مقدمة كتاب “الخطابة العربية: الفن والوظيفة” (ج1) – ترجمة الدكتور أحمد فتح الله

(الجزء الأول)
من ترجمة مقدمة كتاب “الخطابة العربية: الفن والوظيفة”* للدكتورة طاهرة قطب الدين**

مصدر الصورة: femina.in/trending

في بداية العالم الإسلامي في القرنين الأول والثاني الهجري (السابع والثامن الميلادي)، اندمج الدين والسياسة وعلم الجمال في إثراء فن الخطابة العربية (Arabic Oration). إن الأجيال الأولى من المسلمين وأسلافهم في شبه الجزيرة العربية، الذين كانوا يعيشون في عالم شفهي إلى حد كبير، قد صقلوا بجدية فن الكلمة المنطوقة ببلاغة، مجازًا، إيقاعيًا، مناسبًا، ذاكريًا. كانت خطاباتهم ومواعظهم رائعة في البراعة الخطابية، وكانت أيضًا الأداة الرئيسة لصنع السياسات والإقناع، والقناة الأساسية لنشر التعاليم الأخلاقية والدينية.

من ناحية أخرى، كان الخطاب في هذه الفترة شكلًا فنيًّا أساسيًّا. بدلًا من التركيز على الرسم أو النحت أو الموسيقا، ركزت المواهب الجمالية للعرب الأوائل على الإبداع اللفظي البليغ، وهذه تشكل بعضًا من أجمل التعبيرات وأكثرها قوة في الشريعة العربية. كانت الخطابة، جنبًا إلى جنب مع القرآن والشعر، من أسس التقاليد الأدبية العربية الناشئة. مع قدر كبير من النفوذ الروحي والزمني، فقد ساد لأكثر من قرن باعتباره النوع النثرى البارز.

من ناحية أخرى، كانت الصياغة الفنية للخطابة هي النول الذي نسج فيه المحركون واهتزاز المجتمع خيوط خطابهم الديني والسياسي. باعتباره الشكل الرئيس للخطاب العام، كان له وظائف إدارية واجتماعية وتعبادية مركزية. كانت الوسيلة الأساسية للحكومة، والأداة الرئيسة للتفاوض على السلطة، والأداة الرئيسة للتعليم العقائدي. لقد حث المحاربين على القتال، وقنن التشريعات المتعلقة بالمسائل المدنية والجنائية، وزاد الوعي بقرب الموت وأهمية عيش حياة فاضلة. دعت المستمعين إلى الدين الجديد، وشكلت جزءًا من طقوس عبادة الدين، بالإضافة إلى كونه جزءًا حيويًّا من المشهد الأدبي العربي، فقد كان بالتالي مكونًا أساسيًا للقيادة السياسية والعسكرية والروحية. تقدم بقايا هذه النصوص الخطابية(1)، المحفوظة في البداية عبر نظام نقل شفهي معقد قائم على “فن الاستذكار”، صورة مصغرة رائعة للمجتمع والثقافة الإسلامية الوليدة.

ولكن على الرغم من الأهمية الهائلة للخطابة العربية للعديد من مجالات الدراسة الإسلامية والعربية، إلا أنه لم يتم تحديد معالم هذا النوع في أقدم فترة معروفة له، ولم يتم استغلال شفهيته كأداة منهجية. تبقى الأسئلة الكبيرة: ما التضاريس الموضوعية والوظيفية والجمالية للخطابة؟ كيف شكلت الشفوية فنها وفعاليتها؟ من هم الخطباء الكبار؟ لماذا توسطت مفاهيم السلطة والفضاء العام في استقبال الخطبة؟ هل الأجزاء المسجلة أصلية؟ ما القيمة التاريخية للخطابة؟ وعبر القرون حتى اليوم، كيف أثرت الخطبة على الأدب العربي والحكومة الإسلامية؟

باستخدام العدسة الحاسمة لنظرية الشفوية وكثير من الأدوات التكميلية متعددة التخصصات التي تتناسب مع الموضوع المعقد، يبحث هذا الكتاب في الحفظ والمصدر، والأنواع والموضوعات، والبنية والأسلوب، وديناميات سلطة الخطيب والجمهور للخطابة العربية. يبدأ الكتاب بفصول تناقش خصائص الخطابة المبكرة بتصميمها ذاكري، واستحضار الكناية، والصيغ المصممة، وجماليات الشفوية والإقناع، تليها فصول تعالج الأنواع الرئيسة الأربعة للخطابة: خطبة المشورة التقية، وطقوس الجمعة وطقوسها. خطبة العيد وخطبة المعركة والخطاب السياسي، ويلي ذلك تحليل خطب النساء والأنواع اللاهوتية والتشريعية وغيرها من الأنواع الأقل شيوعًا. في كل هذه الفصول، تم تخطيط المناقشة على أربعة أطياف ثقافية متزامنة ومتطورة زمنياً: وثنية إلى إسلامية، وقبلية إلى إمبراطورية، ومن بدوية إلى حضرية، وشفوية إلى كتابية.

بعد دراسة منهجية للخطابة في فترتها الشفوية، يواصل الكتاب استكشاف كيف أثر هذا التقليد المنطوق على تطور الأنواع الرئيسة المكتوبة في الأدب العربي، بدءًا من الرسالة. أخيرًا، يبحث الكتاب في كيفية استمرار إرث الخطابة العربية في تشكيل المصطلحات والمفاهيم الخاصة بالدين والسياسة في جميع أنحاء العالم الإسلامي الحديث. في جميع أنحاء الكتاب، توضح الاقتباسات الوفيرة من النصوص الخطابية (بالترجمة الإنجليزية مع الأصل العربي) الحجة. يقدم هذا الكتاب إجمالًا نظرية شاملة للخطابة العربية، مع تحليل واسع وعميق لنصوصها وممارساتها في البلدان الإسلامية المبكرة في الفترة التأسيسية الشفوية، قبل ظهور الإسلام مباشرة وبعده، تليها مناقشة، من إرثها المستمر في العصور الوسطى والحديثة.

1- البيئة الشفوية للخطب العربية

من وجهة نظر القرن الحادي والعشرين، نتمكن من الوصول إلى الخطابة العربية المبكرة عبر المصادر التاريخية والأدبية والفقهية، ومن العديد من الأنواع الأخرى من الكتب من المكتبة الكلاسيكية والعصور الوسطى. بعبارة أخرى، نتعامل معها بوصفها نصًّا مكتوب. لهذا السبب، وبسبب خبرتنا في كيفية إنتاج خطبنا وخطبنا في العصر الحديث، فإننا نقع في فخ الافتراض اللاشعوري للخطابات العربية المبكرة، وضعًا مشابهًا للوجود، وهو (Weltanschauung) الموازي. نحن ننظر إليها بعيون عفا عليها الزمن لأشخاص من مجتمع القراءة والكتابة الكامل، الذين يعتبر وجود النصوص المكتوبة في كل مكان حقيقة معينة، حيث تقاس الشفوية مقابل معرفة القراءة والكتابة، وليس وفقًا لشروطها الخاصة، ولكن على الرغم من أن الخطب العربية المبكرة قد أتت إلينا على الورق، فمن المهم الاعتراف بأنه لم يتم إنشاؤها نصوصًا مكتوبة. عندما نقرأ الخطب في مصادر العصور الوسطى، فإننا في الواقع نقرأ النصوص التي تم إنتاجها ونقلها شفهيًا في المقام الأول.

من الواضح إذًا، أن الأدوات المطبقة على النصوص المكتوبة ليست مناسبة تمامًا لتشريح أداء الكلام التفاعلي والعفوي. أثناء قراءة هذه المادة، يجب أن نضع في اعتبارنا البيئة الشفوية للخطابة العربية، لأنه ما لم نتعرف على شفويتها، لا يمكننا تقدير طابعها بالكامل أو تحليل محتوياتها بدقة.

من المهم أيضًا أن تضع في اعتبارك حدود هذه الشفوية، لأن البيئة الإسلامية قبل الإسلام وأوائل الإسلام لم تكن شفهية تمامًا، وعلى الرغم من أن الخطابة العربية تقع بين الشفوية والكتابة، إلا أنها كانت أقرب إلى النهاية الشفوية للطيف. دعونا نتخيل مقياسًا متحركًا بين الشفهية الأصلية، حيث لا توجد كتابة على الإطلاق، ومجتمع متعلم تمامًا، حيث تعد الكتابة جزءًا لا يتجزأ من الثقافة، على سبيل المثال، بعض القبائل التي تعيش في عزلة في الغابات المطيرة في الكونغو والأمازون اليوم، مقابل أوروبا والولايات المتحدة المعاصرة. على الرغم من أن الكتابة كانت معروفة في بلاد الشرق الأوسط في فترة دراستنا، إلا أنها كانت مهارة تقتصر على نسبة ضئيلة من السكان. لقد استخدموا بجهد شديد أدوات الكتابة الخام مثل الصخور والعظام والجلد، وبعد ذلك، المخطوطات والبردي، احتفظوا بكتاباتهم للمناسبات الهامة.

مثل الإسرائيليين القدامى الذين عاشوا في عالم شفهي بشكل أساسي(2)، فإن غالبية سكان شبه الجزيرة العربية وجيرانها في عصرنا لم يتعلموا. كان المجتمع قبل الإسلام وأوائل الإسلام، وأداؤه اللغوي، في الغالب شفهيًا.

 2- الشفوية بشروطها الخاصة

من الضروري أيضًا أن نتذكر أن أنماط التفكير الشفوي ليست أدنى من تلك القائمة على الكتابة، بل هي مختلفة فقط. كانت الشفوية سمة من سمات تاريخ البشرية منذ آلاف السنين، حتى في تلك المجتمعات ما قبل الحداثة نعتقد أنها متعلمة للغاية (مثل اليونانية القديمة، والرومانية، والصينية، والهندية، وحتى الأوروبية خلال عصر النهضة)، فقط نسبة ضئيلة من السكان كانت قادرة على القراءة والكتابة. بالنسبة لنا، التعليم لا يمكن تصوره بدون معرفة القراءة والكتابة. لم يكن هذا صحيحًا في مجتمعات ما قبل الحداثة، حيث حدث معظم التعلم شفهيًا. في الواقع، كان للشفهية مكانة أعظم من المكتوبة. شكلت المعلومات الشفوية معرفة حقيقية، ومعلومات موثوقة مدعومة بشهادة شخص حي، بينما اعتبرت الكتابة مجرد تدوين، ومساعدة للذاكرة، وعرضة للخطأ.

من عالم شفهي انبثقت الأضواء الرائدة في الفكر الإنساني (بعض الذين نعرفهم، ومعظمهم لا نعرفه) الذين قدموا أفكارًا وحكمة وقيم الجنس البشري التي تشكل تراثنا البشري الجماعي.

ومن هؤلاء الأنبياء الدينيون، مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. مؤسسو النظم الأخلاقية العميقة، مثل كونفوشيوس، وغوتاما بوذا، وعلي بن أبي طالب؛ ومؤلفو الملاحم الضخمة، مثل الإلياذة والأوديسة وجلجامش والعينيد وماهابهاراتا ورامايانا. على الرغم من أن الكتابة تساعد بلا شك في التفكير التحليلي، إلا أن فرضية أن التفكير النقدي مرهون بالكتابة تتخذ قفزة غير مبررة، كما أن تسمية الأمية ذات الصلة غير مناسبة هنا. في النظرة العالمية حيث تتساوى معرفة القراءة والكتابة مع كونها متعلمة ومدروسة، فإن الأمية تعني أن تكون غير متعلم وغير عقلاني. في المقابل، فإن الشفوية (المصطلح المفضل في هذا الكتاب) هي تسمية محايدة يمكن تحليلها وفقًا لشروطها الخاصة.

“قريبا الجزء الثاني: 3- دعائم أساسية من الأدب الشفوي: تصميم ذاكري واستحضار مجازي……”

____________

الهوامش

*الكتاب: “الخطابة العربية الفن والوظيفة” (Arabic Oration: Art and Function)، للدكتورة طاهرة قطب الدين (Tahera Qutbuddin) بريل، ليدين وبوسطن، 2019. الكتاب فاز مؤخرًا بجائزة الشيخ زايد للكتاب للثقافة العربية في اللغات الأخرى (المترجم).

**راجع هذا الرابط للتعرف أكثر على الدكتورة طاهرة قطب الدين: https://qatifscience.com/2021/06/19/طاهرة-قطب-الدين-هندية-تعشق-العربية-وتر/

(1) عندما أستخدم الكلمات “نص” و “أدب” و “نثر”، فإني أعني الإنتاج اللفظي: الكتابة الفنية والشفوية.

(2) نقلًا عن نيتشة (Niditch، 44، 59).

4 تعليقات

  1. بهاء الدين الخاقاني

    السلام عليكم
    جهد متميز
    بوركتم

    • أحمد فتح الله

      وعليكم السلام ورحمة الله
      شكرًا لكم أستاذ بهاء الدين
      وبارك الله فيكم

  2. عبدالله بن علي الرستم

    بادرة جميلة ورائعة عزيزي د. أحمد، فمثل بعض الكتب ذات الصلة بالفكر الإسلامي بحاجة إلى تعريب؛ لنتعرّف كيف يفكّر الآخرون تجاه الإسلام.
    خطوة جميلة .. ولا شك أن الكتاب يحوي مضامين عالية حتى في حال اختلاف القارئ مع ما سطّرته يراعة الكاتبة.

    شكراً مجدداً

    • أحمد فتح الله

      كل الجمال في مرورك أستاذ عبد الله
      وفي تعليقك الثري. واتفق معك في أهمية تعريب مثل هذه الكتب رغم بعض القضايا الخلافية التي تتعلق بفن الترجمة.
      وشكرًا جزيلاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *