[عيشته عيشة السنانير]
هذا مثل قطيفي دارج، طواه النسيان أو كاد، ولم يعد يُستخدم كثيرًا في وقتنا هذا، ربما لأنه لم يعد ذا صلة بالأجيال المعاصرة، إذ لم تعد للسنانير أهمية تُذكر في البيوت كما كان الحال سابقًا، حين لم يكن عنها غنى لمكافحة الجرذان والفئران والحشرات الزاحفة.
في تلك الأيام، كانت السنانير جزءًا من الحياة اليومية. كل بيت في القطيف، تقريبًا بلا استثناء، كان يربي سنورًا أو أكثر، تتوالد فيها السلالات، ويُعتنى بها بحب ورضا. أما السنانير السائبة فكانت تُعرف بـ”سنانير المعالف”. والمعلف في اللهجة القطيفية هو مكان تجميع “الخمّام”، أي القمامة المنزلية، وكان يُعرف أيضًا باسم “المطاعم” لأنها تطعم الحيوانات السائبة، ومنها السنانير.
في ضوء ذلك، يبدو أن المثل “عيشته عيشة السنانير” جاء تشبيهًا للسنانير السائبة، الأقل حظًا من سنانير البيوت، والتي هي الأخرى ، رغم عيشها في البيوت مع متبنيها من البشر، لا تنال إلا مخلفات السمك وعظامه، وفضلات ما بقي من وجبات ذاك الزمان.
أما اليوم، فقد تغيّرت الأحوال؛ لم تعد السنانير جزءًا من النظام البيتي الوظيفي، بل أصبحت تُربّى للونس والتسلية، وخاصة للأطفال. تُدلَّل، وتُقدَّم لها أطعمة خاصة، وتُعامل برقة… لكن، تبقى السنانير سِنانير. ما إن تشيخ أو تمرض حتى يُستغنى عنها. وهذا ما يجعل المثل أكثر مصداقية.
ورغم أن السنور شديد التعلق بمأواه، إلا أنه كثيرًا ما يُتَّهَم بنكران الجميل. يقال: “سنور يأكل ويشمخ” و“سنور ما فيه خير”، في إشارة إلى أنه، وإن أُطعِم، يبقى مشاكسًا، ناكرًا للجميل. وربما لا غرابة في ذلك، فهو من فصيلة السنوريّات (Felidae)، وهي فصيلة حيوانية تضم القطط الكبيرة والصغيرة، كالأسود، والنمور، والفهود، واليغاور، وحتى السنور العربي.
وتتميّز السنوريات بصفات مشتركة، فكلها لاحمة، صيّادة، ذات حواس حادة، بعيون ترى في الظلام، ومخالب قابلة للانكماش (عدا الفهد الصياد)، وهي تصدر أصواتًا متعددة: مواء، وزئير، وخرخرة، تختلف بحسب النوع والموقف.
وللقطط مسميات محلية مختلفة في البلدان العربية:
في الخليج تُسمى قطوة أو قطو،
وفي اليمن بزة،
وفي العراق بزونة أو بزون،
وفي الشام بسة أو بسّ،
وفي مصر قطة أو قط، وأحيانًا بسّة أو نمورة،
وفي السودان بسّة أو قطة،
وفي المغرب العربي مشّ أو قطّوس، حسب البلد.
وفي القصة التالية التي أعادت إلى ذهني هذا المثل، ستستخدم كلمة “سنانير”، لأنها الأنسب في السياق القطيفي، ولأنها ما زالت تحمل رنينًا محليًا لم تذِبه اللهجات المتداخلة أو الثقافة المدرسية، ربما لسهولة نطقه.
في إحدى ليالي يونيو القائظة، حين تخفّ حدة الحر قليلًا بعد غروب الشمس، كنت أسير على كورنيش الخامسة. أتنفس شيئًا من هواء البحر، يحمل نسمات خفيفة تكاد تُنسيك وهج النهار وثقل القيظ.
فجأة، لحقتني سنورة صغيرة — بزونة كما يسميها أهل العراق — تموء بصوت رقيق حزين، ممتد لا ينقطع.
وذكرتني بالسنانير التي كانت جزءًا من حياتنا، نعتني بها ونعطف عليها، فنألفها وتألفنا، فهي حيوانات – كما سُميت – أليفة، يمكن، رغم طبيعتها الفطرية المتمردة، كسب مودتها.
تسمّرت عيناي فيها، وحلّق فكري مع موائها ليستحضر ما يدور في خلدي عن السنانير ويسترجع ذكرياتها.
ذكّرتني هذه البزونة الصغيرة بالأيام البسيطة الجميلة، وتذكرت المثل الشعبي المنتمي جذوره إلى البيئة.
رَقَّ قلبي لها. تمنيت لو أن في يدي طعامًا أقدّمه، أو حتى لمسة حنان تُسكن بها رجفتها. ربما كانت جائعة… أو لعلها تائهة، أضاعت أمّها، وتبحث في وجوه العابرين عن دفءٍ ما.
مضت تلاصق خطوات المارّة، تموء دون كلل، وتستعطف بلا ضجيج. لم يعتدِ عليها أحد، وهذا عزاء… ففي طفولتنا، كنا نرى بين بعض الأشقياء من يتلذذون بإيذاء السنانير: هذا يصطادها بمقلاعه، وذاك يرشقها بالحجارة، وآخر يضربها بعصا. كانت أفعالهم نادرة، لكنها موجودة، كافية لأن تؤلم القلب. وما مصائب الدنيا إلا من شواذ النفوس وقساة الطباع… أولئك الذين لا يرحمون ضعيفًا، ولا يرأفون بمن لا صوت له.
وبين ومضات هذا التأمل، عاد إلى ذهني المثل القديم الذي يُقال في وصف من ضاقت به السبل؛ لا فقط في المال، بل في العطف، والإنصاف، والكرامة. من لا بيت يأويه، ولا قلب يحتضنه، ولا يد تمتد إليه بغير قسوة أو تجاهل.
تلك السنورة الصغيرة التي لحقتني تلك الليلة، لم تكن سوى ظلٍّ آخر من ظلال أولئك الناس… تمشي، وتموء، وتنتظر، لتعيد فينا صدى مثلنا المنسي: “عيشته عيشة السنانير”.
