نظرية المعرفة عند كارل بوبر – د. جاسم العلوي

لئن كان قلق المعرفة هو قلق التساؤل فإنه عند فيلسوف العلم الحديث كارل بوبر لهو قلق مضاعف. ذلك لإنه قلق العالم والفيلسوف في ذات الوقت. ولرفع هذا القلق المعرفي إستخدم كارل بوبر المنهجية العقلية النقدية في مواجهة المسائل المتعلقة بفلسفة العلوم. لقد برهن كارل بوبر على أن هذه المنهجية ذات التوجه النقدي لهي منهجية متعالية على المذاهب والتيارات الفلسفية وعلى المقولات التي شكلت على مدى سنوات عقائد دوغمائية لا يمكن التفكير خارج سياقاتها. وبهذه المنهجية المتعالية التي سوف تكشف عنها هذه الورقة يتعالى هو نفسه عن التصنيف ضمن مذهب أو تيار فلسفي معين. هو رجل مارس نشاطه الفلسفي بشكل حر خارج نطاق السياقات الدغمائية والأنساق الفكرية التقليدية ومن هنا جاء نتاجه الفكري ثورة في حقل المعرفة البشرية. إنها ثورة قطعت مع المورث التقليدي للفكر وشيدت رؤية متكاملة للمعرفة. وهي أيضا ثورة لأنها أزاحت المركزية الذاتية من المعرفة وأحلت مركزية الموضوع. لقد أعطى بوبر إهتماما كبيرا للتفريق بين المعرفة الذاتية والمعرفة الموضوعية كما يتجلى ذلك عند مناقشته للنظرية الكمية في الفيزياء.

لكننا لن نبدأ بالتعرف على مشروعه المعرفي في أبعاده الكبرى إلا بعد أن نستعرض الحادثة التاريخية في ميدان العلم الحديث والتي أدت الى الزج بمعارف الفيزياء الحديثة في تجاذبات فلسفية متناقضة وهي بذلك شكلت بدايات القلق المعرفي الحديث. هذه الحادثة التي يرويها كارل بوبر(1) تعود الى بدايات القرن السابع عشرالميلادي عندما وقف العالم الرياضي والفلكي جاليلو أمام المحكمة الكنسية الكاثوليكية متهما بالهرطقة وذلك لتبنيه نظرية كوبرنيكس في أن الشمس تقع في مركز نظامنا الشمسي وإن الارض هي التي تدور حول الشمس.

جاليلو جاليلي كان عالما في الرياضيات والفلك وهو يعد أبو الفيزياء الحديثة لأنه تفطن إلى حقيقة مدهشة و هي المطابقة بين الرياضيات والظواهر الطبيعية ومن ثم  صاغ حركة الأجسام صياغة رياضية فهو قد كتب عبارته المشهورة في أحد كتبه أن الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات. وقد إتبع طرق التجريب في البحوث العلمية فهوالذي صعد برج بيزا في ايطاليا وأسقط ثلاثة كرات متساوية الحجوم متفاوتة الأوزان وتوصل إلى نتيجة مهمة جدا وهي أن جميع الأجسام تسقط باتجاه الأرض بتسارع واحد فإذا ما سقطت من علو واحد   فإنها تصل إلى الارض في نفس اللحظة إذا ألغينا أي إعتبار للهواء من الحسبان وهو بذلك قد أطاح برأي أرسطو السائد في الوسط العلمي الذي يرى أن الجسم الثقيل يسقط بمعدل سرعة أكبر من الجسم الخفيف و هو الرأي الذي إستمر مقبولا لما يقرب من الألفين عام. ومما قام به هذا العالم أنه في العام 1609 صنع منظارا ذو عدستين وبدأ بمراقبة حركة الكواكب ودوّن ملاحظاته ونظرياته في كتاب وكان مما دوّنه أمرا سبب هزة كبيرة ولحظة صدام مباشرة مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية أو لنقل مع ظاهر الإنجيل أو مع التفسير الكنسي الكاثوليكي للإنجيل والذي لا يعبر بالضرورة عن حقيقة الإنجيل. هذه الواقعة وضعت معارف الفيزياء الحديثة أمام أزمة معرفية كبرى لا تزال قائمة إلى يومنا هذا.  فقد شاهد جاليلو أقمار المشتري تدور حوله واستنتج  على خلاف تعاليم الكنيسة أن المشتري وأقماره هو نظام مصغر عن النظام الشمسي وبذلك انتهى إلى أن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس متبنيا بذلك نظرية كوبرنيكوس في النظام الشمسي ومعتبرا أن هذه الحركة الظاهرية للشمس حول الأرض هي نتاج حركة الأرض حول نفسها وقد تمت محاكمته ومنعه من الكتابة حول هذه الأفكار.

لكن ما كانت الكنسية في ذلك الوقت لتعترض على جاليلو وتمنعه من الكتابة وتضعه رهن الإعتقال لو أنه لم يكن يرى في النظام الجديد الذي تدور فيه الأرض وبقية الكواكب حول الشمس إلاّ نموذج رياضي أبسط من القديم ، يسهل الكثير من الحسابات الفلكية والتنبؤات. كان يمكن للكنيسة أن تتبنأ هذا النظام الجديد لا على أساس أنه حقيقة واقعية بل على أساس أنه نموذج رياضي وظيفي فقط أو فرضية رياضية أو ربما خدعة رياضية إخترعت من أجل تبسيط الحسابات وتقدير أفضل للحوادث الفلكية المعروفة في ذلك الوقت.  في الواقع لم يكن جاليلو ليقدم إلى المحاكمة إذا كان منسجما مع ما قاله القس اندرياس أوسنايدر الذي عاش في القرن السادس والسابع عشر الميلاديين وهو كلام يصف بدقة الأزمة في نظرية المعرفة ويؤسس لهذا التفاعل بين معارف الفيزياء ونظرية المعرفة حيث قال ” لا يوجد حاجة لأن تكون هذه الفرضيات حقيقة ، ولاحتى تشبه الحقيقة بل هناك شيء واحد وهو أن هذه الفرضيات تنتج حسابات تتطابق مع المشاهدات”(2)

هذه المقولة تضع الفيزياء والعلوم في قلب الأزمة المعرفية. فهل تتحرك الفيزياء مستهدفة الكشف عن هذا الواقع والتعبير عنه رياضيا أو هي تتحرك في بناء النماذج الرياضية والمفيدة على المستوى العملي وليس لها قدرة على كشف الحقيقة الواقعية التي لا يتمكن للإنسان من معرفتها إلا عن طريق الوحي كما تقول الكنيسة.  فماذا كان موقف جاليلو إزاء هذا التصور المتناقض لدور الفيزياء؟ رغم أن جاليلو يرى في نظام كوبرنيكس وسيلة رياضية للحسابات الفلكية لكنه في نفس الوقت يعتقد بأن هذا المحتوى الرياضي هو وصف حقيقي للواقع وليس مجرد ألة رياضية مفيدة في عدد من التطبيقات الفلكية من غير أن تكون كاشفة عن حقيقة هذا الواقع. وبالطبع فإن الكنيسة لم تكن ترغب في إدراك هذه الحقيقة في النظام الجديد لأنه كان يتناقض مع العهد القديم. هذا هو السبب الرئيسي لجعل الكنيسة ترى في النظريات العلمية مجرد نماذج مفيدة في عدد من التطبيقات لكنها خالية من أي محتوى وصفي للعالم.

هناك سبب أعمق يكشفه الأسقف الإنكليزي جورج بيركلي بعد مئة سنة تقريبا وذلك عندما وجه نقده لنظرية نيوتن في الجاذبية. كان قد تطور نظام كوبرنيكس في عهد بيركلي الذي عاش في القرن السابع والثامن عشر الميلاديين إلى نظرية نيوتن في الجاذبية ، وقد رأى بيركلي أن هذا التطور يمثل خطرا على الدين و أنه كلما تقدمت العلوم كلما زاد الخطر على الدين (على عكس ما يحدث الآن حيث نجد بعض علماء الفيزياء  يقاومون بعض النظريات العلمية التي تدعم وجود الخالق) وانتهى بيركلي بعد تحليله لمفاهيم نظرية نيوتن على أنها محض فرضيات رياضية وليست حقائق هي عبارة عن آلة للحسابات والتنبؤات تعطي توصيفا للظواهر ولا تعكس حقائق الواقع. وخلاصة موقف المتدينين في ذلك الوقت أن العقل البشري بدون الوحي الإلهي غير قادر على كشف أسرار الواقع. ويتطابق هذا الموقف مع أصحاب مذهب الشك اللذين يشككون في قدرة العقل للوصل الى حقائق يقينية. وانقسم الفلاسفة بالنسبة للنظرية العلمية بين فلسفة آلية ترى أن النظرية العلمية لا تصف الواقع ودورها الأساس قائم في صنع النماذج الرياضية التي تفيد في تطبيقات عملية وبين فلسفة جوهرية ترى أن النظرية العلمية تصف واقعا يقبع خلف الظواهر الطبيعية وأن الهدف النهائي للنظرية العلمية هو في الوصول لهذا الواقع وبالتالي ننتهي لتفسير نهائي للظاهرة.

الفيزيائيون ظلوا بعيدين عن هذا الجدل الفلسفي الغير محسوم ، متخذين منهج جاليلو في البحث عن الحقيقة كما تصورها. لكن ذلك كان في الماضي أما اليوم فالنظرة الى العلوم الطبيعية على أنها مجرد ألة رياضية تتطابق مع نتائج التجارب ولا تعبر عن حقيقة الواقع كما أسس لها كل من اسانيدر وبيركلي هي التي سادت وأصبحت دغمائية مقبولة في الوسط العلمي باستثناء اينشتاين وشرودينغر وآخرون. والسؤال هنا كيف انتصرت النظرة الآلية هذه ؟ يعزو بوبر إنتصار الفلسفة الآلية الى عاملين:

  • صعوبة تفسير النظرة الكمية.
  • النجاحات العملية التي حققتها النظرية وتطبيقاتها.

هذه الواقعة وضعت معارف الفيزياء الحديثة أمام أزمة معرفية كبرى لا تزال قائمة إلى يومنا هذا. ولسوف نستوحي من هذه الواقعة المحاطة بأسوار الشك المعرفي والتفسيرات الفلسفية المتناقضة للمعرفة العلمية طريقنا في مقاربة المشروع الفكري لكارل بوبرفي مختلف أبعاده.

يرشح من هذه الواقعة عدد من التساؤلات المركزية في المضمار التي ترتبط به العلوم بمختلف الرؤى الفلسفية؟ منها إذا كانت للفيزياء أن تمضي في أبحاثها بعيدا عن هذا الجدل الفلسفي فما هي الأهمية التي تشكلها نظرية المعرفة على العلوم؟ وقد رأينا في هذه القصة التناقض في تفسير النظرية العلمية فما هي حقيقة النظرية العلمية من الزاوية المعرفية وكيف تتمايز عن غيرها من النظريات في الحقل الإجتماعي و النفسي والتاريخي؟ وكيف تنمو المعرفة العلمية ضمن إطار التفسير المعرفي للنظرية العلمية وكذلك كيف نضع الحد الذي يفصل العلوم عن الميتافيزياء؟ سنتعرف في هذه الورقة بشكل موجز على طريقة مناقشة كارل بوبر لهذه المسائل التي تمثل مراكز ثقل في نظرية المعرفة.

وسنبدأ بالسؤال المهم والمركزي وهو ما هي أهمية نظرية المعرفة وتاثيرها على واقع العلوم والحياة؟ هذا السؤال يقود إلى سؤال آخر أعمق يتصل بأهمية الفلسفة ذاتها ومدى قدرتها على التأثير العملي على الواقع؟ هناك فلاسفة يعتقدون أن طبيعة الفلسفة لا تملك أي تأثير مهم على مجريات الواقع. لكن كارل بوبر يعتقد بأن للأفكار أهمية كبرى في التأثير على الحياة وأن هذه الأفكار ما كانت لتحظى بالقبول عند الناس لو لم تكن هناك النظرة المعرفية التي ترى أن الواقع يزخر بحقائق موضوعية وأنه بالتالي يمكن فهمه والتأثير فيه. يضرب بوبر مثلا بالثورات التحررية التي بدأت في عصر النهضة في أوروبا وهي ثورات مستوحاة من قدرة الإنسان على فهم هذا الواقع والتفاعل معه وثم محاولة تغييره. يسمي بوبر نظرية المعرفة التي ترى في الواقع حقائق موضوعية وأن الإنسان يسعى لفهمه ومن ثم التأثير فيه بنظرية المعرفة المتفائلة.  إن ميلاد العلوم الحديثة ، كما يرى بوبر، هو من وحي هذه النظرة المتفائلة للمعرفة والتي نظر لها كل من ديكارت وفرانسيس بيكون. وكانت تعاليمهما تؤكد على أن الإنسان يحمل في ذاته مصادر المعرفة فالتصورات التي يزوده بها جهازه الحسي تعطيه القدرة على مراقبة الطبيعة ورصد ظواهرها وعقله يجعله قادرا على تمييز الحقيقة من غيرها. هذه النظرة المتفائلة ارتبطت تاريخيا بالأفكار التحررية ، فالإنسان يستطيع أن يعرف لذلك يمكن أن يكون حرا. في المقابل فإن النظرة المتشائمة للمعرفة التي تنظر إلى عجز الإنسان عن معرفة الواقع ارتبطت تاريخيا مع العبودية والفقر. وتقود هذه النظرة المتشائمة الى تأسيس تقليد سلطوي يمارس هيمنته على الإنسان.  

ما يميز المعرفة المتفائلة من المتشائمة هو قدرة الإنسان على تمييز الحقيقة وبالتالي حقه في رفض أي سلطة أو تقليد مؤسس على اللامعقول أو الأحكام المسبقة.  بينما في حالة غياب الحقيقة الموضوعية وعدم القدرة على تمييز الحقيقة من غير الحقيقة فنحن نواجه إما هيمنة التقليد وسلطته أو الفوضى.

من وحي هذا التفاؤل المعرفي تبرز مقولة أن الحقيقة متجلية وهي إما تتجلى بذاتها أو بالغير. وإذا تجلت الحقيقة فإن الإنسان يستطيع على ضوء العقل أن يراها. هذه الرؤية التي ترى تجلي الحقيقة أو سيادتها هي من صميم تعاليم ديكارت وبيكون. فديكارت يؤمن بأن مانراه حقيقة يجب أن يكون كذلك والا فإن الله يخدعنا. الحقيقة الكاملة عند الله وبالتالي لابد أن تكون الحقائق جلية. بيكون يرى أن الحقيقة الكاملة في الطبيعة وأن الطبيعة كتاب مفتوح والذي يقرأه بعقل مفتوح لا يمكن أن يخطىء. السؤال إذا كانت الحقيقة جلية فما الذي يوقعنا في الخطأ؟ هل لأننا لا نود أن نرى الحقيقة أو لأننا نمتلك أحكاما مسبقة أو أن هناك تأثيرات شيطانية أثّرت على عقولنا. أو أن هناك مؤامرة تستهدف إبقاءنا في حالة الجهل.

يرى بوبر أن الإعتقاد بالمؤامرة هو نتيجة حتمية للإعتقاد المتفائل بالحقيقة الجلية. فإذا كانت الحقيقة لا تتجلى فإنما يعني ذلك أنها أخفيت عن عمد. ويستطرد في المناقشة ويتساءل إذا كانت الحقيقة جلية فلماذا تصمد اعتقادات خاطئة لألاف السنين ؟ ولماذا يصعب اكتشاف أبسط الحقائق؟ تاريخ الطب يعطينا عدد من الأمثلة على ذلك. يعتقد بوبر وهو الرافض لفكرة سيادة الحقيقة أو تجليها رغم أن هذه الفكرة خرافة لكنها  من زاوية التفاؤل المعرفي أحدثت ثورة معرفية وأخلاقية لأنها أعطت الإنسان الأمل في أنه بسلاح المعرفة سوف يتحرر من حياة البؤس والشقاء. ويصل بوبر في المناقشه لفكرة سيادة الحقيقة أو الحقيقة جلية الى نتيجة في غاية الخطورة وهي أن هذه الفكرة أسست لكل أشكال الأصولية. لأنها تستبطن فكرة أن بعض الناس لأنهم أشرار لا يستطيعون رؤية الحقيقة أو لأن لديهم أسباب يخشون فيها تجلي الحقيقة فإنهم يتآمرون عليها. (3)

وسؤال ماهية النظرية العلمية؟ وكيف نفرق بينها وبين النظريات الأخرى في الحقل النفسي أو الإجتماعي أو التاريخي؟

لقد إهتم بوبر كثيرا بالسؤال التالي وهو متى تكون النظرية صحيحة؟  والمناخ الذي قاد بوبر إلى الإهتمام بهذا السؤال هو عدد من النظريات التي عاصرها وهي نظرية اينشتاين في الجاذبية ونظرية ماركس في الجدلية التاريخية ونظرية كل من فرويد والفريد ادلر في التحليل النفسي. يذكر بوبر أنه في العام 1919 بدأ غير راض عن هذه النظريات الثلاثة الأخيرة في التاريخ والتحليل النفسي وبدأ يطرح التساؤل التالي لماذا هذه النظريات الثلاثة تختلف عن نظرية اينشتاين ونظرية نيوتن؟ في الظاهر أن لهذه النظريات قوة تفسيرية عالية . وقد لاحظ بوبر أن المشترك بين هذه النظريات الثلاثة أنها قادرة على جمع عدد كبير من المؤيدات في التاريخ وفي الحقل النفسي. لقد لاحظ بوبر أن نظريتا فرويد والفريد ادلر وهما نظريتان مختلفتان في التحليل النفسي ولكن هناك حالات اكلينيكية تنطبق عليها نظرية فرويد وتنطبق عليها في ذات الوقت نظرية ادلر. الأمر الذي توقف عنده بوبر مشككا في القيمة العلمية لهما. إن ما يميز نظرية ماركس عن هاتين النظريتين هي أنها نظرية قابلة للإختبار وبالتالي يمكن تكذيبها. فنظرية ماركس في الجدلية التاريخية تنبأت بثورة اجتماعية على النظام الرأسمالي ولكن ذلك لم يحصل. وبدل من القبول بفشل النظرية قام أتباع الماركسية بتعديل النظرية لإنقاذها من الفشل. وهذا يعني أن مثل هذه النظريات لا يمكن أن تكون صحيحة من خلال الشواهد التي يحصلون عليها في عيادات التحليل النفسي أو الحقل التاريخي. لكن المسألة مختلفة مع نظرية اينشتاين ، فنظريته لا تصححها المؤيدات على نحو الذي نراه في تلك النظريات. إن نظرية اينشتاين خرجت بعدد من التنبؤات منها على سبل المثال أن الضوء ينحني عندما يمر بجسم ثقيل. وقد تحقق علميا من هذه الظاهرة. فما هي النظرية العلمية برأي بوبر؟  هي ببساطة نظرية تقبل التكذيب لأنه يمكن إختبارها. ولايوجد عند بوبر نظريات صحيحة بالمطلق بل يوجد إتجاه ترجيحي للنظرية بناءا على اجتيازها عدد من الإختبارات. وتظل النظرية مرجحة ضمن عدد من النظريات ما لم تكذبها بعض الإختبارات ، حينئذ يتم إستبدالها بنظرية أخرى تجاوزت كل الإختبارات السابقة. (4)

أما كيف تنمو المعرفة العلمية وهل من حد نهائي تتوقف عنده؟ يرى بوبر أن العلوم بحاجة للتقدم والنمو لأنه إذا توقفت عن النمو فقدت طبيعتها العقلية والتجريبية. ما يقصده بوبر من نمو المعرفة العلمية ليس تراكم المشاهدات بل الفعل المتكرر في إسقاط النظريات العلمية وإحلالها بنظريات أخرى أكثر ملائمة. إن قيامنا بالفحص النقدي هو الذي يقودنا الى إختبار النظريات ومن ثم إسقاطهم وهذا بدوره يقودنا الى تجارب و ملاحظات جديدة لم نكن نتصورها. وهذه العملية تستمر الى ما لا نهاية. وهنا لا يرى بوبر حدا نهائيا للمعرفة لأنه لدينا جهل لانهائي. فما الذي يعيق نمو المعرفة إذن؟ ويجيب بوبر إنه الفقر إلى الخيال المبدع. ويعتقد بوبر أن العلوم هي النشاط الإنساني الوحيد الذي يقدم نقده المنظم للأخطاء وثم مع الوقت يتم تصحيحها. يؤمن بوبر بنظام يحكم العلوم حتى قبل إختبارها وهو ما يسميه بالرضا النسبي المحتمل. و المعنى هو أنه يمكن أن نختار من بين عدد من النظريات النظريات التي بها محتوى معرفي كبير والتي تمتلك قوة تفسيرية أكبر وهي بالتالي قابليتها تكون أعلى بالقياس الى النظريات الأخرى. لكن هناك تناسب عكسي بين المحتوى المعرفي للنظرية واحتمال صحتها. فكلما زاد المحتوى المعرفي للنظرية قل احتمالها. ويفضل بوبر المحتوى المعرفي للنظرية على ضعف احتمالها لأن لديها قابلية أكبر للإختبار وثم التكذيب. و الخلاصة أن بوبر يرى أن العلوم يمكن تصورها كمنظومة تتطور من مسائل إلى مسائل أعمق إلى ما لانهاية. (5)

هناك أيضا معضلة مركزية في نظرية المعرفة تتعلق بالحد الفاصل بين العلوم والميتافيزياء. ولنتذكر أن مشروع كانت النقدي قام على إمكانية أن تكون الميتافيزياء علما. ينظربوبر في محاولات الوضعيين لوضع حد يفصل بين العلوم والميتافيزياء على أساس المحسوس وغير المحسوس على أنها غير صحيحة. إذن أين يمكن أن نرسم الخط الذي يفصل بين العلوم والميتافيزياء؟ ويجيب بوبر على أن الحد الفاصل بين العلوم و الميتافيزياء هو مبدأ التكذيب. فكل ما يقبل التكذيب يدخل في إطار العلوم وكل ما لايقبل التكذيب يدخل ضمن الميتافيزياء. (6)

الإستقراء عند كارل  بوبر

يعتمد المنهج التجريبي على الإستقراء الذي هو أحد أنماط الإستدلال الذي يمارسه الفكر البشري في تشييد قواعده ونظرياته. ونريد بالإستقراء هو كل إستدلال يقفز فيه العالم من فحص وقائع جزئية إلى مبدأ عام يطال كافة الوقائع المشابهه والتي لم يتم فحصها مخبرياً. الإستقراء يمثل حركة صاعدة تبدأ من الخاص الجزئي وتنتهي بالعام الكلي. وتأتي النتيجة المستخلصة بهذا النوع من الإستدلال أكبر من مقدماتها. فمثلاً عندما يريد العالم الطبيعي أن يدرس ظاهرة تمدد الحديد بالحرارة ، يقوم بتعريض عدد من قطع الحديد للحرارة فإذا لاحظ أن كل قطع الحديد التي عرضها للحرارة قد تمددت فإن العالم يقوم بتعميم نتائجه لتشمل كافة قطع الحديد ،  لتصبح القاعدة هو أن كل حديد عند تعرضه للحرارة يتمدد. وهنا نلاحظ أن النتيجة جاءت عامة وشاملة لكل قطع الحديد والتي لم تجرى التجارب المخبرية عليها وأنها- أي النتيجة- غير مستنبطة في المقدمات ، لأنه لا يوجد في العدد المحدود من الحديد الذي يمثل مقدمات الدليل هذا المعنى الشمولي الذي جاءت به النتيجة. وبالتالي تكون النتيجة دائماً في هذا النمط من الإستدلال أكبر من مقدماتها لأنها اكتسبت صفة العموم والإطلاق. ومن المهم أن نوضح أن الدليل الإستقرائي لا يمكن تبرير نتائجه على أساس عدم التناقض ، فإذا جاءت النتيجة كاذبة والمقدمات صادقة فإن ذلك لا يستبطن تناقضاً منطقياً لأن النتيجة غير محتواة في المقدمات. هذه هي االثغرة المنطقية في الدليل الإستقرائي المعتمد في العلوم الطبيعية. ولقد انتهى بوبر بعد مناقشة طويلة ومدهشة سوف نتعرض لها في هذه الورقة الى نفي الإستقراء في العلوم الطبيعية.

يختلف كارل بوبر مع المشكلة الإستقرائية في صورتها التقليدية والتي ترتكز على  أن المستقبل شبيه الماضي. بهذه الطريقة يتحول الإستقراء إلى قياس يكون صغراه الحوادث التي تم اختبارها وكبراه مستمدة من هذه الكلية التي ترى المستقبل يشبه الماضي في الحوادث المتماثلة والخاضعة لنفس الظروف. لكن بوبر يختلف مع أصل فكرة التشابة بين الماضي والمستقبل. كما أن بوبر يرى أن العقل البشري لا ينتج القوانين بطريقة إستقرائية. الإستقراء عنده ليس منهج بل وسيلة للكشف عن كذب نظرية ما. يذكر بوبر في كتابه ”    ” the logic of scientific discovery( منطق الكشف العلوم ) أنه لا يوجد نظرية منجزة كما هي نظرية نيوتن في الجاذبية وربما لن تكون نظرية منجزة مثلها في المستقبل. ومع ذلك فإن نظرية إينشتاين في الجاذبية جعلت من نظرية نيوتن محض فرضية(7). هذا الأمر دعا كارل بوبر في التفكير مليا والنظر المتأمل في ما يردده هؤلاء الذين يؤمنون بالصيغة التقليدية للإستقراء من أمثلة أضحت تقليدا عند مناقشة الإستقراء. وهي:

  • الشمس تشرق وتغرب مرة كل اربع وعشرين ساعة.
  • الكائنات مصيرها الموت.
  • الخبز يغذي الجسم.

هذه الأمثلة التي تدل على أن العقل البشري يمارس منهجية الإستقراء ليستنتج قوانين عامة هي غير صحيحة. فكل هذه القضايا تم تكذيبها. فالأولى كذبت عندما اكتشف أن الشمس تظهر في منتصف الليل في البحر المتجمد. والثانية كذبت عندما اكتشف أن البكتيريا لا تموت لانها تتوالد بالإنقسام. وتكذب الثالثة لأن تناول الخبز تسبب في تسميم قرية فرنسية(8). (رغم اختلافنا مع كارل بوبر إلا أننا نستعرض أراءه هنا). فكيف تمكن كارل بوبر كما يدعي هو من التوصل لحل المشكلة الإستقرائية في شكلها التقليدي وبهذا كما يذكر في كتابه تمكن من حل عدد من المسائل الفلسفية الأخرى. (9)

يقارب بوبر المشكلة الإستقرائية  من خلال الفيلسوف ديفيد هيوم. ديفيد هيوم كان مهتما بالسؤال المتعلق بالأسباب الكافية التي تبرر معتقداتنا ولذلك أثار مشكلتين يرتبطان بالإستقراء صاغهما بطريقتين. الأولى  المشكلة الإستقرائية المنطقية والثانية المشكلة الإستقرائية السيكولوجية. فإما المشكلة الإستقرائية في صورتها المنطقية تتلخص في أنه هل نملك المبررات الكافية التي تجعل الحوادث المتكررة في الماضي متكررة في المستقبل ؟ ويجيب عن هذا السؤال بالنفي. هذه الصيغة المنطقية هي ذاتها الصيغة التقليدية للمشكلة الإستقرائية وهنا يتفق كارل بوبر مع ديفيد هيوم في الجواب على هذا الشكل المنطقي للإستقراء. و مقصودهما من هذا النفي هو أنه لا يوجد حل منطقي للإستقراء. مما يعني أن المعرفة التي نحصل عليها عن طريق التكرار والإستقراء هي معرفه غير مبررة منطقيا وهي محض إعتقاد مبني على العادة.  أما الصيغة الثانية للإستقراء في صورتها السيكولوجية تتلخص في أنه لماذا يكون لدينا توقعات بثقة عالية في أن المستقبل سيكون شبيه الماضي ؟ ويجيب ديفيد هيوم عن هذا السؤال بأنها العادة الذهنية هي المسؤلة عن مثل هذه التوقعات. ديفيد هيوم يرد الترابط بين القضايا والإقتران المطرد بينها ليس الى الضرورة السببية بل إلى العادة الذهنية. فإذا ارتبطت أ و ب ليس لأن هناك ضرورة سببية تلزم من وجود أ ووجود ب بل لأن الذهن إعتاد أن يرى التعاقب المتكرر بين أ و ب فيستنتج من ذلك السببية بينهما ويستنتج أنه في المستقبل سيتكرر هذا الإرتباط. وبهذا يرد ديفيد هيوم المعرفة البشرية الى السيكلوجية البشرية وبالتالي هو ينفي عنها صفتها العقلية. يرى بوبر في هذا الجواب أن ديفيد هيوم تحول من العقلانية الى التشكيك كما أن الفيلسوف برتراند رسل يرى في جواب ديفيد هيوم مثالا للفلسفة المفلسة في القرن الثامن عشر.

كارل بوبر يقارب المشكلة الإستقرائية أولا بإعادة صياغة المشكلة الإستقرائية المنطقية من خلال ثلاثة صيغ وثانيا يضع قانونا يسميه قانون التحويل الذي يجعل من حل المشكلة المنطقية للإستقراء هو ذاته الحل للمشكلة الإستقرائية في جانبها السيكولوجي.

لكن كارل بوبر يعيد صياغة المشكلة الإستقرائية في صورتها المنطقية بعد أن يقوم بتغيير كافة المصطلحات التي تعكس الجانب الذاتي من المعرفة الى مصطلحات تعكس الجانب الموضوعي من المعرفة. فمثلا بدل كلمة الاعتقاد belief يستخدم كلمة النظرية الكونية المفسرة explanatory theory Universal  و بدل كلمة انطباع impression  ( وهي الكلمة التي استخدمها هيوم في بيان فلسفته في المعرفة ) يستخدم كارل بوبر كلمة قضايا مجربة بمعنى تم فحصها واختبارها. فالقضايا المجربة عند بوبر هي جميع الأحداث التي تدخل في نطاق خبرتنا العملية. وأما الأحداث التي لا تدخل في نطاق خبرتنا فيسميها نظريات علمية مفسرة.

يضع بوبر المشكلة الإستقرائية المنطقية في شكلها الأول بالسؤال التالي هل أن الإدعاء بأن صحة قضايا مجربة يكون سببا كافيا يبررصدق نظرية كونية مفسرة ؟ وجواب بوبر لهذا السؤال هو بالنفي. ومعنى جوابه هذا أنه لو افترضنا أننا قمنا باستقراء عدد من القضايا في المختبر ولو فرضنا الصدق في هذه القضايا فإن ذلك لا يكفي ولا يعني بالضرورة صدق النظريات المفسرة لها غلى نحو الإطلاق.

ثم يفترض بوبر أنه لو أجاب عن هذه الصيغة بنعم فإن ذلك يعني أن القوانين المؤسسة على الإستقراء قائمة على الإنتظامات في الطبيعة لكن بوبر يرى أن حظوظنا من إكتشاف إنتظامات حقيقية في الطبيعة هي ضعيفة وبالتالي فإن نظرياتنا ستكون ولو جزئيا خاطئة. وهذا يعني أن الجواب الإيجابي للصيغة الأولى يحمل نقيضة ولذلك لابد أن يكون خطأ. وبالتالي فإن جميع القوانين والنظريات عند بوبر هي محض تخمينات أو فرضيات.

ويعيد بوبر صياغة المشكلة المنطقية للإستقراء بتعديل طفيف على الصيغة الأولى فيسأل السؤال التالي: هل إن الإدعاء بصحة أو صدق قضايا مجربة يكون سببا كافيا يبررصدق أو كذب نظرية مفسرة ؟ وجواب بوبر على هذه الصيغة بنعم. والمعنى المقصود هو أنه لو قمنا باستقراء عدد من القضايا المجربة فإن كانت هذه القضايا صادقة فإن ذلك يعني أن النظريات المفسرة لها يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة ( بمعنى صحيحة أو خاطئة).

وهذا الجواب يعطي الإستقراء وسيلة للكشف عن كذب النظريات المفسرة وليس منهجا تستخدمه العلوم في صنع القوانين والنظريات.

ولكن ماذا يحدث لو أننا وقفنا أمام عدد معين من النظريات وكان علينا أن نختار من بينها. في هذه الحالة يقوم بوبر بتعميم المشكلة المنطقية للإستقراء في صيغتها الثانية ويضع المشكلة في صيغتها الثالثة وهي أنه هل نملك التبرير العملي الكافي الذي يجعلنا نختار بعض النظريات على غيرها من حيث الصدق أو الكذب؟ وجوابه على هذه الصيغة أيضا بنعم.

والمعنى أنه إذا كان لدينا عدد من النظريات وكان علينا أن نختار من بينها فإننا حينئذ ننظر الى القضايا المجربة ونرى كيف أن هذه القضايا الداخلة في نطاق خبرتنا تكذب بعض النظريات وبالتالي فإننا نأخذ النظريات التي لم يقم الدليل بعد على تكذيبها. (10)

هذا بشكل موجز جواب بوبر على مشكلة الإستقراء.

Referrals

1- Karl Popper, Conjectures and Refutations, Routledge, 2002, p.130-132.

2- Karl Popper, Conjectures and Refutations, Routledge, 2002, p.131.

3- Karl Popper, Conjectures and Refutations, Routledge, 2002, p.7-11.

4- Karl Popper, Conjectures and Refutations, Routledge, 2002, p.43-51.

5- Karl Popper, Conjectures and Refutations, Routledge, 2002, p.290-298.

6- Karl Popper, Conjectures and Refutations, Routledge, 2002, p.341-345.

7- Karl Popper, Objective Knowledge, Routledge, 1979, p.2.

8- Karl Popper, Objective Knowledge, Routledge, 1979, p.10.

9- Karl Popper, Objective Knowledge, Routledge, 1979, p.1.

10- Karl Popper, Objective Knowledge, Routledge, 1979, p.3-9.

References

1-Karl Popper, Conjectures and refutations, Routledge, 2002.

2- Karl Popper, Objective Knowledge, Routledge, 1979.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *