من الناحية الاجتماعية ثمة شعوبا وأمما ، لديها القدرة النفسية والعملية لاغتنام فرصة أعيادها ومناسباتها الاجتماعية والوطنية والعائلية للتعبير عن فرحهم وإدخال السرور إلى نفوسهم ومحيطهم الاجتماعي ..
فهم يستعدون لمناسباتهم ، ويخططون إليها ، ويتعاملون مع مواسم أفراحهم بوصفها مواسم تستحق الاهتمام والعناية .. فالفرح في منظور هذه الأمم والمجتمعات ، ليس حالة ترفيه ، يمكن الاستغناء عنها ، وإنما هي من ضروراتهم الاجتماعية والحياتية ، التي تساعدهم على إدامة البهجة في حياتهم ، وطرد كل المنغصات التي تحول دون استثمار لحظات فرحهم سواء كانت خاصة أو عامة ..
وفي مقابل هذه المجتمعات ، هناك مجتمعات أخرى ، يهربون من مناسباتهم الاجتماعية الحلوة ، ويحبسون أنفسهم في ظل تقاليد وأعراف تحول دون التعبير عن أفراحهم ..
لذلك فإن مناسبات الفرح لديهم ، تمر دون تخطيط أو اهتمام نوعي بها .. لذلك هذه المجتمعات من الناحية الواقعية يخجلون من أفراحهم ، وإذا عبروا عن أفراحهم يقيدونها بألف قيد ، تجعل مواسم الأفراح لديهم قليلة وضيقة ومليئة بالاعتبارات ..
ويبدو من واقع حياتنا الاجتماعية إننا من مجتمعات النوع الثاني ، الذي لا يحسن التعبير عن أفراحه ، ولا يخطط لها ، ولا يعمل من أجل اغتنام هذه الفرصة ..
لهذا فإن هذه المناسبات تمر في مجتمعاتنا دون أن تترك بصمة حقيقية في نفوسنا ومحيطنا .. بل قد تمر علينا مناسبات الفرح ، ونحن نعمل على صياغة خطاب ثقافي وإعلامي ، يقلل من اندفاع الناس للتعبير عن فرحتهم .. وصغنا رؤانا الاجتماعية ، وكأن هناك علاقة طردية بين الفرح والتعبير عنه ، وممارسة اللهو وارتكاب المنكرات والموبقات .. لهذا فإن الجميع يشعر بالحرج والخوف من التعبير عن أفراحهم . وكأن الفرح والتعبير عنه فرديا وجماعيا ، مما يناقض قيم الالتزام والرجولة واحترام الإنسان لنفسه وتقاليده ..
لهذا الاعتبارات والدواعي ، أشعر بأهمية أن نتعلم كيف نفرح ، ونهيئ أوضاعنا الاجتماعية للاستفادة من لحظات الفرح والسرور سواء كانت خاصة أو عامة .. وفي سياق ضرورة أن نتعلم كيف نفرح أود بيان النقاط التالية:
- ضرورة فك الارتباط بين مفهوم التعبير عن الفرح بالترفيه والسرور وما أشبه ذلك وبين الوقوع في المنكرات والموبقات ..
فبإمكاننا أن نعبر عن أفراحنا وسرورنا بكل مناسباتنا الخاصة والعامة ، دون أن نقع في محذور ارتكاب المحرمات والموبقات. وإن هذا الخوف أو الهاجس ، لا يعالج بمنع الناس من التعبير عن أفراحهم عبر برامج ومبادرات عامة ، تستهدف إشاعة جو الفرح في البيئة الاجتماعية .. وإنما يعالج عبر وجود أنظمة وقوانين تحول دون الوقوع في المعصية ..
وما أحوج مجتمعنا اليوم ، للتعبير عن أفراحه وأعياده ، وتحويلها إلى مواسم للتربية على الفرح والبهجة .. فالحزن ليس صنوا للتدين ، وبإمكاننا أن نحافظ على ديننا وقيمنا ، ونحن نفرح ونبتهج ونعبر عن ذلك اجتماعيا في مواسم الفرح والبهجة ..
- يبدو أن تراجع منسوب الفرح والابتهاج في أي مجتمع من المجتمعات ، يفضي إلى بروز قيم الخشونة والجفاف والتعبير المتهور أو غير اللائق في موسم الأفراح والأعياد .. فالفرح والتعبير عنه ضرورة من ضرورات النفس ، وبدونه يصاب الإنسان فردا ومجتمعا بالأمراض والاحتقانات وتعميم مظاهر الحزن والكآبة ..
فالدين والالتزام بقيمه ، ليس ضد الدنيا ومباهجها ، بل هو ضد الدنيا التي تنسي الآخرة وقيم الخير ..
فالدنيا في نظر الدين هي مزرعة الآخرة ، وما أحلى الدين والدنيا إذا اجتمعا .. فالإنسان يؤدي واجباته الدينية ، ويلتزم بكل مقتضيات مبادئ دينه وقيمه ، ويعيش دنياه وحياته كما يعيش بقية الناس ..
وليس من الدين في شيء ، أن يحزن الإنسان في لحظات الفرح ، أو يفرح ويبتهج في لحظات الحزن ..
- من الضروري في سياق أن نتعلم جميعا كبارا وصغارا كيف نفرح ، أن نبرز ونظهر التراث الإسلامي الذي يعكس هذه القيمة ويدعو إليها وفق محدداتها الدينية والاجتماعية ..
فالتراث الإسلامي مليء بالتوجيهات التي تحث على التعبير عن الفرح في مواسم الفرح الخاصة والعامة ، ومن الأهمية في سياق التربية على الفرح ، أن نظهر هذا التراث ، حتى يساهم في كسر القيود النفسية والذهنية التي تحول دون التعبير عن الفرح في مناسباته ومواسمه ولحظاته ..
وفي سياق تشجيعنا لأهمية أن نتعلم كيف نفرح ، ندرك أهمية أن نعبر عن مواسم أفراحنا ، دون التعدي على مقتضيات الالتزام الديني .. فنحن مع إظهار الفرح ، دون التعدي على قيم الدين ، ونحن مع إبراز البهجة دون خدش الحياء أو الأخلاق العامة .. لهذه الاعتبارات ووفق الرؤية المذكورة أعلاه ، تعالوا نكسر القيود الوهمية التي تحول دون التعبير عن أفراحنا ، وتعالوا من منطلق ضرورة الفرح للصحة النفسية والاجتماعية نعبر عن أفراحنا مجتمعيا ووطنيا ..
فالدين ليس ضد الفرح ، والبهجة ليست مناقضة للوقار ، والتعبير عن سرورنا ومباهجنا وأعيادنا ، ليس سبيلا لنسيان الآخرة ..
وإنما نحن بحاجة أن ندير لحظات زماننا ، إدارة سليمة وواعية .. نحزن دون أن نجزع حين نفقد عزيز ، ونفرح في مواسم الفرح ، ونبتهج في لحظات البهجة ، دون أن يسقطنا هذا الفرح أو تلك البهجة في مربع المعصية ..
فتعالوا جميعا من هذا المنطلق نجعل نصب أعيننا دائما المأثور القائل ( فو الذي وسع سمعه الأصوات ، ما من أحد أودع قلبا سرورا إلا وخلق الله له من ذلك السرور لطفا ، فإذا نزلت به نائبة جرى إليه كالماء في انحداره حتى يردها عنه ، كما تطرد غريبة الأبل ) ..
*الأستاذ محمد جاسم المحفوظ – مفكر وكاتب في الإنسانيات له العديد من المؤلفات والدراسات.