“ضمائرنا تفضحنا” – بقلم الدكتور أحمد فتح الله

مدخل
لغتنا تحمل أسرارًا عن مشاعرنا، ومفهومنا الذاتي، وذكاءاتنا المختلفة، منها العاطفي والاجتماعي، بل وكل شيئ عنا. يمكن أن تكون كلماتنا الأكثر نسيانًا، أو الأقل اهتمامًا بها، مثل الضمائر (personal pronouns)، هي الأكثر وضوحًا؛ في الحقيقة أنماطها مميزة مثل بصمات الأصابع.

المصدر: analbahr.com

درس علماء اللغة من مختلف الفروع دور الضمائر التي نستخدمها في سلوكنا اللغوي، الشفوي والكتابي، إضافة إلى وظيفتها النحوية والبلاغية (الإحالية)، تبين أن الضمائر لها وظائف متعددة: نفسية، اجتماعية وبراغماتية. وفي هذا المقال سأتناول الضمائر في علم اللغة النفسي (Psycholinguistics)، وتحديدًا علم النفس المعرفي (Cognitive Linguistics)، على أمل أن أتناول وجهات النظر الأخرى في قابل الأيام في مقالات منفردة.

الضمائر والرسالة النفسية
حين نختلف مع الآخرين يزداد استخدامنا لكلمة “أنت”، وربما اتهامنا بها، وأنَّ كلمة “أنا” (I) و “ني” (me) [1] تحتلان مركز الصدارة في كلامنا. هذه الكلمات الوظيفية (functional words)، الصغيرة، قوية بشكل مدهش في العلاقات الشخصية. ما الذي يخبرنا استخدام الضمير عندما نخاطب بعضنا البعض؟
بالإضافة إلى أن اختيار الضمير هو جزءٌ من الطريقة التي نتفاوض بها لتكوين أو إرساء علاقات مع الآخرين، تبين أن هذا الاختيار ينبئ عن أشياء كثيرة، على سبيل المثال، الصحة العقلية (mental health) وحالة العلاقة الزوجية (marital relationship) والاستجابة لضغوط الصدمة (trauma). من خلال العمل مع العديد من الزملاء، وجد عالم النفس جيمس بينيباكر، مؤلف كتاب “الحياة السرية للضمائر” (The Secret Life of Pronouns [2])، أن كيفية استخدامنا للضمائر، وباقي الكلمات الوظيفية الأخرى، توفر تقييمًا جيدًا بشكل مدهش للحالات النفسية للأشخاص.


على سبيل المثال، أظهرت العديد من الدراسات أن عبارة “أنا” (في الكلام) غالبًا ما تترافق مع الاكتئاب. بعد فحص مقالات كتبها طلاب الجامعات، وجد الدكتور بينيباكر، مع غورتنر  وروود، (2004)[3] أن الطلاب المكتئبين يستخدمون كلمات I (أنا) و me (ني) أكثر من الطلاب غير المكتئبين. وفي دراسة في شعر الشعراء الذين انتحروا وجد بينيكر مع ستيرمان (2001) [4] معدلات أعلى في استخدام كلمات (I) مقارنةً بغيرهم من الشعراء (غير الانتحاريين)، مما دفع الباحثين للاستناج أن الشعراء المنتحرين كانوا أكثر انغماسًا في الذات أو الذات المتصخمة.ولكن استخدام المزيد من كلمات “أنا” لا يعني دائمًا أن الشخص مكتئب، لا سيما في التفاعلات الاجتماعية التي تنطوي على اختلافات في الحالة النسبية أو زيادة الاتصال الاجتماعي. على سبيل المثال، التعايش مع صديق غالبًا ما يظهر “نحن” (we) و “أنتم” (you) فينا جميعًا، مثل: “لماذا لا نذهب لتناول العشاء؟، ويمكنك إخباري بكل شيء عن ذلك”. لكن التحدث إلى شخص ما حول شيء ما تحتاجه لمشروع ما من المرجح أن يستلزم التحول إلى “أنا” (I). بعبارة أخرى، تتطلب السياقات المختلفة ضمائر مختلفة، ولكن يبدو أن التحول القابل للقياس في ضمائر الشخص من “نحن” إلى “أنا” يشير إلى شيء ما حول الحالة العاطفية للفرد.

مصدر الصورة: www.dentons.com

الضمائر في التحديات الشخصية والكوارث
يمكن أن يساعدنا فحص استخدام أنماط الضمير في فهم كيفية تعامل الأشخاص مع تأثير الأحداث الكارثية الكبرى أو المؤثرة التي تنطوي على تحديات شخصية. في دراسة التحولات في استخدام الضمير بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001 (على مدينة نيويورك في أمريكا) في كل من بيانات المحادثة والدردشات المنشورة عبر الإنترنت، اكتشف الباحثون أن هناك انخفاضًا ملحوظًا في استخدام ضمائر “أنا”وزيادة مقابلة في استخدام ضمائر “نحن” ، عاكسًا الشعور بالانتماء والتجربة العاطفية المشتركة التي ألهمها الهجوم، حسب دراسة لبينبيكر مع مهل وكوهن (2004)[5].

بعبارة أخرى، أصبح الناس وقتها تحت ضغط الحدث أكثر تركيزًا على أن يكونوا جزءًا من مجتمع أكبر وعلى كيفية ومدى ارتباطهم مع الآخرين في هذه التجربة المأساوية.

هذا الإحساس بالانتماء، كما يتجلى في الزيادة في صيغة الجمع بضمير المتكلم “نحن” عند التعامل مع الأحداث المأساوية، يبدو أنه يؤدي إلى صحة عقلية أفضل. على سبيل المثال، حدث استخدام متزايد لـ “نحن” بين الطلاب مع انخفاض في الزيارات إلى مركز صحي جامعي لعدة أسابيع بعد فاجعة الحرم الجامعي لجامعة تكساس (غورتنر وبينيبكر، 2003)[6].

الضمائر وعلاقات الحب والزواج
يبدو أيضًا أن العلاقة الزوجية تتأثر بنوعية “الخطاب الضمائري” (pronominal talk)، حيث تظهر دراسات “الرضا الزوجي” (marital satisfaction) أن الأزواج الذين يستخدمون ضمائر الجمع بضمير المخاطب أكثر، على سبيل المثال، ” مثلنا” (like us) أو نحن (we) أبلغوا عن رضا أكبر من الأزواج الذين يستخدمون “كلمات-أنا ” أكثر (سيلارس وآخرون، 1997)[7]. هذا ليس مفاجئًا إذا علمنا أن “نحن” تعكس وجهة نظرتنا لأنفسنا كجزء من فريق وليس كأفراد.

مصدر الصورة: JIN DING/CHINA DAILY

ولكن، في المقابل، في حالة انفصال المحبين أو الأزواج أو أمر مجهد شخصيًا أو نفسيًّا، يبدو أن التحول إلى استخدام “أنا” أكثر تركيزًا على الذات يساعد على تحديد الموقع (أو الموقف) بالنسبة للانفصال أو الإجهاد. عند حدوث حدث مزعزع للاستقرار – سواء في الحياة العاطفية أو المهنية – يبدو أن الزيادة في استخدام كلمة “أنا” تتبع معالجة الأفراد للحدث وهويتهم المتغيرة المرتبطة به (بلاكبيرن، برودي، وليفيببفري، 2014)[8].
وقد دلت الأبحاث التي أجريت على المدونات الخاصة عن الإنفصال الرومانسي أن استخدام الضمائر المركزة “الأخرى” (other) مثل ضمائر الشخص الثالث “هي” (she) و “هي” (her) تزداد. “هذا ليس مفاجئًا جدا”، تقول الدكتورة فاليري فريدلاند، عالمة اللغويات في جامعة نيفادا، في مدينة رينو في أمريكا، وتضيف شارحة: “فعندما ننفصل عن شخص ما، عادة ما يركز سرد العلاقة في حكايات ما بعد الانفصال على شعور الفرد بـ (كيف “أنا”) وكيف تصرف (ت)، على الأقل في التأملات الخاصة والمراجعة. وبدلًا من المضي قدمًا، يزداد استخدام ضمائر الـ “نحن” بعد الانفصال في إشارة إلى صعوبة التكيف مع نهاية العلاقة [9].

في الختام، الضمائر عمومًا، و “أنا” و “نحن” خصوصًا، تعمل بصمت لتفضحنا، من حيث لا ندري، عن دواخلنا ومواقفنا، فما قد تبدو أنها مجرد كلمات صغيرة -نضنها بريئة- تستحق منا المزيد من الاهتمام، لجودة العلاقات، والصحة العاطفية والعقلية والترابط المجتمعي.

الخلاصة
تشير الأبحاث إلى أن الضمائر (في الخطاب والنص):
– توفر نوافد على الحالات العاطفية والعلائقية والمواقف لمستخدميها.
– زيادة في استخدام ضمائر المفرد “أنا” (I, me, my, mine)، مؤشر على الفردانية والعزلة في الأزمات العاطفية وغيرها.
– هناك علاقة بين الاكتئاب وزيادة في استخدام ضمائر المفرد “أنا”.
– زيادة استخدام ضمائر الجمع “نحن” (we, us, our,ours) تشير إلى تركيز أكبر على “الجماعة” و “الانتماء”[10].
____
الهوامش
[1]  كما في “رأيتني”، “سمعتني”، “قلت لي”، وياء الملكية “قولي”، “كلامي”، “رأيي”، الخ… ممكن أن نعتبرها “كلمات-أنا”، لتعني هذه الصيغة (الفاعلة والمفعولة، ويا الملكية)، وما يقابلها في “المتكلم الجمع” “كلمات-نحن”، وفي “المخاطب المفرد”: “كلمات-أنت” والمخاطب الجمع “كلمات-أنتم”.
[2] James Pennebaker, author of The Secret Life of Pronouns: What Our Words Say About, Bloomsbury Press, 1st Edition, New York, USA, 2011.
[3] Rude, S., Gortner, E., & Pennebaker, J. Language use of depressed and depression-vulnerable college students. Cognition and Emotion, 2004, 18(8), 1121–1133.
[4] Stirman, S, Pennebaker, J. Word use in the poetry of suicidal and nonsuicidal poets. Linguistic Markers of Psychological Change Surrounding September 11, 2001
[5] A. Cohn, M. Mehl, M., Pennebaker, J. Linguistic Markers of Psychological Change Surrounding September 11, 2001.
[6] Gortner, E. & Pennebaker, J. The Archival Anatomy of a Disaster: Media Coverage and Community-wide Health Effects of the Texas A&M Bonfire Tragedy.  Journal of Social and Clinical Psychology, 2003, 22(5), 580–603.
[7] Sillars, A. et al . Relational characteristics of language: Elaboration and differentiation in marital conversations. Western Journal of Communication, 1995,  61(4):403-42
[8] Blackburn, K., Brody, N., & LeFebvre, L. (2014). The I’s, we’s, and she/he’s of breakups: Public and private pronoun usage in relationship dissolution accounts. Journal of Language and Social Psychology,2014, 33(2), 202–213.
[9] https://www.psychologytoday.com/us/blog/language-in-the-wild/202109/the-psychology-pronouns
[10] نفس المصدر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *