اليخضور – حسن المرهون

كم هو جميل قوس قزح إذا ما تربع في السماء ناشرا ألوانه الزاهية في الفضاء كما ينشر الطاووس ريش ذيله. يا لها من دقائق يتمنى الإنسان أن لا تنتهي وهو يشاهد ذلك المنظر الخلاب. أقواس من النور الملون تملأ الأفق، تشد بصر الإنسان، تبهره، تدخل السرور في قلبه. لكن ما هو أجمل من هذا أن نتابع مسيرة هذا النور المتعدد الألوان بسرعته الهائلة وهو يهبط على الأرض ويستقر على ورق الأشجار، يصنع الحياة، ويحقق لطف الله.

يقول الخالق في محكم آياته:

(وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۗ انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ﴿الأنعام 99)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) (الحج 63)

بجانب الماء لطف الله يتحقق بالتمثيل الضوئي، والذي يقوم ببطولته اليخضور في خلايا النبات –  مصنع الحياة.

واليخضور عبارة عن صبغة خضراء تتكون منها النباتات مهمتها إمتصاص اشعة الشمس وتخزين الطاقة الشمسية على شكل قوالب من السكر بعد أن تبنيها داخل جبيلات اليخضور. ويعتبر اليخضور الذي يجعل النبات لونه مخضر أهم مركب كيميائي على وجه الأرض. وكما يوجد اليخضور على اليابسة كحشائش واشجار فانه يتواجد في البحار على شكل نباتات مجهرية تدعى (بلانكتون) والتي تتغذى عليها الأسماك.

يستخدم النباتات الطاقة التي يوفرها اليخضور مع مواد التربة والهواء والماء ليصنع الغذاء على سطح الأوراق الخضراء عبر عملية التمثيل الضوئي التي تحول الماء وثاني اكسيد الكربون السام والطاقة من النور الى سكر وأوكسجين. يخزن السكر المصنوع في جذور الشجرة والساق لنمو الشجرة ولصنع الثمار وتحتفظ الشجرة بالباقي كمخزون لحالات الطوارئ كأوقات الشتاء او عندما لا تصل أشعة الشمس الي الشجرة. أما الأوكسجين فيطلق في الهواء كناتج ثانوي لصناعة الغذاء التي يحتاجه النبات. وجميع الكائنات الحية تعتمد اما مباشرة على النباتات اوعلى كائنات تقتات على النباتات.

معادلة التمثيل الضوئي:

من خلال التمثيل الضوئي تتحول الطاقة الشمسية القادمة على شكل حزم من الضوء بسرعة 300 كم في الثانية الى طاقة كيميائية على شكل سكر.  وللحصول على جزيئ واحد من السكر نحتاج الى 12 جزيئ من الماء و 6 جزيئات من ثاني اكسيد الكربون بالإضافة الى كمية كبيرة من أشعة الشمس كما في المعادلة التالية:

12 جزيئ من الماء + 6 جزيئات من ثاني اكسيد الكربون + اشعة الشمس = جزيئ واحد من السكر (الجلوكوز) + 6 جزيئات من الماء + 6 جزيئات من الأوكسجين،

فنتيجة هذا التفاعل هو إنتاج السكر وإسترجاع نصف كمية الماء المستخدم بالإضافة للأوكسجين.

وبما أن ميدان عملية التمثيل الضوئي هو أوراق الشجر، لذا يجب ان يتوفر الماء وثاني اكسيد الكربون واشعة الشمس على ورقة الشجر لتتم العملية وينتج السكر.

فالماء يتم الحصول عليه من جذور الأشجار والذي يصل الى الأوراق عبر الخاصية  الشعرية. ويتم الحصول على ثاني اكسيد الكربون من ثقوب صغيرة جدا على السطح السفلي لأوراق الشجر تسمى ستوماتا. أما أشعة الشمس فيتم إمتصاصها عن طريق اليخضور الموجود كطبقة من طبقات الجبيلات الخضراء. والجبيلات هذه تحتوي على خمس طبقات رقيقة كتكوين من تكوينات ورقة الشجر وهي :

طبقة الغلاف الخارجي والداخلي وهو عبارة عن الوعاء الذي يحفظ الجبيلات

طبقة الستروما وهو سائل غليظ يعمل على تحويل ثاني اكسيد الكربون الى سكر

طبقة التيلاكود وهي التي تحول الطاقة الشمسية الى طاقة كيميائية

طبقة جرانا وهي طبقة مكملة لطبقة التيلاكود

طبقة اليخضور وهي الصبغة الخضراء المسؤولة عن إمتصاص الطاقة الشمسية.

ويتم التمثيل الضوئي على مرحلتين مرحلة التفاعل الذي يحتاج الى ضوء ويحدث في طبقات اليخضور وجرانا والتيلاكود أما مرحلة التفاعل الذي لا يحتاج الى ضوء فتحدث في طبقة الستروما. ففي المرحلة الأولى يتم تحويل الطاقة الشمسية التي يمتصها اليخضور الى طاقة كيميائية وفي المرحلة الثانية تؤخذ هذه الطاقة الكيميائية الى طبقة الستروما وتتم فيهاعملية معقدة من التفاعلات لإنتاج السكر بدون الحاجة الى ضوء.

التمثيل الضوئي الصناعي:

العلماء يحاولون تقليد الطبيعة منذ القدم لكن بعد الثورات الصناعية ركز العلماء في أبحاثهم على إيجاد بدائل متعددة لإنتاج الطاقة وكان من ضمن هذه البدائل هو إنتاج طاقة نظيفة عن طريق محاكاة التمثيل الضوئي في المختبر. ومن أبرز المحاولات في السنوات الأخيرة هو مشروع هيليوس بقيادة العالمة لايلاك اميراف وثلاثون عالما آخر بالتعاون مع جامعة بيركلي ومختبرات لورانس الإمريكية. هذا المشروع الذي يقضي ببناء ورقة شجر صناعية قادرة على القيام بإستغلال ثاني اكسيد الكربون المنبعث بكثرة من المصانع وعوادم السيارات. إن فكرة سحب ثاني اكسيد الكربون من الهواء وإعادة تصنيعه كوقود من جديد للسيارات بإستخدام التمثيل الضوئي الذي ينتج طاقة من ثاني اكسيد الكربون تماما كما يفعل النبات تعتبر فكرة رائدة ومغرية للعلماء وتستحق البحث. مشروع هيليوس إستطاع عبر أبحاث مضنية وبالإستعانة بتقنية النانو والمواد شبه الموصلة أن يمتص النور في المختبر ويحول ثاني اكسيد الكربون الى أوكسجين وكحول (وقود). والمشروع الآن في طور البحث عن مواد تؤدي نفس النتائج ولكن بشكل إقتصادي وأداء عال.

فهل يكون الدخان الأسود الحقير هو الأخضر النفيس يوما ما ومصدرا للطاقة في المستقبل والبديل المنتظر؟

أبحاث وإكتشافات متواصلة:

حسب الإحصائيات العالمية سيصل سكان العالم الى 9 بليون نسمة في عام 2050 ميلادية وبكل تأكيد سيحتاج الإنسان الى كم هائل من الطاقة كي يلبي طلبات هذه البلايين. ما تبقى من النفط لن يلبي هذه المطالب والطاقة النووية محفوفة بالمخاطر والبدائل الأخرى جميعها قيد البحث والدراسة فأين موقع التمثيل الضوئي بين بدائل الطاقة؟

الدراسات الحديثة تؤكد تقدم هذه الفكرة على غيرها خاصة بعد تعرف العلماء على الخميرة المسؤولة عن تنظيم إنتقال الإلكترون أثناء عملية التمثيل الضوئي في مراحله الإثنتين.

كما تفيد بعض الأبحاث الحديثة أن حشرات المن ربما تمتص أشعة الشمس وتحولها الى طاقة كما يفعل النبات، وبالرغم من غرابة هذا الإحتمال إذ أن المعروف أن التمثيل الضوئي خاص بالنبات دون الحيوانات ومنها حشرات المن. ومن المعروف أن كثير من المخلوقات تعتمد على اليخضور للمحافظة على نظام المناعة وصناعة بعض الفيتامينات لكن الحيوانات تحصل على هذا من غذائها وليس عن طريق التمثيل الضوئي. العلماء يؤكدون على وجود طبقة من اليخضور بعمق 40 مايكرومتر على بشرة حشرات المن وأنها تستطيع إمتصاص اشعة الشمس وتحولها الى طاقة. ما زال الجزم بهذا مبكرا ويحتاج الى المزيد من الأبحاث للتحقق من هذا الإحتمال. لكن إذا ثبت أن حشرات المن تستطيع أن تنتج الطاقة من اشعة الشمس فهذا يفتح أبواب كثيرة ويغير كثير من الحقائق العلمية قد تصل بنا الى حد أن نتسائل: هل يمكن أن يحقن الإنسان بمادة اليخضور تحت بشرته ويؤمن لنفسه الغذاء من خلال التواجد تحت أشعة الشمس وتتم عملية التمثيل الضوئي كما يفعل النبات؟ وبالتالي يمكن تأمين الطعام لكل البشر فلا مجاعة ولا نقصان مناعة.

اليخضور المصنع الوحيد على وجه الأرض الذي يصنع فيه الطعام ، لذا تعتمد حياة الإنسان من جميع النواحي على النباتات والاشجار التي تنمو في بيئته. فهي التي تطعمه وتلبسه وتمتص ما يخرجه من سموم كثاني اكسيد الكربون وتوفر ما يحتاجه من أكسجين كما تؤمن له مواد البناء والدواء. فعندما يحدث تغيير وخلل للمساحة الخضراء التي تحيط بنا نحن البشر، فإن صحتنا واقتصادنا ونظافة بيئتنا ستتأثر. ففي عام 1989م تعرض آلاف من البشر للمجاعة عندما تعرض الساحل الشرقي لأفريقيا للجفاف وانحسرت الرقعة الخضراء.

 

فلولا الشمس واليخضور لما عاشت النباتات ولما تجدد الأوكسجين وبدون الأوكسجين تنعدم الحياة. وفي نهاية المطاف نحن جميعا نعتمد في حياتنا على اليخضور. فالنباتات تنتج الأوكسجين كناتج ثانوي لصناعتها للغذاء. والإنسان يحتاج لهذا الغذاء كي يعيش كما يحتاج للأوكسجين الذي هو ناتج مخلفات النباتات كي يتنفس ويحيا.  عجبا للإنسان كيف يجرؤ على قلع شجرة وهو يعلم أنه منها يأكل ومنها يتنفس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *