إعادة رسم خرائط الفردوس المفقود لواحة الخليج العربي – صادق علي القطري

 

لقد كانت منطقة الخليج العربي، بتاريخها الغني وأهميتها البيئية، موضوع بحث واهتمام واسع النطاق على مستوى المعاهد الاكاديمية والبحثية في العالم وذلك للأهمية التاريخية والبيئية لواحة الخليج العربي حيث كشفت الاكتشافات الأثرية أن حوض الخليج العربي كان مهداً للحياة البشرية المبكرة، مع وجود أدلة على وجود مستوطنات يعود تاريخها إلى ما يقرب من 7500 عام.

ويسلط اكتشاف أحد أقدم القوارب في العالم في هذه المنطقة الضوء على القدرات البحرية المتقدمة لسكانها القدماء حيث يعتقد ان “واحة الخليج العربي” قد دعمت حياة الإنسان لأكثر من 100 ألف عام قبل أن يغمرها المحيط الهندي منذ حوالي 8000 عام والذي أجبر هذا الحدث الفيضانات الكارثية السكان على الهجرة إلى أراض جديدة، بما في ذلك الهلال الخصيب، مما يمثل لحظة محورية في عصور ما قبل التاريخ البشري.

في دراسة حديثة فجرها وكشف عنها ”الدكتور جفري روس“ وهو عالم آثار وباحث بجامعة برمنجهام في المملكة المتحدة، مع فريق من علماء بريطانيون والتي نشرها في مجلة الأنثروبولوجيا الحالية، «المجلد 5، العدد 6، ديسمبر 2010» وبعنوان ”ضوء جديد على عصور ما قبل التاريخ البشري في واحة الخليج العربي“ والتي كشفت عن وجود حضارة بشرية قديمة في حوض الخليج العربي، قد تكون الأقدم خارج إفريقيا.

ازدهرت هدة الحضارة قبل حوالي 75 إلى 100 ألف سنة في منطقة حوض الخليج قبل ان يغمرها الطوفان بالماء حيث كانت مساحة خصبة من اليابسة في حجم بريطانيا العظمى وربما كانت موطنا لبعض أول المجموعات السكانية البشرية التي هاجرت خارج منطقة أفريقيا.

وكذلك الأدلة الأثرية الحديثة تشير أيضا، إلى وجود مستوطنات دائمة على طول ساحل الخليج يعود تاريخها إلى حوالي 7500 عام.  اثناء العصر الجليدي الأخير، تسبب “هذا العصر” في انخفاض مستوى المحيط بمقدار 90 مترًا (295 قدمًا) تحت مستوى سطح البحر الحالي، وتعرض ما يقارب 100 ألف كيلومتر مربع (62137 ميلًا مربع) من الأرض في هذا الجزء من العالم “واحة الخليج” ولمدة 60 ألف عام لهذا الإنخفاض في مستوى الماء فنشأت واحة الخليج التي تضم فسيفساء غنية من ينابيع المياه العذبة، والسهول الفيضية للأنهار، ومستنقعات المنغروف وغيرها، والبحيرات، ومصبات الأنهار ، وكانت جنة حقيقية على هدة المساحة من الارض.

لقد كان جيفري روز، وتيريزا هوارد كارتر، وفي جوردون تشايلد, من علماء الاثار البارزين والذين افترضوا هدة الجنة “جنة وادي الخليج” والتي كانت موطنًا لبعض أقدم هجرات البشر الذين وفدوا من افريقيا. وفي الواقع، جيفري روز هو اول من افترض فكرة أن هذه الواحة والأشخاص الذين عاشوا هناك لعشرات الآلاف من السنين، كانوا في الواقع “نقطة الصفر للثورات الزراعية والحضرية الموجودة في ماضينا القديم”.

اذا كان عالم الاثار جيفري روز محقا في فرضيته، فان لهذا المشهد القديم دورًا مهمًا في دعم انتقال البشر من العصر الحجري القديم إلى فترات العصر الحجري الحديث، والذي قد يساعدنا في توسيع مداركنا وفهمنا لقصة الهجرات البشرية الأولى والحضارات التي سكنت قاع الخليج العربي. لسوء الحظ، الواحة التي يفترض وجودها غمرتها مياه المحيط الهندي وبات من المستحيل استخدام الخرائط الموجودة لاستكشاف هذا المشهد، لعدم وجود خريطة مفصلة للغاية لهذه المنطقة من العالم.

لهدة الأسباب فقد قرر أحد معلمي المدرسة الابتدائية “أندرو دولد” اعادة رسم خريطة جنة واحة الخليج العربي المفقودة وإعادة استكشافها، ولفهم كيفية دعمها لتطورنا خلال الخمسين ألف عام الماضية وبشكل أفضل مستفيدا من كل الأبحاث التي قدمها علماء الاثار بالإضافة الى استخدام مزيجا من الأدوات الحديثة.

استخدم أندرو دولد أدوات المسار والارتفاع في برنامج (Google Earth) بدقة لإعادة بناء بيانات البرنامج، وإنشاء خريطة قياس الأعماق مفصلة للغاية للجانب الشرقي من واحة الخليج. حيث تتميز خريطته بزيادات لا تقل عن متر واحد (3.28 قدم)، مما يوفر تمثيلاً دقيقًا للتضاريس تحت الماء.

امتد طموح دولد إلى ما هو أبعد من مجرد الخطوط الكنتورية بحيث يتجلى التكامل الفني مع صور الأقمار الصناعية فقام دولد بجمع صور الأقمار الصناعية من جميع أنحاء العالم بشكل فني باستخدام برنامج (Photoshop)، ودمج هذه الصور مع خريطة قياس الأعماق الخاصة به، أدى ذلك إلى تمثيل فني حي للمناظر الطبيعية التي كانت ذات يوم موطنًا لأسلافنا السابقين.

مكننا هدا العمل الى أن نرى صورة اكثر وضوحا لكيفية تشكيل امتداد شط العرب السفلي لبحيرة كبيرة داخل واحة الخليج؛ بحيرة يقدر حجمها بحجم بحيرة أونتاريو، وهي بحيرة، يعتقد انها كانت موجودة في هذا الجزء من العالم منذ أكثر من 60 ألف عام.

هدا الامتداد الطولي الاستثنائي للطبيعة مكن من إنشاء نظام بيئي فريد من نوعه للمياه العذبة والذي دعم أسلوب الحياة الأكثر استقرارًا لأسلافنا الأوائل، لم تكن هذه الفكرة ممكنة إلا من خلال حقيقة أن هذه البحيرة كانت واحدة من أكبر مصادر المياه العذبة وأكثرها استقرارًا في هذه المنطقة من العالم القديم.

لقد كانت مصدرا للمياه وكانت تؤوي العديد من النباتات والحيوانات المختلفة على مر الاف السنين، وكانت هدة الواحة تجذب كل أنواع الحياة المهاجرة إلى شواطئها من المناظر الطبيعية الأكثر جفافاً التي تحيط بها.

لقد ذهب جيفري روز إلى حد وضع نظريات حول العديد من المواقع التي ربما استقر فيها البشر بشكل دائم في هذه الواحة، كما هو موضح في الشكل 1.

الشكل 1: واحة الخليج: 50,000 قبل الميلاد – 10,000 قبل الميلاد (Dold. 2016, Lambeck. 1996; Fairbanks, R.G. 1989)

وعلى الرغم من الأهمية لهذه البحيرة في دعم التقدم الزراعي والحضري الذي اقترحه جيفري روز، إلا أن غمر المحيط الهندي قضي على هدة الجنة لأسلافنا وأصبحت من الماضي السحيق مما أدى في النهاية إلى نزوح هؤلاء الأسلاف واجبارهم على التحرك صعودًا نحو السواحل العليا والى بلاد وادي الرافدين والهلال الخصيب. وهدة الفرضية أدت الى الكثير من التساؤلات منها على سبيل المثال، متى حدثت هذه الهجرة القسرية، وهل كان هناك دلائل يمكن أن تشير إلى بداية النهاية لأسلوب الحياة الذي طوره هؤلاء الناس؟

لقد أدت أبحاث فيربانكس ولامبيك حول ارتفاع مستويات المحيطات على مدار الخمسة عشر ألف عام الماضية الى استخلاص تقدير تقريبي لمدى سرعة حدوث كل متر من ارتفاع المحيطات وفي أي إطار زمني. وبتطبيق هذه المعلومات على الخريطة التي أنشأها دولد لواحة الخليج ، فقد تنبئت أنه منذ حوالي 11500 عام، وقع بالفعل حدث مدمر وهو فيضان الخليج، وهو الحدث الذي قضى على هذه البحيرة المهمة وأجبر أسلافنا الأوائل على للهجرة من هده الجنة الغناء.

مصدر الصورة: https://www.abdulwahed.me/

وبناء على تحليل المعلومات يعتقد ان غمر الخليج حدث على ثلاث مراحل والذي يوضحها الشكلين 2 و 3, فعندما انخفض ارتفاع المحيط من -80 إلى -79.8 مترًا (-262.47 إلى -261.81 قدمًا) تحت مستوى سطح البحر. في غضون 10 سنوات، ارتفع المحيط من الوادي الذي يقع في مضيق هرمز إلى أولى البحيرات العديدة التي كانت موجودة في هذه الواحة وبعده بعقد ونصف (10-15 عاما)، دخل تدفق المياه المالحة إلى هذا النظام البيئي للمياه العذبة وقضى عليه.

الشكل 2: واحة الخليج مع المحيط على عمق -80 مترًا تحت مستوى سطح البحر الحالي، حوالي 11,520 سنة مضت. (دولد 2016، لامبيك 1996؛ فيربانكس، آر جي 1989)
الشكل 3: واحة الخليج مع المحيط على عمق -79.8 مترًا تحت مستوى سطح البحر الحالي، حوالي 11,510 سنة مضت. (دولد 2016، لامبيك 1996؛ فيربانكس، آر جي 1989)

اما المرحلة الثانية فقد حدثت على مدى ما يقارب خمسة الى ستة عقود (50-60 عامًا)، كما هو موضح أدناه في الشكل 4، فقد ارتفع الخط الموازي لساحلي هذه البحيرة المغمورة بالمياه إلى عمق -79 مترًا (-259.19 قدمًا) تحت مستوى سطح البحر الحالي حيث ان هذا الارتفاع في مستوى المحيط لم يكن له تأثير يذكر على المناظر الطبيعية المحيطة وربما لم يلاحظه أحد.

الشكل 4: واحة الخليج مع المحيط على عمق -79.8 مترًا تحت مستوى سطح البحر الحالي، حوالي 11,510 سنة مضت. (دولد 2016، لامبيك 1996؛ فيربانكس، آر جي 1989

واما المرحلة الثالثة من هذا الحدث فان الأمور اخذت منعطفا اكثر سوءا من المراحل السابقة. ففي غضون العشر الى خمسه عشر عاما، دخل تدفق المياه المالحة إلى أكبر نظام بيئي للمياه العذبة عرفه هذا الجزء من العالم على الإطلاق، وقضى علية. كان هذا حدثًا مدمرًا حقًا لأن تدفق المياه المالحة هذا كان سيقتل جميع أنواع نباتات وحيوانات المياه العذبة التي تعيش في شواطئها أو بالقرب منها ويغير طرق هجرة الحيوانات البرية التي تعتمد على مياهها. انظر الى الشكل 5 ادناه:

الشكل 5: واحة الخليج والمحيط على عمق -79.8 متر تحت مستوى سطح البحر الحالي، حوالي 11,450 سنة مضت. (دولد 2016، لامبيك 1996؛ فيربانكس، آر جي 1989)

لقد كان جيفري روز وعلماء الآثار الآخرون على حق حين افترضوا أن واحة الخليج لم تكن مجرد ملاذا للبشر الأوائل، بل كانت أيضًا مركزًا للثورات الزراعية والحضرية التي شكلت ماضينا القديم.

يشير هذا إلى أن المنطقة ربما كانت موطنًا لبعض أقدم الحضارات في العالم وان موت هذه البحيرة العذبة غير أسلوب حياة قاطني هدة الواحة منذ حوالي 11450 عام، حيث أدى الارتفاع الكبير في مستويات سطح البحر إلى تدفق المياه المالحة إلى أكبر نظام بيئي للمياه العذبة في المنطقة، مما أدى إلى مقتلها فعليًا والقضاء عليها.

ومن المرجح أن هذه الكارثة البيئية أجبرت السكان على مغادرة الواحة والهجرة إلى أماكن اعلى بمحاذاة السواحل العليا حيث بنوا مستوطنات جديدة، في حين ان البعض الاّخر من السكان ربما هاجر الى بلاد ما بين الرافدين والهلال الخصيب بحثاً عن موارد جديدة للطعام والماء للشرب.

في الختام،،،

لم يقدم مشروع أندرو دولد المبتكر لرسم الخرائط تمثيلاً تفصيليًا لواحة الخليج العربي فحسب، بل أعاد أيضًا إلى الحياة التاريخ الغني لمنطقة لعبت دورًا حاسمًا في عصور ما قبل التاريخ البشري.

فمن خلال الجمع بين الأدوات التكنولوجية والرؤى الأثرية، ساعد دولد في إعادة رسم خريطة الجنة المفقودة، وقدم صورة أوضح لبيئة أجدادنا والأحداث الدرامية التي شكلت هجراتهم ومسار الحضارة.

المهنس صادق علي القطري

المصادر:
• https://www.linkedin.com/pulse/mesopotamia-cradle-civilizations-arabian-gulf-basin-historic-qatari-ku8ye/?trk=article-ssr-frontend-pulse_more-articles_related-content-card
• https://www.linkedin.com/feed/update/urn:li:activity:7175262235814961152/
• https://www.linkedin.com/pulse/glacier-ice-water-wonders-how-arabian-persian-gulf-emerged-qatari-pscme/?trackingId=XWdzphUZkW7N6QL7VoZPLQ%3D%3D
• https://www.linkedin.com/pulse/cradle-ancient-cultures-unveiling-mysteries-arabian-gulf-qatari-g9eue/?trackingId=ECgMbR%2BaN8CyJztU1oDevQ%3D%3D
• https://www.linkedin.com/pulse/arabian-gulf-oasis-refuge-ancient-human-migrations-sadiq-a-qatari-2iqne/?trackingId=epjRXCkG7OmB2Jr1U1sExA%3D%3D
• https://www.linkedin.com/pulse/arabian-gulf-its-prehistoric-archeology-sadiq-a-qatari-iqyxe/?trackingId=mBUZOao12JfkSENa7D08nQ%3D%3D
• https://www.linkedin.com/pulse/search-lost-civilizations-discovery-ancient-human-under-qatari-1asie/?trackingId=Sfl7Zcxt7469zMXVniMdbQ%3D%3D
• https://www.ancient-origins.net/human-origins-science/paradise-lost-gulf-oasis-was-home-earliest-humans-existed-africa-what-forced-021390
• https://www.linkedin.com/pulse/arabian-persian-gulf-valley-its-connection-term-garden-qatari-endwe/?trackingId=uCMc0MV%2BjqpICJ4GebeNPQ%3D%3D

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *