الحفاظ على التوازن النفسي والاجتماعي أثناء أزمة كورونا وما بعدها (3) – د. رضي حسن المبيوق*

اللقاح سيعالج الجانب الصحي للبدن ولكن الآثار النفسية (قليلها أو كثيرها) قد تكون طويلة الإستمرار والبقاء وخاصة إذا تركت وشأنها. لابد أن ينال الجانب النفسي درجة كبيرة من الإهتمام، ومفردة “الجانب النفسي” عامة وأتمنى من خلال أسئلتكم أن نسلط الضوء على جوانب نفسية معينة. أتطلع بإهتمام إلى أسئلتكم ومداخلاتكم.

السؤال الثاني: ما نعرفه أن العزل الإجتماعي سواء كان اختياريا أو مفروضاً يسبب تآكل لرأس المال الإجتماعي، وهذا الأخير يدفع نحو اليأس والقنوط، وبالتالي ينعكس بشكل كبير على نفسية الفرد، ونحن في جائحة كورونا مضطرين للعزل الإجتماعي، فكيف يمكننا التخلص من الوصول إلى حالة اليأس والتغلب على تآكل رأس المال الإجتماعي؟

***

العزلة الإجتماعية تتسبب في تآكل رأس المال الإجتماعي

اي إضطراب وإنقطاع للحياة الإجتماعية يترتب عليه عدة نتائج سلبية ودرجة السلبية وحدتها تعتمد على طول مدة إنقطاع تواصل الناس مع بعضها البعض. العزلة التي فرضها كورونا على العالم قد تكون له تداعيات طويلة المدى. لو نظرنا للماضي وبالخصوص الإنفلونزا الأسبانية التي حدثت عبر ٣ موجات ابتداء من ربيع عام ١٩١٨ الى ذروته في شهري سبتمبر الى نوفمبر من نفس العام إنتهاء بالموجة الثالثة للجائحة في بداية عام ١٩١٩، بإمكاننا عمل مقارنة على صعيد تأثير العزلة الإجتماعية على الأفراد والمجموعات. الدراسات في هذا المجال أجريت مع أحفاد الجيل الذي عاصر هذه الجائحة وأشارت النتائج بأن العزلة تنهش في الثقة الإجتماعية (social trust) العامة، وإن الثقة لا تعود الى وضعها السابق وإن درجة من اللا ثقة تنتقل عبر الأجيال. بإمكاننا نطلق على هذا مسمى “الحذر الجمعي أو رأس مال حذّر إجتماعي”.

والعزلة الإجتماعية تؤثر بشكل أسوأ على المجتمعات التقليدية او التي لا تنتشر فيها النزعة الفردية. الروابط الإجتماعية قوية والنَّاس في هذه المجتمعات تحب التواصل الشخصي والتجمع وأي خلل يطرأ ويمنع هذا من الحصول يتسبب في خلق مجموعة من الحالات منها ما ذكر في السؤال من يأس وقنوط والشعور بالوحدة وغياب المسرة الخاصة التي تنتجها الزيارات للأقارب والأصدقاء.

تآكل رأس المال الإجتماعي يدفع لليأس وللقنوط

نحمد الله على وجود تقنيات التواصل التي تسمح لنا بالتواصل في العالم الإفتراضي والذي يحد بشكل كبير مما تولده العزلة من مشاعر الوحدة والضجر والملل الذي اعتدنا على تداويه بزيارة الأصحاب والنَّاس الذين لنا معهم علاقات وطيدة. لك أن تتخيل حجم معاناة العزلة في غياب الجوال والزووم والبرامج الأخرى التي تتيح لنا التواصل من بعد مع أقاربنا وأعزتنا وزملاءنا.

ومع وجود كل هذه التقنيات ودورها في ربط الناس ببعضها إلا إنها لا تشبع الجوع وتروي الظمأ الإجتماعي.

أحد الإخوة الذي يتقيد بشدة مع تعاليم الحضر وحذر للغاية طلب مني اللقاء قبل يوم وقلت له بأنني بالبيت في حجر صحي إختياري لعله يتراجع عن نيته للزيارة ضمن هذه الظروف ولكنه مجرد سماعه بأنني في البيت أخبرني بأنه سيكون عندي بعد دقائق. ظننت أنه جاء على جناح البراق من سرعة وصوله. دخل البيت بعد أن بادلته التحية عن بعد ٦ أقدام ودعوته للجلوس فجلس. إستمرت الزيارة الممتعة له ولي لأكثر من ساعتين. وأثناء الحديث عرفت بأن صديقي كان قاب قوسين أو أدنى من الموت من الجوع الإجتماعي. على الرغم بأننا نرى بَعضُنَا في مقابلات الزووم الأسبوعية إلا إن ذلك لا يغني عن اللقاء الشخصي أبدا.

اليأس والقنوط ينعكس على نفسية الفرد

بالفعل مجموعة من المشاعر الغريبة تتولد حينما نفقد حرية التنقل والتجوال وممارسة روتيننا اليومي. يشعر الإنسان بمحدودية قدرته على تغيير واقع الأزمة.  والإنسان بطبعه ميال للتحكم والسيطرة بمحيطه لا أن يكون المحيط هو المسيطر عليه فالشعور بالعجز (helplessness) يولد اليأس (hopelessness) إذا تركنا زمام الأمور للظروف لتوجهنا كيف تشاء لا كما نشاء.

كيف التخلص من حالة  اليأس؟

معركة التخلص من اليأس وفقدان الأمل تبدأ في داخلنا، في تفكيرنا ونظرتنا للأزمة وفي طريقة التحكم في مشاعرنا.

من الطبيعي ان لا نستقبل العزلة بالورود (وذكر الإخوة/الأخوات بأن حتى الورود تتلف بكميات كبيرة هذه الأيام) ولكن بواقعية وقراءة الظروف بدون مبالغة او تهويل. تذكير أنفسنا بأن البشرية مرت عليها جائحات وصارت الآن في الماضي والحياة لم تتوقف، وذلك سيحدث لكرونا وستكون نسيا ولكن ليس منسيا – سنتذكر الجائحة ولكن بدون الألم او اليأس الذي سببه.

ومن الطرق الأخرى استثمار الوقت وخلق مشاريع لنا ولأفراد أسرنا كي نقطع الوقت ولا يقطعنا.  كذلك ممارسة الرياضة المناسبة والمفضلة تجدد النشاط والحيوية وتحد من مشاعر الكآبة. بعض الطلبة من شبابنا هنا تبنوا هوايات جديدة اكتسبوا منها مهارات لم تخطر على بالهم في يوم ما. الفراغ سيف ذو حدين. أملئ الفراغ بأشغال متنوعة لكل يوم ولاتترك مجالا لليأس والقنوط أن يستولي عليك.

كيف نتغلب على تآكل رأس المال الإجتماعي؟

نستطيع التغلب على إحتمالية تآكل رأس المال الإجتماعي عن طريق الإستمرار في التواصل مع الآخرين عن بعد وعن قرب ولكن بالإتباع الحذر لتعاليم التباعد الإجتماعي (الجسماني) ومع عدد قليل جدا. إطلاق مبادرات التواصل والقيام بأعمال الخير كتوصيل الغذاء او الدواء للجيران وكبار السن والأسر المحتاجة وكل ذلك مع الأخذ بعين الإعتبار الأوامر والتعليمات الحكومية.

أن نستغل الفرصة للتواصل مع من شغلتنا مشاغل الحياة عن التواصل معهم من ذوي القربى والجيران والأصدقاء وزملاء العمل الحاليين او السابقين.

في إعتقادي بأن أي تآكل أو ضعف في شبكة العلاقات الإجتماعية سيُرمم بسرعة بعد مرور الجائحة ولربما تكون العلاقات أقوى ورأس المال الإجتماعي أثرى – لأننا سنكون قد عرفنا القيمة التي لا تقدر بثمن للتواصل الإجتماعي ولعلاقة بَعضُنَا ببعض.

***

السؤال الثالث: عندي تخوف من حصول حالة من الفوبيا ضد الناس عموماً والتجمعات خصوصاً (وقد لاحظتها منذ الآن بحكم احتكاكي مع المرضى) بعد زوال الأزمة…كيف يمكنني مكافحتها من الآن؟

***

تخوف من حصول حالة من الفوبيا ضد الناس عموما والتجمعات خصوصا بعد زوال الأزمة

الأزمات كجانحة كرونا تنتج قلق ومخاوف عما سيحصل في المستقبل. والمستقبل مجهول ولا أحد يعرف ماذا سيحصل! هل سيختفي الوباء فجأة أم بشكل تدريجي وبطيئ؟ و هذا التخوف طبيعي  لأنه يعبر عن حرص الإنسان على تجنب مصادر الخطر التي قد تجلب له المرض والآلام وحتى الموت. الخوف يعبر عن غريزة حب البقاء والحفاظ على صحتنا وسلامتنا.

ولفت انتباهي في السؤال شيئان: توقع حصول الفوبيا بعد إنتهاء الأزمة (وليس الآن). وإن الفوبيا ناجمة من الإحتكاك مع المرضى الآن.

الفوبيا عادة توصف بأنها مشاعر غير منطقية أو عقلانية ولكن على حسب السؤال إن التخوف ناتج عن تجربة الإحتكاك بالمرضى الآن ولهذا أقول بأن التخوف هذا طبيعي وينبع من تجربة مباشرة لما يمر به ويعاني منه المرضى من آلام وتبعات الإصابة. وأيضا أكرر بأن التخوف هو تعبير لنزعة الإنسان للحفاظ على سلامته وسلامة الأسرة والأقرباء والأصدقاء.

الفوبيا ضد الناس جميعا

أتوقع غالبية الناس ستكون على حذّر عالي بعد رفع الحجر الصحي، والتجارب اليومية بعد عودة الحياة في الذهاب والإياب للعمل او لزيارة الأقارب ستحدد قوة او ضعف التخوف. لربما تبقى مشاعر الخوف لأيام أو أسابيع قليلة ومن ثم تبدأ بالتلاشي.

الفوبيا من التجمعات خصوصا

مرة أخرى أركز على أن مشاعر الخوف الأولى هي كمثابة جرس إنذار مهمته جلب إنتباهنا لكي نكون في أعلى مستوى من الجهوزية لمواجهة التحدي المحتمل. وإحتمالية الخطر بعد رفع الحجر الصحي تكون أكبر وأقوى في الأماكن المزدحمة لإنعدام الطمأنينة بأنه لا يوجد على الأقل شخص موبوء من مخلفات الجائحة المشؤومة.

كيف يمكنني مكافحتها الآن؟

اولا التأكيد على أن التخوف المذكور في السؤال طبيعي وحتى تشخص الحالة كفوبيا حقيقية لابد لأعراض الفوبيا أن تكون موجودة على الأقل لمدة ٦ أشهر.

بإمكان عمل الآتي للتعامل مع هذا التخوف الآن قبل أن يحدث فيما بعد:

١- توظيف إيحاء معاكس لإيحاءات التخوف، أي إرسال رسائل إيجابية قصيرة ومعقولة للدماغ مثل “نعم للحذر، لا للخوف!”.

٢- النظر للمستقبل وتوقع إكتشاف لقاح فعال ضد الفيروس والذي محتمل يؤخذ سنويا كا flu shot.

٣-  الإستمرار على إتباع طرق الوقاية Coronavirus hygiene من غسل اليد وخاصة مباشرة بعد استعادة حرية التنقل والتجول.

٤- تقبل فكرة الإبتعاد عن التجمعات حتى تتوفر الأدلة القاطعة من خلو الأجواء من أي بقايا حياة للفيروس.

٥- الخوف يولد الخوف ولهذا يجب إشغال الذهن بشيئ آخر ممتع ويطرد الخوف بعيدا.

٦- عدم الإستسلام ومواصلة الحرب النفسية على الخوف حتى النصر.

* أستاذ بجامعة شمال أيوا الأمريكية ومدير المعهد البحثي بمدينة شيكاغو.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *