الثقافة العربية بين الخصوصية والعالمية – الأستاذ محمد المحفوظ*

باديء ذي بدء ينبغي القول أن كل الثقافات الوطنية والقومية , تسعى جاهدة وتطمح أن تكون ثقافة عالمية – إنسانية. لأنها تتضمن بشكل أو باخر مشروعا ونزعة ترى في ذاتها وقيمها , أنها الجديرة بالتمكن والريادة على مستوى الكرة الأرضية. لهذا تتصارع الثقافات , وتتنافس من أجل أن تتبوأ موقعا أفضل في الخريطة الثقافية العالمية.

وإجمالا في هذه المسألة نقول: إن الثقافة المحلية (الوطنية) الحية , التي تنظر إلى الكائن البشري كإنسان , وتخاطبه كنموذج للإنسانية جمعاء , وتجتهد في علاج مشكلاته , وبلورة تطلعاته. إن هذه الثقافة تستطيع أن تتجاوز حاجز المحلة والإقليمية والقومية لتدخل عالم العالمية. لهذا بإمكاننا أن نقرر أن شرط العالمية هو في التحديد الواقعي والسليم / (كيف تنظر الثقافة (أي ثقافة) إلى المجتمعات البشرية الأخرى وثقافتها).

المصدر: openglobalrights.org

إن الثقافة المنفتحة والمتسامحة , هي التي تكون مصدر تكوين كل إجتماع بشري. والثقافة الاستعلائية والعنصرية , والتي تؤمن بمحليتها حد الإنغلاق والإنطواء هي التي تبقى أسيرة هذه الحواجز والأطر. فالثقافة التي لا تضمر للإنسان كنوع أي شر وأي حقد , هي التي تنطلق من مفهوم الخصوصية إلى العالمية.

فمضمون الثقافة الجوهري هو الذي يحدد هل الثقافة مؤهلة أن تصبح ثقافة حضارة وثقافة عالمية أم لا. وتنجح الثقافة إذا كان مضمونها إنسانيا من توسيع رقعتها الجغرافية , وتؤسس لنفسها (هذه الثقافة) الإمكانات الذاتية , لإستيعات وهضم الخبرات والتراث الإنساني العلمي والتقني.

فالانفتاح على المغاير الثقافي والحضاري , مسألة أساسية للإنطلاق بالثقافة الذاتية إلى رحاب العالمية. ونستطيع القول في هذا الصدد: أنه كلما كانت مفاهيم الثقافة مفاهيما وقيما إنسانية , اقتربت من رتبة العالمية والإنسانية , وإن إنسانية الثقافة وإنفتاحها وتسامحها , هو الذي يتيح للأطراف الثقافية الأخرى , إستيعاب العلم وإخصابه من جديد في البيئة الجديدة.

ولهذا نجد أن الثقافة الأوروبية , حينما كانت تعتمد على النصية الحرفية , وهيمنة الكنيسة على كل شيء , لم تكن ثقافة ذات طابع عالمي – إنساني. وبدأت الثقافة الغربية تأخذ طابعها العالمي والكوني , حينما أنهت من بنائها النظري , حالة الإنطواء ومحاربة الاراء المختلفة.

وتجسدت هذه المعضلة في التاريخ الأوربي في صراع الدين والعلم. إذ يقول (أميل بوترو): “إن أمر العلاقات بين الدين والعلم , حين يراقب في ثنايا التاريخ , يثير أشد العجب , فإنه على الرغم من جهود أعاظم المفكرين التي بذلوها ملحين في حل هذه المشكل حلا عقليا , لم يبرح العلم والدين قائمين على قدم الكفاح , ولم ينقطع بينهما صراع يريد كل منهما أن يدمر صاحبه لا أن يغلب فحسب .. على أن هذه النظامين لا يزالان قائمين ولم يكن مجدا أن تحاول العقائد الدينية تسخير العلم , فقد تحرر العلم من هذا الرقو وكأنما إنعكست الاية من ذاك , وأخذ العلم ينذر بفناء الأديان ظلت راسخة وشهد بما فيها من قوة الحياة وعنف الصراع” ..

إن هذا النص يعكس ويجسد أزمة الصراع , التي كانت سائدة في الفكر الأوروبي بين النسقين الفكريين: العلمي والديني. التي إنتهت بإقصاء النسق الديني عن مجال الحياة والمجتمع. وتبقى عقلية التمركز الذاتي الأوربي , واعتبار مرجعيات الفكر الأوربي كمتعاليات تسبق تفكيره للاخر , والعجز عن فهم التغير والتنوع على مستوى الحضارات , هو أحد الأسباب الرئيسية التي تمنع من أن تصبح الثقافة الغربية ثقافة علامية – كونية.

لأن هذه المركزية الشديدة للفكر الأوروبي , تؤسس طموحا داخل النسق الثقافي والسياسي الغربي تتجه نحو التفرد والتعالي. وإعتبار إبداعات هذا الفكر هي النهائية , التي ينبغي أن يقبل بها الجميع. وما نظرية (فوكوياما) المسماة ب نهاية التاريخ إلا نموذجا على المفهوم الواجدي للحضارة والثقافة الذي يتبناه الفكر الأوروبي .. ويشير إلى هذه المسألة الكاتب (مطاع صفدي) بقوله: “لقد كان هجوم المشروع الثقافي الغربي , بأدوات التقنية على العالم يهدف أولا إلى تدمير كلي من ناحية لبنى الخصائص القومية من حيث هي الحوامل التاريخية للمشاريع الثقافية المختلفة.

ومن ناحية ثانية كان هدف هذا الهجوم إعاقة أية جدلية سليمة تساعد الأمم على استعادة حيوية المشروع الثقافي الخاص. الذي يثبت حضوره بإمكانياته الذاتية , مضيفا من قوته إلى قوى التغيير المختلفة الناشطة داخل المشروع الثقافي العالمي للإنسان …

ولقد حاول المفكر الغربي (لفي شتراوس) دحض هذا المفهوم الواحدي للحضارة والثقافة بقوله: أشرنا إلى أن كل مجتمع يمكنه من خلال وجهة نظره الخاصة تصنيف الثقافات إلى ثلاثة أنواع هي الثقافة المعاصرة له , ولكن الموجودة في مكان اخر من الكرة الأرضية , والثقافة التي ظهرت في المكان نفسه تقريبا ولكنها كانت سابقة في الزمان , وأخيرا الثقافات التي وجدت على السواء في زمان سابق , وفي مكان مختلف عن مكان وجوده.

فالثقافة الغربية بتمركزها الذاتي , ونفيها للمغايرة والتنوع ساهمت وتساهم بشكل مباشرة في إغتيال الكثير من الخيارات الحضارية الصالحة للإنسان حاضرا ومستقبلا. وتأسيا على هذا كله نقول: إن عالمية الثقافة , لا تتحقق عن طريق محاربة الثقافات الأخرى , وإنما عن طريق إحترامها والتسامح معها , والتفاعل مع أنساقها المعددة.
والثقافة العربية بمضمونها وجوهرها الإنساني , بإمكانها أن تصبح ثقافة عالمية إنسانية إذا توفرت الأمور التالية:

1- الوعي بالذات:

بمعنى أن طريق العالمية لأية ثقافة أو منظومة معرفية , لا يمر عبر تجاوز الذات بما تشكل من رموز وقيم وتاريخ … وإنما العالمية تأتي عن طريق الوعي بالذات ودورها في صقل المواهب , وتعبئة الطاقات في تجاه عالمية الثقافة

والوعي بالذات ليس مسألة هلامية أو فضفاضة وإنما يعني:
أ‌- المزيد من التعرف والكشف على الثروات المعرفية والثقافية التي تختزنها الذات الحضارية في تاريها وتاريخها.
ب‌- حضور الذات في عملية المثاقفة مع الثقافات الإنسانية , حتى لا تكون عملية المثاقفة طريقا إلى هدم الأسس المعرفية التي تتكيء عليها الذات. وحضور الذات في عملية المثاقفة , يؤدي إلى خلق الإندفاعة القوية والضرورية لفهم الثقافات المغيرة , والعمل على هضم الصالح منها.
ت‌- إحترام الثقافات الإنسانية الأخرى. لأن الاحترام في بعده الثقافي يؤسس القاعدة النفسية والفكرية لهضم نقاط القوة المتوفرة في تلك الثقافة.

ويخطيء من يعتقد أن عالمية الثقافة , تتحقق عن طريق نفي وإقصاء الثقافات الأخرى , والعمل على طرد مساهمات الثقافات الأخرى في الحركة الحضارية الإنسانية , والترجمة العملية لمسألة الاحترام المذكورة , تتجسد في التعاطي الايجابي مع عطاءات وإنجازات الثقافات الإنسانية الأخرى , والانفتاح على المنتوج الثقافي لتلك الثقافات , والتعامل معه على أساس أنه إنجاز إنساني عام , يمكننا الاستفادة منه , لو انسجم وخصائصنا الذاتية الحضارية والتاريخية.

وبالتالي فإن الوعي بالذات , هو خط الدفاع الأول , الذي يمنع عملية الاستلاب والتحلل في مستوياتها الثقافية الحضارية. فالمزيد من الحضور الثقافي العربي والإسلامي , لا شك هو الذي يمنع عمليات الإنهيار في الانساق الثقافية والفكرية , وان الضباب هو الذي يهيء جميع العوامل والأسباب لعمليات الإنهيار المقصودة.

لذا فإننا نقول , إن عالمية الثقافة العربية , لا تمر عبر الذوبان في الثقافات الأخرى , وإلغاء الحدود فيما بين الثقافات كما أن العالمية , لا تتحقق من خلال الانغلاق والانطواء على الذات الثقافية بما تنتجه هذه الذات من ثقافة وفكر.

إن طريق عالمية الثقافة العربية يمر عبر الوعي بالخصوصية الثقافية العربية نحو توسيع القواسم المشتركة مع الثقافات الإنسانية الأخرى.

2- الحوار بين الثقافات:

على المستوى العملي والفعلي , لا يمكن أن تعيش ثقافة بدون مثاقفة وعملية تواصل بشكل أو باخر مع الثقافات الإنسانية الأخرى , إلا أن الفرق بين الثقافات يكمن في قدرة كل ثقافة إنطلاقا من ثوابتها وخطوطها الكبرى , على تكييف المنجزات الإنسانية , التي قام بها الإنسان (الفرد والمجتمع) إنطلاقا من ثقافة مغايرة.

فالثقافة التي لا تتمكن من هضم متغيرات العصر وإنجازاته وإدخالها في المنطومة الثقافية الذاتية , تبقى ثقافى متكسلة , لا تمارس الدور الايجابي والمؤثر في عمليتي الحوار والتواصل الثقافيين. بينما الثقافة التي تتمكن من هضم تطورات العصر ومنجزاته هي تلك الثقافة القادرة على الامساك بناصية المستقبل.

من هنا فإن الحوار بين الثقافات , من الروافد الأساسية لإغناء كل ثقافة على مسمتوى الشكل والمضمون. وبهذا تمتزج العناصر الثقافة وصولا إلى تفعيل القواسم المشتركة بين الثقافات , على مستوى حركة الأفراد والمجتمع.

لهذا نقول: إن الحوار بين الثقافات , من القنوات المهمة لدخول الثقافة في رحاب العالمية , لما تشكل عملية الحوار على المستوى الثقافي من تكريس لمفهوم الاحترام لكل منجز إنساني بصرف النظر عن موطنه الأصلي.

من هنا نجد أن الثقافة العربية والإسلامية في صدر الإسلام الأول , لم تكن حبيسة الجغرافيا التي نتجت فيها , وانما انطلقت من تلك البقعة الجغرافية إلى كل أصداع العالم , والسر في ذلك يرجع إلى طبيعة تعامل الثقافة العربية والإسلامية مع الثقافات الأخرى , إذ لم يسع العرب والمسلمون إلى إقصاء الثقافات الأصلية لكل شعب , وإنما سعوا إلى تمثل نقاط الايجاب والقوة في تلك الثقافات , والعمل على تكييفها مع الثقافة الفاتحة , فقد سعت الثقافة العربية والإسلامية , إلى استيعاب الثقافات الأخرى , وهضم مكوناتها الايجابية ونقاط قوتها. وفي مقابل ذلك سعت بعض الثقافات إلى ممارسة عمليات الإقصاء والنفي للثقافات المغايرة.

ويشير إلى هذه المسألة الكاتب (منير شفيق) بقوله: “إن الروماني على سبيل المثال حين خرج من روما ليفتح الأمصار , لم يكن هدفه جعل الخارج رومانيا , وإنما تعميق هوة اللامساواة , بإقامة تسلط مباشر على الخارج بعد ضمه إلى امبراطوريته وبهذا يبقى الروماني متميزا من كل الجوانب , فهو صاحب السطوة والسلطة والنفوذ وقوة العنف وهو ناهب الثروة , والمتمع بالخيرات والرفاه , وهو ممارس الاستغلال والاستبعاد والاضطهاد.

أما بالنسبة إلى العربي المسلم حين خرج من الجزيرة العربية , ليفتح الأمصار فكان يحمل القران وذلك من أجل نشر العقيدة , وإدخال الشعوب الأخرى في الإسلام. أي كان هدفه تحقيق الوحدة مع الخارج ومساواته بنفسه , من خلال العقيدة الإسلامية التي تقضي بذلك”.

وهكذا فإن الثقافة العربية والإسلامية على المستوى التاريخي , لم تحمل مشروعا عدائيا للخارج , وإنما إنطلقت بمبادئها وقيمها , لتقنع الشعوب والعوالم الأخرى بها , فتتوحد معها , ويصبح الجميع في ظل أمة واحدة وثقافة واحدة.

لهذا فإن الحوار بين الثقافات جزء من الكيان الفطري للثقافة العربية والإسلامية , إضافة إلى أن الحوار , يزود الثقافة العربية والإسلامية بإستمرار بزخم مكاسب الإنسان وإنجازات الثقافات الأخرى.

وأخيرا: فإن النمو والتطور , ينبغي أن يعتمد على جذرونا العقدية والثقافية الخاصة , لا بتلقيح ما هو غريب عنا.

*الأستاذ محمد جاسم المحفوظ – مفكر وكاتب في الإنسانيات له العديد من المؤلفات والدراسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *