مسائل في تاريخ التقنية: التاريخ في حدود الحاضر – مالك آل فتيل

التاريخ سماء تعج بالنجوم، أحداث متناثرة في فضاء الماضي، بعضها باهت، بعيد، لا يُذكر إلا في ظلال الأحداث، وبعضها مشع متألق تدور حوله الروايات، وتنتشر حول شخوصه الحكايات، بل، وتُنذر له الأيام الخاصة، فتُعاد ذكراه سنوياً كميلاد ولي من أولياء الله.

الشيخ الرئيس (ابن سينا) – جامع خيوط الفكر الفلسفي المختلفة

هنا ينبثق سؤال بسيط؛ ما الذي يُحدد، بشكل أكيد، ما إذا كان هذا الحدث مُهماً أو غير مُهم؟

الإجابة التي أراها صادقة الوضوح هي: الحاضر، الحاضر هو الوحيد المسؤول عن تحديد قيمة الحدث في التاريخ، فما هو مُهمٌ اليوم، هو بالتأكيد مُهمٌ آنذاك، في التاريخ، وما هو مُهملٌ اليوم، سيُهمل، وسيسقط أثناء روايتنا للتاريخ.

علينا أن نفرق بين التاريخ كماضي مستقل عنا، وبين التأريخ كرواية خاصة بنا، نرويها عن ماضٍ، بالتأكيد، ليس مستقلاً عنا.

لقد ذهبت الأيام، وانسحبت أحداثها إلى خانة الماضي، وتراكمت حكاياتها هناك، حيث لا يمكن لأحد أن يغير فيها شيئاً، هذا أمر، كما يُقال، مفروغٌ منه. لكنَّ المؤرخ، وهو الذي سيقوم برواية أحداثها، ويُعيد ترتيبها، ويُبرز الأبرز منها، ويُقصي المُهمَلَ منها: يُفصِّلُ في مُهمِّها، ويُجملُ في غيرها، سيقوم بهذا الدور، وهو إعادة تشكيل الماضي، وفق معطيات حاضره بكل تأكيد!

لنعطِي مثلاً، في عام 1999، تأسست شركة غوغل، وكما نعلم، فإنها تأسست لتحقيق هدفٍ تقني – حضاري عظيم، وهو حفظ جميع المحتوى البشري، بأنواعه المتعددة، والتمكن من استخلاص المعارف منه بشكل آلي ؛ بالتأكيد، عندما ننظر إلى ذاك الحدث فإننا نحاول وبكل تعمد أن نشكله على هيئة نجم بارز ، متوهج ، في سماء تعج بالنجوم الصغيرة حوله ، إنه حدث عظيم أن تتأسس منظمة ناجحة عملاقة ومؤثرة كغوغل، لكن ؛ ماذا لو لم تنجح غوغل في تحقيق أهدافها ، التجارية على أقل تصور ، فتعثرت ولم تستمر أكثر من عدة أعوام وانسحبت من السوق ، من الصناعة ومن هذا الفضاء الجديد ، ما الذي سيؤثر خسارة وسقوط غوغل على وهج الحدث التاريخي الذي حدث في ذاك العام؟!

نعم، هذا هو لُب الفكرة، فالتأريخ، في حدود تعريفه كعملية تدوين للأحداث، التأريخ كصنعة، لن يتخطى حدود الحاضر، فحاضرنا يطوق تاريخنا، ويحصره في حدود رؤيته، وأهدافه، وآماله أيضاً. الحاضر دائماً ما يحاول إعادة كتابة التاريخ بمزاجية صرفه، مزاجية تتحكم بها الظروف الآنية: السياسة، الثقافة الشائعة، والفكرة الحاكمة، إنه قدر التاريخ أن يبقى دائماً في قبضة المنتصرين.

من المثير للدهشة أن يعتقد البعض ويؤكد مقولة أن التاريخ يتحكم في الحاضر، بالتأكيد هي مقولة ليست خاطئة تماماً، فالحاضر ابن الماضي، لا خلاف على ذلك، لكنَّ روايتنا لهذا الماضي (تأريخه) محكومة بظروف حاضرنا وأحواله، سيروي هذا الابن الجديد روايته الخاصة عن أبيه بما يناسب رؤيته الخاصة، وسيعيد ترتيبها وتنظيمها بما يوافق نظرته لنفسه ولمستقبله.

ألا توجد لدينا صور واضحة للأب، ووثائق دقيقة متعلقة به تمكننا من كتابة رواية صادقة عنه دون الاعتماد على رواية الابن؟، بالتأكيد هناك الكثير من الأدوات التي تُمكنُنا من رسم صورة شبه دقيقة لأحداث الماضي وشخوصه، لكنَّ هذا التأكيد لا ينفي شكوكي حول قدرتنا على تحييد أثر الحاضر على تلك الأحداث.

مصادر الصور:

  1. https://hekmah.org/%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%B3%D9%8A%D9%86%D8%A7/
  2. https://www.york.ac.uk/history/research/stem/
  3. https://logodix.com/1999-google
  4. https://www.almrsal.com/post/530083

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *