نظرية الإنسان أوّلًا (الجزء الأول) – الدكتور عبدالجليل عبدالله الخليفه

لماذا موضوع “الإنسان أوّلًا”

بعد رحلتي كعضو  في جمعية مهندسي البترول العالمية (Society of Petroleum Engineers, SPE) لأكثر من خمسة وعشرين عاماً، شاء الله تعالى ان يكتب لي فرصةً رائعةً وذلك بعد أن رشحتني الجمعية في عام 2005م لأكون رئيساً لها لعام 2007م.

كان من أهم برامج رئيس الجمعية زيارة فروع الجمعية العالمية وحضور المؤتمرات العلمية وكتابة مقالةٍ شهريةٍ في مجلة الجمعية بالإضافة الى رئاسة مجلس إدارة الجمعية ووضع تصورٍ مستقبلي للصناعة البترولية العالمية.  وحيث أني كنت أول رئيسٍ للجمعية من قارتي آسيا وافريقيا، فقد أردت ان أثبت ان مهندسي هذه المنطقة جديرون بهذه المناصب.  وبناءً عليه أخترت أن يكون ما سأتحدث عنه في زيارتي للفروع وما سأكتب عنه في مجلة الجمعية موضوعاً مهماً لمستقبل الصناعة وتطورها.

كنت ولا ازال على قناعةٍ تامةٍ ان أهم المواضيع هو طموح الأنسان ورغبته للعيش بسعادة في أجواء تسودها العدالة والكفاءة وأثر ذلك الكبير على إبداعه و إنجازاته، ومقارنة ذلك مع الواقع الفعلي الذي يعيشه العاملون في الصناعة البترولية وفي الصناعات الأخرى.

لقد عاشت الصناعة وشركاتها ثقافة (الأرباح أوّلاً) طيلة القرون الماضية فأنجزت شوطاً بعيداً في صناعة الثروة وفي تقدم الصناعة.  (الأرباح أوّلًا) هي قمة جبل الجليد الذي يطفو على سطح الماء، أما الجزء المختفي من جبل الجليد فهو نظريات فلسفية واقتصادية طورتها الحضارة الغربية خلال الثلاثة قرون الماضية، فأنشأت البنوك والشركات وقنّنت الأسواق العالمية وأسست منظمة التجارة العالمية وأجرت الأبحاث في الجامعات وحصدت جوائز نوبل، حتى أصبح العرف السائد في عالم المال والأعمال.

الأرباح أوّلًا هو شعار هذه المدرسة المتكاملة والغنية بأفكارها ونظرياتها وأسواقها ومصالحها والتي هندست ثقافة البشرية عبر قرون من الزمن وأصبحت تحكم العالم اليوم دون منازع. لكنها يبدو أنها أضحت الآن سبباً في تعاسة الكثير من العاملين وفي تضييع طاقاتهم البشرية، والسؤال هو ما مدى صحة هذا الشعور وكيف يتم توثيقه وما هو الحل المطلوب؟

ولتوثيق الحالة النفسية للعاملين في صناعة البترول فقد أرسلت الجمعية استبياناً في شهر ديسمبر عام 2005م للإستفسار عن سعادة العاملين في الصناعة النفطية ومدى إنسجامهم في أعمالهم وهل تستفيد الصناعة من كامل طاقاتهم؟  وأجاب عليه 3680 مهندس في أنحاء العالم، وفي شهرأكتوبر عام 2006م أرسلت الجمعية استبياناً آخر أجاب عليه 9448 مهندس من أنحاء العالم وكانت النتيجة كما يلي:

أوضحت نتائج الأستبيان أن 57% من المهندسين يعتقدون بأن أعمالهم تستفيد من طاقاتهم كاملة بينما يعتقد 43% منهم بأن لديهم طاقات كبيرة لا يستفاد منها في أعمالهم.  وكذلك أن 68% من المهندسين يشعرون بالسعادة في أعمالهم بينما يشعر البقية ( 32% ) من المهندسين بعدم السعادة في أعمالهم.

الجدير بالذكر انه في عامي 2005م و 2006م كان سعر البترول في ارتفاعٍ مستمر وكانت الشركات تسعى لتوظيف المزيد مما أعطي للعاملين أماناً وظيفياً.  ولك أن تتصور ماذا ستكون نتيجة الإستفتاء لو أجري في سنوات الإنكماش وانخفاض الأسعار كعامي 2015 و 2016م حيث تم فصل مئات الآلاف من الموظفين.  والسؤال المهم الذي يجب أن نجيب عليه هو كيف يمكن أن تستثمر الصناعة هذه الطاقات الأنسانية العظيمة لخدمة البشرية وكيف يمكن أن تحقق الصناعة سعادة أكثر للعاملين مع رفع انتاجياتهم؟

لقد وقع اختياري على موضوع الصناعة البتروليه عام 2020م: مفهوم (الإنسان أوّلاً)،  حيث سيتضح أن سعادة الإنسان تتحقق في أجواء تسودها قيم العدالة والكفاءة لأنها تلامس القلب البشري وتستنهض طاقاته وتحقق كرامة الأنسان وربحية الشركات في آن واحد.  كما سيتبين أن هذا الموضوع ينطبق على مساحة واسعة من النشاط البشري تتعدى الصناعة البترولية الى غيرها من الصناعات.

(الإنسان أوّلًا) مفهوم جديد ليس له سوى أقل من خمسة عشر عامًا ولم يزل في طور التفكير والتأطير مقارنة بمفهوم الأرباح أوّلًا وتاريخه الذي يمتد الى ثلاثمائة عام، والذي شارك في تأطيره وتنظيره مئات بل آلاف العلماء والباحثين طيلة هذه الفترة.

والمفاهيم الجديدة تحتاج الى عشرات السنين حتى تضرب جذورها وتؤسس لها قاعدة فكرية وفلسفية تناطح بها المفاهيم الرائجة خاصة إذا كانت ذات تأثير واسع وعريض في حياة الأفراد والمجتمعات.  فليس من المتوقع أن يتخلّى البشر عن مفهوم الأرباح أوّلًا الذي تأسست بناءً عليه أسواقهم وبنوكهم وشركاتهم دون أن يكون البديل المقترح (الإنسان أوّلًا) قد أثبت جدواه العملية وضرورته القصوى في مستقبل البشرية.

فكما احتاج مفهوم الأرباح أوّلًا الى آلاف الباحثين ومئات السنين ليصل الى مرحلته الحاضرة، فسيحتاج مفهوم الإنسان أوّلًا الى عشرات السنين والمفكرين ليبدأ في التأثير على الساحة العالمية. ونعلم جيدًا أنّ النجاح حليف الصابرين، أصحاب العزيمة الراسخة والنظرة الثاقبة.

الخلفية التاريخية

النظريات كالنبات تنمو في بيئةٍ معينةٍ، فما هي البيئة التي ترعرعت فيها نظرية الأرباح أوّلًا؟  هذا ما سنناقشه بإسهاب عسى أن نتلمس التطور التاريخي لهذا المفهوم ومواضع الخلل فيه. ثم نعرج بعد ذلك على مفهوم الإنسان أولًا ونشرح إطاره الفكري العام وتطبيقاته المختلفة في الحياة الإنسانية، راجيًا من الله العلي القدير أن يوفق الفلاسفة والعلماء والباحثين للغوص في هذ المفهوم والعون في تنفيذه رغبةً في تصحيح بوصلة الحضارة الإنسانية لما فيه خير وصلاح البشرية.

سنتطرق في الخلفية التاريخية الى الجذور المعرفية لمفهوم الأرباح أوّلًا وهي:

  • تاريخ الكنيسة وصراعها مع علماء الفلك والطبيعة ومع حركة الإصلاح اللوثرية
  • ردة الفعل العنيفة داخل المجتمع الأوروبي،
  • مذاهب المعرفة (المذهب العقلي والمذهب التجريبي)،
  • المنهج التجريبي الموضوعي والمنهج الذاتي في العلوم الإنسانية،
  • النظريات الاجتماعية والنفسية،
  • أبرز مدارس الأخلاق الغربية كالنفعية ومدرسة الواجب الأخلاقي لكانت،
  • الفلسفة البراغماتية وأثرها في الفكر الغربي،
  • الفلسفة المادية والحداثة الغربية،
  • الفلسفة الوجودية،
  • الفلسفة التحررية،
  • الحداثة الغربية في الميزان:
    • الرأسمالية (الأرباح أوّلًا) وعوامل نجاحها،
    • الرأسمالية والثروة واليد العاملة والطبيعة وأجواء العمل والتحديات الاقتصادية التي واجهتها،
    • هل حققت الراسمالية السعادة المنشودة،
    • أسباب القلق الغربي والانحدار القيمي حاليا،
  • الحاجة الماسة لتصحيح بوصلة الحضارة الغربية.

هذا ما سيتم الحديث عنه بالتفصيل في الجزء (الثاني) من نظرية الإنسان أوّلًا، ولنا موعد معكم في المستقبل القريب. والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *