حين تتوقف الحياة… ولا يتوقف الأثر – بقلم صادق علي القطري

إلى كل من يتساءل: هل يذهب كل شيء بموت الإنسان؟ أم أن للأثر حياة أخرى تبدأ حيث تنتهي الأنفاس؟ ففي عالمٍ يحكمه الفناء، ويمضي فيه الإنسان من لحظة الميلاد إلى الغياب المحتوم، يظل سؤال البقاء يتردّد في القلوب: هل ينتهي كل شيء حين تتوقف الأنفاس؟ جاء الجواب النبوي حاسمًا، شافيًا، يعيد ترتيب المفاهيم ويمنح للزمن بعدًا آخر:

“إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له”

هذا الحديث النبوي الشريف، برغم قصره، يحمل في طيّاته خلاصة فلسفة الإسلام في العمل والجزاء والأثر، ويجعل من حياة الإنسان ممتدة إلى ما بعد القبر، ما دام قد غرس في دنياه ما يبقى بعده.

الصدقة الجارية هي النهر الذي لا ينضب
الصدقة الجارية هي العطاء الذي لا ينتهي بانتهاء العطاء الأول، بل يستمر في نفعه، كل يوم، وكل ساعة. هي ليست فقط المال الذي يُنفق، بل تشمل بناء مسجد، حفر بئر، غرس شجرة، طباعة مصحف، أو إنشاء مستشفى ومدرسة تخدم الناس. إنها أثر ملموس في حياة الآخرين، يربط بين قلب المعطي وقلب المنتفع حتى بعد غياب الأول تحت الثرى. كل قطرة ماء تروي ظمأ إنسان، كل سجدة في مسجدٍ بنيته، كل حرفٍ يُقرأ في مصحف طبعته، لك فيها أجر يتجدد. وفي الصدقة الجارية دعوة للتفكير في نوعية العطاء: هل هو مؤقت؟ أم ممتد؟ وهل نُعِدّ لحياتنا الآخرة من الآن، عبر مشروعٍ يبقى؟ فالسؤال ليس: “ماذا سأترك بعد موتي؟” بل: “ماذا سيبقى لي بعد موتي؟”

علم يُنتفع به وهو النور الذي لا ينطفئ
العلم في الإسلام ليس رفاهية معرفية، بل عبادة وقربى. وأفضل ما يورّثه الإنسان بعد رحيله هو علم نافع: كتاب ألّفه، درس علّمه، فكرة بثّها في طلابه، توجيه ألهم به عقلًا، أو حتى إجابة في مجلس علم فتحت أبوابًا لغيره. العلم النافع هو ذلك الذي يُغيّر القلوب ويضيء العقول، ويصلح به الناس دنياهم وآخرتهم. وليس المقصود هنا فقط علماء الشريعة، بل كل من نقل علمًا نافعًا في أي مجال يخدم الإنسانية، بشرط أن يكون في طاعة الله وضمن دائرة الخير. والعجب أن الأجر لا يتوقف: فكل من تعلم شيئًا منك، ثم علّمه لغيره، يتضاعف أجرك. فالعلم يشبه الشمعة التي توقد آلاف الشموع دون أن تنقص نورها، بل يتسع النور ويتسع الأجر.

ولد صالح يدعو له وهو الدعاء الذي يعبر الزمان
الولد الصالح هو امتداد روحي وعملي للوالد، ثمرة غرسٍ تربويٍ حسن، وسيرة عطرة. ليس كل ولد صالح، وليس كل دعاء مقبول؛ بل هو الذي يجمع بين الصلاح والإخلاص. في لحظةٍ لا تملك فيها لنفسك دعاء، ولا تسبيحًا، ولا استغفارًا، قد يرفع ابنك أو ابنتك يديه إلى السماء في هدأة الليل ويقول: “اللهم اغفر لوالدي وارحمهما كما ربياني صغيرًا.” فتُفتح لك أبواب الرحمة، وتُكتب لك مغفرة، لا بعملك، بل بثمرة تربيتك. وهذا ليس دعوة للاعتماد على الأبناء بعد الموت، بل للحثّ على أن نربيهم ليكونوا صالحين، داعين، قائمين بالبرّ، لأن صلاحهم دليل على إخلاصنا في التربية وسلامة ما تركناه خلفنا.

الحياة الثانية تبدأ بعد الموت
في هذا الحديث الشريف، لا يكتفي النبي ﷺ بالإخبار، بل يربّي ويخطط للمستقبل: أعدّ لحياتك بعد موتك. فكّر بما سيبقى لك حين تُطوى صحيفتك. ابنِ مشروع صدقة، علّم غيرك، ربِّ أبناءك على الخير. فالموت ليس النهاية، بل بداية لحياة جديدة تُدار بعملك السابق. الناس تموت، لكن بعضهم يبقى حيًّا بأثره، بأجره المتجدد، بصوته في ضمائر من أفادهم، بدموع ابنٍ دعا له بعد فجر، أو بنبع ماء يشرب منه عابر سبيل لا يعرف اسمه.

ختامًا: لا تؤجل أثرك
لو عرفت أن أجلك غدًا، فما الذي كنت ستتمنى أنك بدأته منذ الأمس؟ ابدأ اليوم. اكتب علمًا، علّم فكرة، أنفق مما تحب، اغرس نبتة، واصنع أثرًا، فربّ عملٍ صغير تُبقيه نية صادقة ليكون صدقة جارية، أو علمًا خالدًا، أو دعاءً لا ينقطع. لعل ما تبنيه اليوم يكون نجاتك غدًا.

المهندس صادق علي القطري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *