تُعرف بـ الانحياز نحو السلبية (Negativity Bias) – وهو الميل إلى التركيز على المعلومات السلبية وتذكرها بسهولة أكثر من المعلومات الإيجابية. لقد خدم هذا الانحياز أسلافنا جيدًا، إذ ساعدهم على اكتشاف الغشاشين وتجنب التهديدات. ولكن في عالمنا الحديث، غالباً ما تتسبب هذه الآلية في المبالغة في تقدير مدى انتشار عدم الأمانة والخبث من حولنا.

يتم تضخيم هذا التصور المشوه من قبل وسائل الإعلام. فالمنافذ الإخبارية، المدفوعة باقتصاديات الاهتمام (attention economy)، تعطي الأولوية للقصص السلبية التي تجذب انتباهنا وتحفز انحيازنا السلبي الفطري. وتصرخ العناوين الرئيسية بـ “موجات الجريمة” و”الفساد” و”التدهور الاجتماعي”، في حين أن القصص التي لا تُحصى عن اللطف والتعاون اليومي نادراً ما تصل إلى الصفحة الأولى. وهذا السيل المستمر من السلبية يشكل إحساسنا بالعالم، مما يدفع الكثيرين إلى الاستنتاج بأن العالم يزداد سوءاً، على الرغم من وجود أدلة قوية على عكس ذلك.

إن الفجوة بين الإدراك (التصور) والواقع صارخة. فعلى سبيل المثال، بين عامي 1989 و2020، كانت الغالبية العظمى من الأمريكيين تعتقد باستمرار أن معدلات الجريمة تزداد عامًا بعد عام. لكن إحصاءات مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) تُظهر أن معدلات الجرائم العنيفة قد انخفضت بنسبة تقارب 50٪ خلال هذه الفترة. وبالمثل، في حين يعتقد كثيرون أن التماسك الاجتماعي والإيثار في تراجع، كشف تقرير السعادة العالمي (World Happiness Report) أن معدلات التطوع، والتبرعات الخيرية، ومساعدة الغرباء قد ارتفعت بشكل ملحوظ خلال جائحة كوفيد-19 (COVID-19).

لمواجهة هذا المد من السلبية، يبرز نهج جديد في الصحافة يُعرف باسم الصحافة القائمة على الحلول (Solutions Journalism). يركّز هذا الأسلوب على تغطية الاستجابات الناجحة للمشكلات الاجتماعية، وتقديم أمثلة ملموسة على التغيير الإيجابي ودور الإنسان في صناعته. فعلى سبيل المثال، سلّط عمود (Fixes) في صحيفة نيويورك تايمز (New York Times) الضوء على مبادرات مثل نساء يتغلبن على العودة الى الجريمة عبر العمل الجاد ((WORTH) Women Overcoming Recidivism Through Hard Work)، وهو برنامج في سجون مدينة (كونيتيكت Connecticut) حيث تقوم السجينات الأكبر سنًا بتوجيه الأصغر سنًا لمساعدتهن في التغلب على الصدمات والإدمان. إن القصص التي تركز على الصحافة القائمة على الحلول لا تهدف فقط إلى الإعلام، بل أيضًا إلى الإلهام، إذ تُظهر للقراء أن التغيير الإيجابي ممكن وتقدّم نماذج عملية قابلة للتطبيق.

وبصفتنا مستهلكين للمعلومات، يمكننا اتخاذ خطوات لتنمية منظور أكثر توازنًا. علينا أن ندرك وجود الانحياز الفطري نحو السلبية (Negativity Bias) في الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي، وأن نكرّس بعض الجهد للبحث الواعي عن وجهات نظر بديلة تساعدنا على مقاومة الانجراف نحو السخرية.

الومضة الرابعة – الهروب من غرفة الصدى:
في عام 1983، كانت الاتحاد السوفيتي (Soviet Union) على حافة شن ضربة نووية ضد الولايات المتحدة الأمريكية (United States)، والسبب؟ سوء فهم كارثي نتج عن البارانويا (جنون الارتياب) ومعلومات استخباراتية مغلوطة. فقد أطلق مدير جهاز الاستخبارات الروسي الـ (KGB) آنذاك، يوري أندروبوف (Yuri Andropov)، عملية ريان (Operation RYaN)، وهي أضخم عملية استخباراتية سوفيتية خلال الحرب الباردة، وكُلِّف العملاء بالبحث عن أي أدلة على هجوم نووي وشيك من الولايات المتحدة. فقاموا بفحص تفاصيل عادية مثل مدى ازدحام مواقف وزارة الدفاع الامريكية البنتاغون (Pentagon) أو زيادة التبرع بالدم في المستشفيات الأمريكية. لقد كادت هذه اليقظة المفرطة، المدفوعة بسوء الإدراك وتغذيها المفاهيم الخاطئة والخوف، أن تغرق العالم في كارثة نووية.

اليوم، نحن نواجه شكلًا مختلفًا – لكنه لا يقل خطورة – من سوء الفهم: وهو اتساع الهوة بين الفصائل السياسية في المجتمعات الديمقراطية. فقد بلغ الاستقطاب السياسي مستويات مقلقة، حيث بات المواطنون ينظرون بشكل متزايد إلى خصومهم السياسيين ليس فقط كمخطئين، بل كأشخاص منحطين أخلاقيًا. في الولايات المتحدة الامريكية، أدى هذا الانقسام إلى فرز جغرافي، حيث ينتقل الناس للعيش في مناطق يهيمن عليها من يشاركونهم التوجهات – الديمقراطيون (Democrats) في المناطق الحضرية، والجمهوريون (Republicans) في المناطق الريفية. ونتيجة لذلك، تنتج غرف الصدى (Echo Chambers) التي تضخّم المعتقدات الموجودة أصلًا وتزيد من تفاقم المفاهيم الخاطئة وحدة سوء الفهم تجاه الطرف الآخر.

يُبالغ الأمريكيون باستمرار في تقدير مدى تطرف خصومهم السياسيين. على سبيل المثال، قد يعتقد الديمقراطيون (Democrats) أن غالبية كبيرة من الجمهوريين (Republicans) يعارضون أي شكل من أشكال ضبط السلاح، في حين قد يعتقد الجمهوريون (Republicans) أن معظم الديمقراطيين (Democrats) يدعمون فتح الحدود بالكامل. ويُبالغ كلا الجانبين بشكل كبير في تقدير مدى كراهية الطرف الآخر له، ومدى دعمه للتطرف السياسي والعنف.

وتسهم وسائل التواصل الاجتماعي في تكريس هذه المفاهيم الخاطئة. فقد برز ما يُعرف بـ “رواد الصراع” (Conflict Entrepreneurs) – وهم أفراد يحققون مكاسب من إذكاء الانقسام الاجتماعي. يستخدم هؤلاء استراتيجيات في المحتوى مثل “الانتقاء المتعمد” (Nut Picking)، حيث يتم اختيار تصريحات متطرفة بعناية وتقديمها باعتبارها تمثل المجموعة المعارضة بأكملها. فقد يُعرض عضو ميليشيا هامشي ومتطرف على أنه النموذج المعتاد للمحافظين، بينما يُقدَّم متظاهر عنيف كأنه النموذج المعتاد للتقدميين.

تشير الأبحاث إلى عدة استراتيجيات للحد من الاستقطاب. فيمكن أن يساعد توفير معلومات دقيقة حول الخصوم السياسيين في تصحيح المفاهيم الخاطئة. ففي (كولومبيا Colombia)، على سبيل المثال، أحدثت التغطية الإعلامية التي أبرزت البعد الإنساني للمقاتلين السابقين في جماعات العصابات المسلحة تحولًا ملحوظًا في مواقف الجمهور تجاه السلام والمصالحة. كما أن المحادثات المباشرة بين الخصوم السياسيين، عند إجرائها بشكل صحيح، يمكن أن تقلل بشكل كبير من العداء وتجريد الخصم من إنسانيته.

وإليك بعض الإرشادات لجعل هذه المحادثات أكثر إنتاجية:
1. أعطِ الأولوية للأسئلة بدلًا من التصريحات. فعلى سبيل المثال، بدلًا من أن تقول: “سياسات حزبك ستدمر الاقتصاد”، يمكنك أن تسأل: “ما رأيك في التأثيرات الاقتصادية لهذه السياسات؟”.
2. اسعَ لفهم القصص الكامنة وراء آراء الناس. فموقف شخص ما من الهجرة، مثلًا، قد يتأثر بتجاربه الشخصية أو بتاريخه العائلي.
3. ابحث عن أرضية مشتركة واعترف بها. فقد يتفق الطرفان على الحاجة إلى أمن الحدود، حتى لو اختلفا في الأساليب المحددة.
4. اعترف بعدم اليقين بدلًا من إظهار ثقة زائفة. فالإقرار بعبارة مثل: “لست متأكدًا من الإحصاءات الدقيقة حول هذه المسألة” يمكن أن يفتح الباب أمام نقاش أكثر صدقًا وعمقًا لدى كلا الطرفين.
ومن خلال تبني هذه الاستراتيجيات والتعامل مع الخطاب السياسي بتعاطف وفضول، يمكننا أن نبدأ في ردم الهوة التي تهدد نسيج مجتمعاتنا الديمقراطية.

خلاصة نهائية
الخلاصة الرئيسية لهذا الومضات هي أن السخرية، على الرغم من أنها غالباً ما تُفهم على أنها حكمة، إلا أنها ضارة لرفاهيتنا.

وعلى عكس ما يتوقعه الكثيرون، فإن الصدق والتعاون منتشران بالفعل على نطاق واسع في المجتمع اليوم. وبخلاف الصور النمطية الشائعة، فإن الساخرين (المتشائمين) ليسوا حكماء، بل في الواقع، فإن أداءهم أسوأ بشكل ملحوظ في المهام المعرفية والقرارات الاجتماعية.

ومن خلال تنمية التشكيك المتفائل (Hopeful Skepticism) بدلًا من السخرية، والانخراط في حوار قائم على التعاطف، يمكننا تعزيز مجتمع أكثر ثقة وتعاونًا. التغلب على السخرية هو مسألة نمو عاطفي وفكري — وهو مسار يقود إلى فهم أعمق وأكثر دقة للطبيعة البشرية.

*تمت الترجمة بتصرف.

**المصدر: منصة الوميض (Blinkist) وهي منصة تقوم بتلخيص الكتب ، ومكتبتها تحتوي على آلاف الكتب ويشترك في هذه المنصة الملايين من القراء.

الأستاذ عبدالله سلمان العوامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *