رحلةٌ في الذات – د. عبدالجليل عبدالله الخليفه

لو سألتك من انت، فستجيب أنا فلان بن عائلة كذا. ثم لو أعدت عليك السؤال، فستفهم أني أريد معرفة المزيد، فلعلك تجيب أنا من مدينة كذا ومواليد عام كذا.  ولو أعدت عليك السؤال مرة بعد أخرى فستجيب بأوصافك الشخصية وأخرى بوظيفتك، وتعرّف ذاتك بأشكالٍ عديدةٍ ومختلفة.

لكن لو سألت نفسك بنفسك (من أنا؟)، كيف تعرّف ذاتك لذاتك؟ إنها رحلةٌ في الذات، فلا أحد يعرف ذاتك أفضل من ذاتك! إنّها بداية سفرٍ طويل في أقرب الأشياء اليك وهي نفسك.

مصدر الصورة: datingbyblaine.com

ما هو الفرق بين ذوات الأشياء وصفاتها؟

تعارف البشر في هذه الحياة على تسمية الأشياء حتى يسهل الحديث عنها، واستخدموا حواسهم لمعرفة ظواهر هذه الأشياء وصفاتها وكيف يتم استخدامها لتيسير معاشهم وقضاء حوائجهم. وقد تختلف الأسماء باختلاف اللغات وتختلف الاستخدامات باختلاف الحاجات، لكن تبقى المادة بحقيقتها ذاتها، رغم أنها قد تختلف اسماؤها واستخداماتها نتيجة اختلاف توافق الأفراد واعتباراتهم من مكانٍ الى آخر.

هناك حقائق وذوات للأشياء تتمظهر لنا في أسماء نسميها وصفات نعرفها وحوائج نستخدمها، هذه الحقائق والذوات قد يسميها البعض جواهر الأشياء، والصفات أعراضها. هذه الجواهر تبقى في إذعانٍ فطري كامل ضمن حركةٍ تكاملية تتناسب مع حقيقتها وتنقلها في عالم التكوين من مستوى الى آخر. نحن لا نرى هذه الحقائق ولا حركتها، بل كلّ ما نراه هو صفاتها وأعراضها.

أمثلة:

ماهي حقيقة الماء؟

الشراب الذي يحتاجه الإنسان ليروي ظمأه اسمه الماء، وهو سائل شفاف عديم اللون والرائحة، ويستخدم في صناعة الأطعمة وري النبات واستخدامات عديدة أخرى. تطوّر العلم الحديث وأكتشف أنه يتكون من ذرة أكسجين وذرتين هيدروجين وأنه يغلي عند درجة حرارة 100 درجة مئوية وهكذا بقية صفاته الكيميائية والفيزيائية.

فلو سألنا ما هو الماء، فستكون الإجابة بطرق مختلفة حسب الحاجة وطبيعة السؤال والسائل. لكنّ الماء اسمٌ أطلقناه على هذه المادة وبقية المعلومات صفاتٌ لها، ففي بلدٍ لا يتكلم العربية، يطلق عليه اسمٌ آخر، ولو لبس الإنسان نظارة زرقاء لرأى الماء أزرقًا وليس شفافًا، وهكذا قد نكتشف مع تطوّر العلم صفات أخرى للماء لا نعرفها الآن.  إذن من الواضح أنّ الأسماء ليست الحقيقة بل هي أسماء سميناها نحن، وما نراه ونعرفه هي صفات المادة المعينة وليست حقيقتها، فالحقيقة ليست هي الأسماء و الصفات بل هي ما وراء ذلك.

ماذا تذكر من صديقك القديم؟

عرفت صديقًا باسمه وصفاته ومواقفه الجميلة معك أثناء الدراسة، وبعد عشرين عامًا، نسيت اسمه وقد تكون نسيت أغلب صفاته او كلّها، لكنّك لا تزال تعشق ذلك الإنسان. ماذا بقي من ذلك الإنسان في ذاكرتك؟ ليس اسمه ولا صفاته، بل مشاعرك عن حقيقته وذاته التي تشكلت مع السنين نتيجة مواقف معينة مع ذلك الإنسان. كذلك قد يكبر الإنسان وتتغير صفاته وقد ينتقل الى مكانٍ آخر فيبدل اسمه، لكن ذاته لم تتغير.  

كيف يعرف إنسان الغابة ذاته؟

إنسان الغابة قد لا يعرف اسمه، وليس لديه من المرايا او الأدوات ما يكتشف صفاته، لكنّه يعرف نفسه لأنّها قريبةٌ منه فهو يعيش معها طيلة الوقت فليس بينه وبينها حاجزٌ مادي، هذه حقيقته وذاته التي يعيش معها.

الذات الإنسانية:

إنّ أوضح مثالٍ على هذا الإذعان الفطري التكويني والحركة التكاملية هو نفس الإنسان التي وجدت في عوالم أخرى وضمن قوانين معينة تتناسب مع تلك العوالم، ثم انتقلت ضمن حركتها التكاملية الى عالم الأرحام ومنه الى عالم الدنيا ضمن مراحل عمرية مختلفة وستنتقل الى عالم آخر بعد وفاتها. هذه الحركة التكاملية فطرية تكوينية لا يمكن عنادها او تغيير مسارها، فهي تبدأ غير مادية ثم تصبح ماديةً في أبسط صورها ثم تبلغ غاية تعقيدها المادي في هذا العالم المادي ومنه تنتقل الى عالم الأرواح والملكوت حين ترجع الى خالقها.

مصدر الصورة: /hr.mcmaster.ca

رحلةٌ في الذات:

لن نتحدث عن الأسماء والألقاب التي اعتبرها البشر وتم التوافق عليها فهذا مهندسٌ والآخر طبيبٌ وهذا عاملٌ وهذا كريمٌ وهذا متواضعٌ وهذا عنيدٌ، ولن نتحدث عن الصفات المادية التي تختلف زمانًا ومكانًا، ولن نتحدث عن المكانة الاجتماعية والأدوار التي يقوم بها الفرد، فكلها أمورٌ ضروريةٌ وهامةٌ جدًا لسلامة الحياة الاجتماعية وتطورها ولا يمكن العبث فيها، لكنها قد تكون نتيجة اعتباراتٍ اجتماعيةٍ لا تعكس حقيقة الذات بل قد تكون نتيجة أعرافٍ اجتماعيةٍ بحتة.

دعونا نتحدث عن أدوات الحركة التكاملية التي تحتاجها الذات الإنسانية في رحلتها المستقبلية، فلن تأخذ معها الأسماء والألقاب، ولن تأخذ معها نعومة اليد وحلاوة الشكل، بل ستأخذ معه أمور أخرى تتجلى في:

  • سموّ الغاية: هذه الرحلة لها غايةٌ عظمى تستحق التعب والسهر والعناء، تعيش فيها الذات حلاوة اللقاء باستمرارٍ في بدايتها وخلال مسيرتها وعند نهايتها. إنه لقاء الحبيب مع حبيبه، حبيبٌ في غاية الجمال والكمال، يذلّل الصعاب ويسدّد السبيل الى مرضاته.
  •  مراقبة الذات: هذه الرحلة في الذات لها منحنياتٌ خطيرةٌ وممراتٌ متعرجةُ فوق وديانٍ سحيقةٍ قد تؤدي الى الهلاك لا قدّر الله، فقد ينزلق الإنسان فيقع في فخ الأنا والغرور، وقد يحبس ذاته في قيود الغريزة والهوى، وقد يصيبه الملل فيفقد ملكة الصبر والرضا. لذا عليه أن يكون على حذرٍ دائمٍ من نفسه، لا يقبل منها اليسير ولا يسمح لها بالتقصير. نفسه منه في عناءٍ والناس منه في راحة حتى يفارق هذه الدنيا طيب الذكر محمود الخصال. 
  • تحمل المسؤولية: لو ضربنا مثلًا من عالم الشركات الذي نألفه، عند تأسيس أي شركة، يتم تحديد مسؤولية رئيس الشركة والمدراء والموظفين لضمان سير عمل الشركة وأداء المهمات الضرورية لإنجاز الهدف المرسوم للشركة. وللقيام بهذه المسؤوليات يتم تحديد الكفاءات والخبرات المطلوبة لأداء الأدوار المناطة بالوظائف المعينة. وهكذا يتم تحديد المكانة المطلوبة (مثل رئيس الشركة) والمسؤوليات المناطة بهذا المكانة (الدور الذي يجب أن يلعبه كرئيس للشركة)، وبعدها يتم توظيفه ومراقبة أدائه لضمان نجاح الشركة وتميزها.  حين نمعن النظر في هذه الحياة، وكيف جاءت هذه الذات الإنسانية من العوالم السابقة وما هو دورها المناط بها في هذا العالم الدنيوي، فسنكتشف عظم المسؤولية الملقاة على عاتق هذه الذات الإنسانية. فالمكانة هي خلافة الله في الأرض، والدور هو اعمار الأرض وتحقيق السعادة للفرد والمجتمع.  هذه المكانة وهذا الدور له درجاتٌ مختلفة أعظمها مكانة الأنبياء والرسل فلهم المكانة العظمى والمسؤولية الكبيرة في تبليغ الرسالات وبيان التشريعات ونشر الفضيلة، ودونها تأتي مكانة الأوصياء الذين أنيط بهم حفظ المسيرة الإنسانية عن الانحراف وبيان التشريعات التي بلغها الأنبياء والرسل، وهكذا تتدرج المكانة نزولًا الى مستوياتٍ أخرى تلعب أدوارًا مهمةً جدًا.  هذه المكانات والأدوار المناطة بها ليست عبثيةً او اعتباريةً توافق عليها البشر، بل هي تكوينيةٌ ضروريةٌ لتحقيق الدور العظيم الذي أنيط به البشر في اعمار هذه الحياة الدنيا. إنّ تحمل المسؤولية يدفع بالذات في حركةٍ تكامليةٍ ضمن صعودٍ تدريجي على سلّم الإيمان والعمل الصالح.
  • التميز في الأداء: تتعدد المكانات لنفس الذات ومعها الأدوار المناطة بها، فالذات الإنسانية لها مكانة الوالد او الوالدة في الأسرة والتي تترجم عبر تربية الجيل الجديد في بيئةٍ تتميز بالطهارة والعفة لتنتقل عبر الأجيال دون أن تلوثها أدران العهر والرذيلة. وهذه الذات الإنسانية قد يكون لها نفسها مكانة المدرّس في المدرسة والدور المناط بها هو تعليم الجيل الجديد وتأهيله لبلوغ أعلى درجات الإبداع والرقي. وهذه الذات الإنسانية قد يكون لها نفسها مكانة المقبولية والتأثير الاجتماعي والدور المناط بها هو نشر الفضيلة والقيم الإنسانية في الأسرة والمجتمع. وهذه الذات الإنسانية قد يكون لها مكانة الإدارة في الشركة والمؤسسة، والدور المناط بها هو حفظ الأمانة وقيادة الشركة الى تحقيق نتائج باهرة واسعاد العاملين والمجتمع والحفاظ على البيئة. التميز عابرٌ للمكانات والأدوار وهو ضرورة قصوى لتكامل الذات وسعادتها في الدنيا ورجوعها مطمئنةً الى الدار الآخرة.
مصدر الصورة: alghaslan.me

من أنت؟

لو سألت نفسك من أنت، فستجيب الآن على هذا السؤال بطريقةٍ مختلفة، فأين أنت في درجات سمو الغاية ومراقبة الذات وتحمل المسؤولية والتميز في الأداء؟ وهل أنت في صعودٍ او هبوطٍ لا قدّر الله؟  لا أحد يعرف ذاتك أفضل من ذاتك، فأنت أقرب الأشياء الى نفسك، والحمد لله ربّ العالمين.

تعليق واحد

  1. شاكر النصير

    قد تقرأ كتاب ولا يتحقق من قرائته الفائدة المرجوه ، بينما نجد المقال الذي كتبه الدكتور يحوي بين طياته الكثير من الحكم والعبر في حياتنا الدنيوية،
    والتي تهبنا السعادة في الدنيا والآخرة ، وهذه الحكم تخبرنا بأن مسيرة الذات الإنسانية أثناء رحلتها في الدنيا لن تأخذ معها الأسماء والألقاب، أو نعومة اليد او حلاوة الشكل، بل ستأخذ معها أمور أخرى تتلخص في:
    1- سموّ الغاية:
    وهو أن تكون غاية الإنسان في الحياة هي معالجة مريض, ومساعدة محتاج, ونصرة مظلوم, ومقاومة ظالم, وزرع بسمة على شفاه طفل محروم, وإعادة الأمل إلى نفس بائس .
    2-مراقبة الذات:
    وذلك بتجنب كل ما يؤدي الى الهلاك لا قدّر الله، فيقع في فخ الأنا والغرور، ويحبس ذاته في قيود الغريزة والهوى،
    3- تحمل المسئولية :
    العمل على إعمار الأرض وتحقيق السعادة للفرد والمجتمع. و أعظم هذه المكانة هي مكانة الأنبياء والرسل.
    4- التميز في الأداء:
    العمل بجد واخلاص في إتقان الدور المناط به هو نشر الفضيلة والقيم الإنسانية في الأسرة والمجتمع وحفظ الأمانة
    والعمل على تربية الجيل الجديد في بيئةٍ تتميز بالطهارة والعفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *