نظرية الإنسان أوّلًا (الجزء الثالث) – الدكتور عبدالجليل عبدالله الخليفه

نستعرض في “الجزء الثالث” ما بدأناه في الجزء الثاني وهو بعض الخلفية التاريخية لمفهوم الأرباح أوّلًا:

  • بعض نظريات الأخلاق الغربية:
    • النظرية النفعية
    • نظرية الواجب الأخلاقي،
  • الفلسفة البراغماتية وأثرها في الفكر الغربي،
  • ثقافة الحداثة الغربية في الميزان،

النظريات الأخلاقية الغربية

لماذا نختار أن نفعل أمرًا معينًا ولا نفعل الأمر الآخر؟ هل يوجد ميزانٌ للسلوك الإنساني؟ مثلًا:

  • لو سألك ابنك هل يمكنه أن يغش في الإمتحان، لأن أغلب زملائه يغشون فيحققون درجات أفضل؟
  • لو سألك أحد المدراء وانت رئيس الشركة، هل يمكنه أن يدفع عمولة 5% لمندوب المشتريات في أحد الشركات ليتمكن من بيعه صفقة كبرى؟
  • لو أخبرك مديرك أنك لا يمكن أن تتطوّر الى مواقع عليا في الشركة لأنك لا تجيد اللّف والدوران، فهل ستغير شخصيتك وتمتثل لرأيه؟

[هل تجيب بالنفي او الإيجاب على هذه الأسئلة؟ إنها رؤيتك وفهمك للفضيلة الأخلاقية]

الأخلاق هي الميزان الذي يحكم الأفعال الإرادية الإختيارية ويتعلق بالفضائل وكيف يكسبها الفرد، وبالرذائل وكيف يتخلص منها، فهي تجلب المصالح وتدرأ المفاسد عن الحياة البشرية. لذا حين نتحدث عن مدارس الأخلاق الغربية، يجب علينا أن ندرس هل حققت هذه المدارس الغربية المصلحة البشرية أم لا؟

فماهي بعض النظريات الأخلاقية الغربية وكيف أثّرت على الشخصية الغربية وعلى عالم المال والأعمال؟

النظرية النفعية:

وهي المتبعة في عالم المال والأعمال، فحساب الربح والخسارة هو الحكم في إقرار أي مشروع.  وكان من رواد المدرسة النفعية الأوائل:

ديفيد هيوم (1711-1776):

مدرسة هيوم النفعية ترى أنّ العقل أداة لتلبية الرغبات والميول الحسية، وتعتقد أنّ العدالة نسبية متغيرة لا يمكن تطبيقها على كلّ البشر بنفس المقاييس. فهو:

  • لايرى حقيقة موضوعية للأمور الغير مادية، بل أن الحقيقة هي فقط ما يشعر به الفرد من ميول ورغبات مادية محسوسة يكون العقل أداة لتحقيقها. لذا فالأخلاق هي كل ما يؤدي الى تحقيق ما يحبه الفرد وما ينفعه ولا علاقة لها بغير المحسوسات،
  • الحقيقة ليست مطلقة، بل هي نسبية متغيرة، وليست موضوعية بل ذاتية تعتمد على الشخص وميوله، وأنه لا يوجد ميزانٌ للعدالة ينطبق على الجميع، فالعدالة نسبيةٌ متغيرةُ لا يمكن تطبيقها على كلّ البشر بنفس المقاييس عبر الزمان والمكان،
  • العقل لا يقرر ما ذا يريد الفرد، بل كيف يحقق ما يريد، فالعقل أداة لتحقيق رغبات الفرد وميوله.
ديفيد هيوم ، مصدر الصورة: /hekmah.org
ديفيد هيوم ، مصدر الصورة: hekmah.org

جيرمي بنثام ( 1748-1832وجون ستيوارت ميل ( 1806 – 1873):

يرى بنثام أنّ الإنسا ن حرّ عقلاني يختار العمل الذي يحقق له أكبر قدرٍ من المنفعة كالراحة واللذة والثروة وغيرهم ويبعد عنه أكبر قدرٍ من الألم والخسارة. ثم حاول جون ستيوارت ميل أن يخفف من غلواء المنفعة الفردية التي نادى بها جيرمي بنثام، فنادى ستيوارت ميل بالعناية بالمصلحة المجتمعية أيضا. لذا:

  • الدافع المشترك للبشر هو تحصيل الراحة والسعادة والبعد عن الألم والشقاء، فمعيار الأخلاق هو تعظيم المنفعة، وهي كل عمل يحقق اكبر قدرٍ من المنفعة لأكثر عددٍ من الناس،
  • كلّ عملٍ او سلوكٍ فردي او اجتماعي او قانونٍ يحقق زيادةً في الراحة والسعادة على الألم والشقاء للفرد والمجتمع يعتبر أخلاقيا،
  • تقييم الأرباح والخسائر يشمل كل الأمور المادية والإنسانية ومنها مشاعر الألم والسعادة وحياة البشر وكل ما يتعلق بحياتهم.

تطبيقات صارخة على  النظرية  النفعية:                       

  • سائق سيارة في حلبة سباق رأى فجأة خمسة عمال أمامه يصلحون طريق السباق، هل يستمر في طريقه فيموت هؤلاء الخمسة او ينتقل فجأة الى طريق جانبي فيموت عامل واحد فقط يوجد هناك؟
  • طبيب لديه خمسة مرضى يحتاجون الى زراعة أعضاء لإنقاذ حياتهم، وفي الغرفة المجاورة جاء رجل صحي للكشف الطبي، فهل يستأصل الطبيب اعضاء هذا الرجل الصحي ويعرضه للموت لينقذ حياة الخمسة مرضى الآخرين؟

نقد النظرية النفعية:

كيف يمكن تطبيق هذه القاعدة النفعية؟ وماذا إذا تعارضت مصلحته الفردية مع مصلحة المجتمع؟

يتبين هنا أن المدرسة النفعية لا يمكن تطبيقها على حياة الناس ومشاعرهم فهذه لا يمكن قياسها او اعتبارها سلعة مادية.  هذه المدرسة النفعية يمكن تطبيقها لو أقتصر الأمر على الأرباح والخسائر المادية.  كما ان المدرسة النفعية لا يمكنها تفسير أخلاق كالإيثار والتضحية بحسابات المنفعة المادية الدنيوية.

وهل المنفعة فردية او اجتماعية، ومن الحكم لو كانت المنفعة الفردية تؤدي الى ضرر اجتماعي؟

النفعية في مدرسة الأرباح أوّلًا:

تحولت النفعية الى نفعية مادية فردية في ظل البيئة الرأسمالية وفردانيتها المادية. فحيث نادت الرأسمالية بالأنانية الفردية المادية أصبحت أداتها لقياس صحة نشاطها الاقتصادي هو النفعية عبر حساب الأرباح والخسائر المادية لكلّ مشروع او عمل تجاري.  فكلّ شركةٍ تمارس نشاطًا اقتصاديًا او تنفذ مشروعًا معينًا، سيكون همها الرئيسي تعظيم الأرباح أوّلًا، أما مصلحة المجتمع فقد تكفّل آدم سميث في نظريته الرأسمالية بأنّ مجموع المصالح الفردية يحقق المصلحة الاجتماعية وهذا ما لم يتحقق في الواقع بل تغوّلت النفعية الفردية وأكلت المصلحة المجتمعية.

وهكذا غابت المنفعة الاجتماعية وغابت المنفعة الغير مادية في عالم الرأسمالية المادي. يعني أنً الفرد او الشركة يجب أن تهتم بمصلحتها المادية الفردية في عالمٍ يعجّ بالتنافس وحين تنجح كلّ شركةٍ في تعظيم أرباحها، سيحدث الرخاء وتتوفر الفرص الوظيفية وينمو الاقتصاد ويزدهر المجتمع. لذلك نادت مدرسة شيكاغو بعدم التدخل في السوق الحرّ حتى لا تختل الحركة الاقتصادية. وهكذا أصبحت الأرباح أوّلًا أي النفعية الفردية المادية هي مقياس السلوك.

هل يمكن توجيه النظرية النفعية في الإتجاه الصحيح؟

المنفعة دافع فطري عقلاني فلماذا نعترض عليها، وهل يمكن توجيهها في الإتجاه الصحيح؟

هناك تحديان واجهتهما النفعية في البيئة الرأسمالية، وهما:

  • المنفعة والخسارة لا يمكن اقتصارها على الأمور المادية، بل لا بدّ من حساب المنافع الأخرى الغير مادية والتي لا يمكن قياسها بأرقام كمية، مثلًا، حياة الإنسان او شرفه او حبّه لأسرته، لايمكن وضع قيمة مادية لها،
  • المصلحة الفردية قد تتعارض مع مصلحة المجتمع، وحين نعلم أن القرار بيد الفرد، وأنّ الإيثار والعطاء ليس من موازين الرأسمالية او النفعية المادية، فستكون النتيجة أنّ الغلبة ستكون للنفعية الفردية المادية،

؛؛يمكن توجيه نظرية النفعية في الإتجاه الصحيح إذا كانت ضمن إطار فكري عام يضع المنفعة في المدى الدنيوي القصير والمنفعة في المدى الأخروي البعيد في الحسبان، ويضع أيضًا ميزانًا دقيقًا للقيم الغير مادية كالإيثار والعطاء  جنبًا الى جنب مع المنفعة المادية،  هذا الإطار سيكون محور حديثنا في مفهوم الإنسان أوّلًا؛؛

نظرية الواجب الأخلاقي:

رائدها ايمانويل كانت ( 1724-1804) ، لذا فقد عاصر تقريبًا آدم سميث وجيرمي بنثام: وأطلق مشروعه النقدي العظيم الذي درس فيه حدود المعرفة البشرية خاصةً العقل النظري والعقل العملي.

أسّس ايمانويل كانت مدرسةً أخلاقيةً تعارض مدرسة هيوم النفعية التي ترى العقل أداةً لتلبية الرغبات والميول الحسية، وأنّ العدالة نسبيةٌ متغيرةٌ لا يمكن تطبيقها على كلّ البشر بنفس المقاييس. فكان الهمّ الرئيسي لايمانويل كانت هو دراسة العقل البشري وأدواته وأسلوب العقل في تحصيل المعرفة وحدوده المعرفية في محاولة جادّة لوضع قانون أخلاقي ثابت يحقق العدالة في كلّ زمان ومكان، تمامًا كما كان قانون الجاذبية الثابت في العلوم الطبيعية الذي أثبته اسحق نيوتن سابقا.

لقد إنطلق كانت ليدرس دور العقل في تأسيس المبدأ الأخلاقي وتحديد وسائل عقلية لتحديد الواجب الأخلاقي الذي تلتقي فيه كل العقول البشرية. فقسّم كانت العالم الى:

  • عالم مادي: وهو عالم الاجسام والظواهر الطبيعية مثل الزمان والمكان والأسباب المادية ونتائجها، حيث رأى أنه لا توجد حرية في العالم المادي، بل تحكمه قوانينٌ طبيعيةٌ كما تحكم الجاذبية حركة الكواكب السماوية،
  • عالم غير مادي: وهو عالم الروح والعقل والتفكير والأخلاق، وهو عالمٌ يتسم بالحرية من نوازع المادة وأسبابها، حيث يمكن للعقل ان يمارس دوره في حرية كاملة من نوازع الشهوة والأحساس والأسباب المادية. ايمانويل كانت كان معارضًا شديدًا لديفيد هيوم الذي كان لا يؤمن بالعالم الغير مادي.

قاعدة كانت الأخلاقية:

على العكس من المدرسة النفعية، يرى كانت أن نتيجة العمل لا تحدد قيمته الأخلاقية، بل إنّ مايحدد قيمة العمل الأخلاقية هو نية الفاعل ودافعه لأداء العمل، أي أنّ:

  • تقييم اي فعلٍ انساني يعتمد على إرادة الفاعل ودوافعه، فالمهم هو النية الحسنة،
  • اذا كانت النية حسنةً فنتيجة العمل لاتعني كثيرًا، والعكس صحيح، اذا كانت النية خبيثةً، فلن ينفع العمل حتى لو كانت نتائجه مفيدة،
  • يمكن لنا أن نستشف من آراء كانت (لا أعلم إن كان كانت قد ألمح الى هذا):
    • جمال النية واخلاصها قد يكون مقياسًا لقيمة العمل الأخلاقي، فيتمايز العمل في القيمة ويكون أفضل كلما زاد الإخلاص في النية،
    • على الإنسان أن يراقب نيته على مدار الساعة طيلة عمره، هذه المراقبة المستمرة تضمن عدم انحرافها، وقد يبلغ العصمة الأخلاقية من الخطأ إن أعطى لعقله طيلة الوقت دوره الكامل في حريةٍ كاملةٍ من نوازع الشهوة والأسباب المادية.

[لكن هل تكفي النية الحسنة لضمان صلاح الفعل كما يرى كانت؟ وهل هناك ملاحظات آخرى؟ سنعود لهذا قريبًا]

أنواع الفعل الإنساني:

يرى كانت أن أفعال الإنسان تنقسم الى نوعين:

  • أفعال شرطية طبيعية يقوم بها الإنسان لأشباع الميول والرغبات المادية، وهي أوامر شرطية (اذا …. ف …..، مثلا: اذا عطشت، فاشرب الماء)،
  • أفعال الزامية يفرضها العقل الحر من نوازع الشهوة والرغبات وسماها كانت أفعال الواجب الأخلاقي، فهي ليست شرطية بل هي واجبة دائما: (مثلا: كن صادقًا، كن أمينًا، لا تسرق، لا تقتل).

 عالمية الواجب الأخلاقي:

هل تصل جميع العقول البشرية الى نفس الواجب الأخلاقي، فهو عالميٌ ينطبق على الجميع بغض النظر عن الزمان والمكان؟

يرى كانت أن عقل الإنسان بغض النظر عن الزمان والمكان إذا تحرّر من نوازع الشهوة والميول والرغبات المادية، فإنه يسنتتج نفس الواجب الأخلاقي، لذا فإن جميع البشر يخضعون لنفس ميزان العدالة.

مقياس الواجب الأخلاقي:

(الواجب هنا قد يكون الإلزام بالفعل او الردع عن الفعل). كيف نميز أنّ فعلًا ما هو واجبٌ أخلاقي او ليس كذلك؟

يجب ان يفكر الإنسان قبل أن يفعل أمرًا ما كما يلي: لو أن فعله هذا أصبح نظامًا وقانونًا يعمل به كل البشر، فهل تستقيم الحياة الإنسانية؟ إن كان الجواب نعم، فهو واجبٌ أخلاقي وإلّا فإنّه ميلٌ ورغبةٌ شخصية (أي أنّ الواجب الأخلاقي ينطبق على الفرد كما ينطبق على الآخرين، فلا إستثناء أبدًا من هذه القاعدة). أي أنّ العدالة قيمة مطلقة وليست نسبية كما أدعى ديفيد هيوم،  فمثلا:

  • المجرم القاتل يعرف أنّ القتل جريمةٌ، فهو لا يريد الآخرين ان يكونوا قتلةً، وإلّا سيتعرض للقتل ويخسر حياته، لكنه يعتبر نفسه استثناءً فيقتل،
  • السارق لا يريد الآخرين ان يسرقوا والا سيخسر ماله، لكنه يعتبر نفسه استثناءً فيسرق.

باختصار:

  • حين يتحرر فكر الإنسان من عالم الطبيعة حيث الميول والشهوات ويصبح عقله حرًا منها، فسيحكم العقل على الإنسان أن يتصرف طبقًا للواجب الأخلاقي،
  • حين يتصرف الفرد بعقلانيةٍ فهو يتصرف بثقةٍ لأنه حرٌّ من الأهواء والرغبات، فاذا كان هذا الفعل يصلح لأن يكون عالميًا يفعله ويقبله الجميع وتستقيم به الحياة الإنسانية (فهذا هو فعل الواجب الأخلاقي)،
  • أراد ايمانويل كانت ان يكون الإنسان عقلانيًا حرًا من أهوائه يتصرف طبقًا للواجب الاخلاقي الذي يحقق معنى الخير والأنسانية العالمية.

نقد نظرية الواجب الأخلاقي:

  • عبقرية ايمانويل كانت برزت بجلاء في تحديد الواجب الأخلاقي وعالميته ونظرته الثاقبة الى العدالة كقيمة عالمية مطلقة تضمن استقامة الحياة الإنسانية، لكنها مع الأسف لم تجد طريقها الى عالم المال والأعمال. لقد إختطفت الرأسمالية العقل الغربي وهندست ثقافة الأفراد ونياتهم بالأنانية المادية، الأرباح أوّلًا. وهذا دليلٌ على أنّ العقل البشري يمكن اختطافه والعبث به، وهذا ما ترك آثارًا وخيمة من حروب عالمية وغيرها أودت بحياة ملايين البشر،
  • النية الحسنة لا تعكس قيمة الفعل وعظمته، فنية المخترع الحسنة تنجز إختراعًا ينفع البشرية، ونية الغني الحسنة قد تطعم آلاف الفقراء، بينما النية الحسنة لدى آخرين لاتحقق أثرًا عظيمًا في حياة البشرية. لذا فإنّ أغلب عظماء البشرية تميزوا بالنية الحسنة في أرقى مراتبها ومعها جنبًا الى جنب جهدٌ جبّار وعملٌ متواصل لتحقيق الإنجازات، وقد ورد في دعاء مكارم الأخلاق (وانتًهِ بنيتي الى أحسنِ النيات وبعملي الى أحسنِ الأعمال).
  • النية الحسنة ضرورية لكنها:
  • لا تضمن صلاح الفعل فربّ أحمقٍ نيته حسنة، لكن يريد أن ينفعك فيضرك، وربّ نيةٍ حسنةٍ أودت بصاحبها لأنّه أفتقد الحكمة،
  • النية الحسنة ومقياس الواجب الأخلاقي كما طرحه كانت لا يرقى الى دفع الإنسان الى الإيثار والتضحية، لأنّ هذا يتعارض مع حب الإنسان الفطري لذاته، (لذا فمن الضروري أن يتغير الإطار الفكري ويتم اقناع الإنسان بأن تضحيته وايثاره في الدنيا سيجلب له أضعافًا مضاعفةً من الجزاء الأخروي).

كيف نجمع ايجابيات نظرية كانت للواجب الأخلاقي مع إيجابيات نظرية بنثام النفعية؟

الجمال في أي فعل يكون في جمال الفاعل وقيمة الفعل.  جمال الفاعل يتحقق عبر (النية الحسنة التي تضمنها مدرسة الواجب الأخلاقي)،  وقيمة الفعل تتحقق عبر (النفعية المتوازنة بين المدى القصير والبعيد وبين المصلحة الفردية والمصلحة المجتمعية التي تضمنها المدرسة النفعية المتوازنة). لذا يجب أن نبحث عن مدرسة أخلاقية تأخذ في اعتبارها في آنٍ واحد جمال الفاعل ونيته الحسنة كضرورة وقيمة الفعل كنتيجة مهمة، وتعود بالجزاء للفاعل وتستجيب لغريزته الفطرية في حب الذات لتضمن استمراريتها وعدالتها، فكيف يكون ذلك؟

؛؛ما أردت بيانه بوضوح هو أنّ الرأسمالية والحياة الغربية أعطت المساحة كاملةً لمدرسة بنثام النفعية مشفوعةً بالأنانية الفردية المادية على حساب المصلحة المجتمعية والمعنوية؛؛

الفلسفة البراغماتية:

جاءت الفلسفة البراغماتية من رحم الفلسفة النفعية التي نادى بها جيريمي بنثام وجون ستيوارت ميل حيث ولدت وترعرعت في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، على يد روادها تشارلز بيرس (1839-1914) وويليام جيمس (1842-1910) وجون ديوي (1859-1952) وتبعهم ريتشارد رورتي (1931-2007) وهيلاري بوتنام (1926- 2016) وغيرهم. والبراغماتية كلمة مشتقة من لفظة براغما اليونانية وتعني العمل.  وتسمى البراغماتية أيضا بالفلسفة النفعية او الذرائعية او الأدائية، ومن أهم مبادئها ما يلي:

  • ترى أن ما هو صادق اليوم قد يكون كاذبا أو خطأ غدا، فالأخلاق ليست ثابتة بل متغيرة وهي أداة ووسيلة للمنفعة،
  • تعتبر أن صدق الأراء واﻷﻓﻜﺎر يعتمد فقط على قيمتها الفورية العملية،
  • ترى أنه ليست هناك حقيقة قائمة بذاتها بل كل حقيقة بمثابة خطوة نحو حل مشكلة معينة ثم سرعان ما تصبح حلقة في سلسلة فكرية جديدة،
  • تتبنى البراغماتية نسيان الماضي فلا تهتم بنشوء الأفكار ومصدرها، بل تنظر الى الأمام دائما،
  • تتبنى المعرفة التجريبية فتعتمد على الوقائع العملية لإثبات صحتها، وليس على البراهين العقلية،
  • أدخل ويليام جيمس المؤمن بالمسيحية الأثار الوجدانية للتدين ضمن المنافع المتوخاة، فهو يقول (إذا أثبتت الأفكار اللاهوتية أن لها قيمة في الحياة الملموسة المحسوسة فهي أفكار صحيحة بالنسبة للبراغماتي)،
  • على العكس من ويليام جيمس، لا يعتبر ديوي أثر الأديان ضمن الأفكار النافعة فهو يقول: (ينبغي رفض كل الأفكار التي تتعالى على الطبيعة…. والاتجاه الى الخبرة حيث أنها تعلمنا أن كل شيء يتغير)، وفي مقال آخر يقول ديوي: (الفكر يهدف الى مساعدة الكائن الحي ليتوافق مع بيئته فالتأقلم الناجح المؤدي الى البقاء والنمو هو بمثابة المعيار على صدق الأفكار).

ورغم أنّ ستيوارت ميل في فلسفته النفعية حاول ان يعتبر المنفعة الاجتماعية العامة بدلا من المنفعة الفردية مقياسا للصدق والصواب، لم تنجح البراغماتية في إيجاد التوازن بين المنفعة الفردية والمنفعة الاجتماعية، بل أصبحت المنفعة الفردية هي الغالبة خاصة في ضوء النظام الرأسمالي الذي أطلق عنان الحرية الفردية وأعتبر الفرد محور الحركة الاقتصادية.

لقد قضت البراغماتية على مدرسة الواجب الأخلاقي فلا أخلاق ثابتة او مباديء انسانية، بل متغيرة حسب المصلحة والقيمة العملية. هذا ما تلخصه الجملة التي يرددها بعض الغربيين (The road to hell is paved with good intentions) ؛ أي أن النية الحسنة قد تكون طريقًا الى جهنم، فالمهم هو القيمة والنتيجة العملية.  ولعلّ العاملين في الصناعة يرون ذلك رأي العين، حيث تتقلب مواقف الأشخاص حسب موقعهم في الشركة وحسب مصلحتهم الحالية.

؛؛المدرسة الأخلاقية التي سادت في الغرب هي المدرسة البراغماتية التي تضحي بالمباديء لأجل المصالح المادية التي نادت بها المدرسة النفعية.  هذه المدرسة الأخلاقية المادية الجشعة المتقلبة المباديء  تغلغلت في أوساط الشركات ورجال الأعمال وجعلت المنفعة المادية مقياسا للنجاح ومحفزا للحركة الاقتصادية.  بل وأصبحت عصب الحياة في إدارة الأعمال والأسواق المالية، فالمنفعة المالية أي (الأرباح أولا) هي من يحرك الصناعة والتجارة والأسواق العالمية. لذا حين تكون ضمن طبقة الأثرياء التي تمثل فقط 1 الى 10%، فالبراغماتية تنصحك بعدم العناية بالمباديء الأخلاقية بل بالمصلحة العملية وهي ثروتك أنت؛؛

ثقافة الحداثة الغربية في الميزان:

الحداثة الغربية علم وثقافة.  العلم يشمل التطوّر الرائع الذي تحقق في العلوم والاختراعات والتكنولوجيا منذ القرن الخامس عشر وحتى الآن وهذا نتاجٌ استفادت منه البشرية وللعلماء الغربيين الفضل الكبير في تحقيق هذا التقدم العظيم.  أمّا الثقافة فهي العلوم الانسانية والاجتماعية التي تحدد معنى الحياة وغاية الإنسان وأهدافه وأسلوب حياته وتعامله مع نفسه ومع غيره. ولا ريب أن للمفكرين الغربيين الكثير من النظريات والافكار استعرضنا بعضها وبعض آثارها وهي محور حديثنا هنا. ولسنا نعمم الحكم على جميع النظريات الاجتماعية الغربية، بل سنذكر بعض فرضياتها بصورةٍ عامة وسلبياتها.

لقد تبلورت رؤية الحداثة الغربية بأن الإنسان محور الكون، فهو كائن حرّ عقلاني يملك كل وسائل التفكير الضرورية لفهم الطبيعة والحياة المادية التي يمكن تجربتها وملاحظة نتائجها وقياس كمياتها واستنتاج نظرياتها بدقة.  وبذلك أصبح المنهج التجريبي وما يتبعه من منطق رياضي وقوانين علمية هي المصادر الرئيسية للفكر البشري فغاب الدين والوحي وما وراء المادة. أي أن الحداثة الغربية رأت ما يلي:

  1. مادية الكون (فلايؤثر في الطبيعة سوى المادة التي يمكن اجراء التجارب عليها)، هذا لايعني انكار الخالق بل يعني قصر العلاقة مع الخالق لمن يشاء في الكنيسة دون أن يتدخل هذا الاعتقاد في تنظيم حياة المجتمع الغربي،
  2. عقلانية الانسان (العقل قادر على فهم الحياة وتدبير شؤونها، فلا حاجة الى الدين)،
  3. انتج العقل الغربي نظامًا اجتماعيًا نظّم العلاقة بين أفراده، وأطلق في القرن العشرين مباديء تحفظ حقوقه، وغير ذلك من الانظمة التي تمثل نقلةً نوعيةً في الحياة الغربية، الحرية والمنفعة الفردانية هي الأسس التي لا يمكن للفرد أن يتنازل عنها،
  4. نسبية القم الأخلاقية فلا قيم ولا حقيقة مطلقة، فالمدرسة الأخلاقية التي سادت في الغرب هي المدرسة البراغماتية التي تجعل المباديء متغيرة لتحقيق المصالح المادية التي نادت بها المدرسة النفعية. وبذلك نستطيع ان نفهم الكثير من المفارقات بين ما ينادي به الغربي نظريًا وما يمارسه عمليًا لتحقيق مصالحه في أنحاء العالم.

مع الأسف، لقد أخطأت ثقافة الحداثة الغربية كثيرا في بعض فرضياتها، كما سنوضحه هنا:

  • بعد أن غاب الدين كإطار فكري عام في الحياة الغربية، كان لابد من ملء الفراغ، فتبنى بعض المفكرين المنهج التجريبي كأساسٍ لفهم العلوم الاجتماعية بعد أن انبهروا بنجاح المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية وبناءً على المادية البحتة التي لاترى أثرًا لما وراء المادة في نفس الانسان وحياته. لكن العلوم الإنسانية كالدين واللغة والتاريخ والاقتصاد والأدب والفن تتعامل مع الشعور الإنساني الذي لا يمكن قياسه كميًا، كما تتعامل مع جوانب الانسان المادية. فالظواهر الإنسانية ليست خارجية مستقلة عن الإنسان، بل هي تعتمد على دوافعه النفسية الداخلية، فكل فعلٍ إنساني لا يمكن قياسه كميًا وإنما يمكن فهمه ووصفه في محاولة الوصول إلى نظريةٍ دقيقة. هذا المنهج الذاتي قد يفتقد الموضوعية، لأن الباحث يحتاج إلى إعمال ذهنه للوصول إلى فهمٍ ذاتي للظاهرة واستنتاج أسبابها،
  • تبنت الحداثة الغربية محورية الانسان وعقلانيته وقدرته على فهم العلوم الطبيعية والاجتماعية بعيدًا عن الدين الذي إعتبرته تقييدًا لحرية الانسان وحرمانًا له من عقلانيته. لكنّها عادت فحبست الإنسان في حدودٍ ماديةٍ أخرى كغريزته الجنسية كما فعل فرويد، او في بنيته الاجتماعية كما فعل كونت ودوركهايم وغيرهم من فلاسفة الاجتماع في نظرية البنائية الوظيفية التي جعلت الفرد أداةً صغيرةً في آلة المجتمع الكبير، وعلى الفرد أن يتقن دوره ويؤديه، وان لم يفعل، فسيطحنه المجتمع. لذا لا يملك الانسان القدرة والتأثير، كعقلاني خلاق يستطيع التفكير والتغيير بالطريقة المناسبة بل هو شيءٌ من أشياء المجتمع تحكمه قوانين المجتمع وميوله كالموضة والظواهر الأخرى.  وكمثال على سلب هذه العقلانية والحرية الفردية ، ننظر الى علاقة الموظف بالشركة التي يعمل فيها، والتي قد تضطر نتيجة عواصف السوق وانخفاض اسعار اسهمها الى تسريحه مع الآلاف. من زملائه لخفض التكاليف.  هكذا يحكم السوق على الشركة، فتحكم الشركة على الفرد نتيجة هذا النظام الذي تبنته الرأسمالية بسوقها الحر ونظريتها البنائية الوظيفية،
  • لقد غاب الاطار الفكري القيمي والأخلاقي عن الفكر الغربي، فالقيم نسبيةٌ والحرية مطلقةٌ والمنفعة فرديةٌ والبراغماتية مرنةٌ متلونةٌ. فمثلًا، انطلقت التحررية الشخصية من كلّ القيم والأعراف الاجتماعية وهي في انحدارٍ مستمرٍ لا نعلم اين قاعه، والتحررية الاقتصادية اطلقت نظام السوق الحرّ على مصراعيه فاصبح الفرد ريشةً تعصف به السوق مع نكسات الدورات الاقتصادية. هذا الإطار لا يرضي جميع الغربيين فهناك بعض الأصوات التي تنادي بتغييره،
  • رغم نجاح الحداثة الغربية في صناعة الثروة لكنها فشلت في توزيعها فلم تحقق السعادة المنشودة بل إرتفع منسوب القلق الغربي الى مستويات قياسية وتفاقمت الطبقية الاقتصادية الى مستوياتٍ مروعة.

لقد تركت الثقافة الغربية إرثًا ثقافيًا تحاول الآن نشره عالميًا عبر هندسةٍ ثقافيةٍ متكاملة وهو ثقافة الأرباح أوّلًا التي لا تقتصر على تحقيق الأرباح بل تشمل تغيير نمط الحياة لتكون ماديةً نفعيةً براغماتيةً بامتياز، والسؤال هل يوجد لدينا بديلٌ ثقافي عملي وهل ثقافة الإنسان أوّلًا هي البديل؟ هذا ما سأحاول اثباته لاحقًا.

بعد أن تحدثنا في الأجزاء الأول والثاني والثالث عن الخلفية الثقافية والمدارس الأخلاقية الغربية، سوف نستعرض في “الجزء الرابع” الرأسمالية وأثرها على الفرد والثروة والطبيعة والتحديات الاقتصادية التي واجهتها ولماذا لم تحقق السعادة المنشودة، وماهي الحاجة الماسة لتصحيح بوصلة الحضارة البشرية. والحمد لله ربّ العالمين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *