الذكاء الاصطناعي (القادم الحتمي) – مالك آل فتيل

في عام 1902، أي قبل ما يقارب الـ 118 عام، تم عرض ما يُعد أول فلم خيال علمي على الإطلاق على يد الكاتب والمخرج السينمائي الفرنسي الشهير جورج ميلييس (1861-1938)، المعروف بريادته للعديد من التطورات التقنية والسردية في الأيام الأولى للسينما، فقد كان مبتكراً في مجال المؤثرات الخاصة، وعلى إثر تجاربه في هذا المجال استطاع تقديم هذا الفلم في بدايات القرن الفائت معتمداً على خياله وتقنياته.

يحكي الفلم الذي لم يتجاوز الإثني عشر دقيقة قصة مجموعة من البشر تنطلق للقمر بواسطة صاروخ، ثم تعود منه بواسطة الصاروخ نفسه، بعد أن يشتبكوا مع السكان الأصليين للقمر، تضمنَّ الفلم أفكاراً ساذجة عن القمر وطُرق الوصول إليه، والعيش عليه، علاوة على فكرته عن سكان القمر التي يمكن اعتبارها إسقاطات أوروبية خاصة حول الأمم والشعوب الأخرى.

بعد 67 عاماً، إستطاعت ناسا الأمريكية تحقيق جزء من رؤية ميلييس، وذلك بعد جهود هائلة شملت مجالات متعددة، جزء كبير من هذه الجهود توافر بشكل سريع ومُلح إبان الحرب العالمية الثانية، التي لم يبق حجرٌ في مكانه إلا وقد تزحزح من أجلها.

هذه القصة تعني شيئاً واحداً، إن أمكننا الحصر، وهو أن الفكر سابقٌ لأي عملية تطور ممكنة، فهذا المخترع ورجل الأعمال الشهير تشارلز كيترينج (1876-1958)، في أول أحاديثه الإذاعية في عام 1940، يؤكد أن التطور البشري هو تطور غير مادي في جوهره، ولأن الفن والأدب هما أبرز تجليات الفكر ومُنتجاته، فإننا دائماً ما نجد ضمن تاريخ التقنية أن الإنسان يستعرض آماله وطموحاته التقنية عبر فنه وأدبه، وأيضاً، يبثُّ مخاوفَه!

ولأن الذكاء الاصطناعي هو إحدى الموضوعات المهمة في مجال التقنية، والصناعة، والعلم، فقد بدأ الحديث عنه في وقت مبكر، فهذا الروائي إسحاق أزيموف (1920-1992) في روايته التملص (1942) والتي كانت إحدى روايات الخيال العلمي التي تخصص في كتابتها، قد حدد ما يسمى بالقوانين الثلاثة للروبوتات، ثم أضاف عليها القانون صفر لاحقاً، القوانين التي ظلت مداراً للدراسة والنقاش كمحددات لصناعة الروبوتات، أو لمجال الذكاء الاصطناعي بشكل أعم.

وحديثاً، يمكننا العودة لثلاثة أفلام، تجاوزت في تصوراتها لمستقبل الذكاء الاصطناعي حقبةَ الروبوتية الميكانيكية، والتي كانت تتمثل في التحرك الآلي المتقطع، والصوت المبرمج، إلى مرحلة الروبوت الشبيه بالإنسان، في حركته وصوته واستجابته.

  

بالترتيب الزمني، الفلم الأول هو “هي” (Her) عُرض في عام 2013، والثاني هو “تسامي” (Transcendence)، عُرض في عام 2014، أما الثالث فهو الفلم البريطاني “إي إكس ماكينا” (Ex Machina) عُرض في عام 2015.

ثلاثة أفلام لا تحاول أن تستعرض قدرة العقل البشري أو إمكانيات الذكاء الاصطناعي بالقدر التي تحاول فيه تجسيد مخاوف الروح الإنسانية من القادم الحتمي، تحاول أن تنبه الإنسان إلى ما قد يقع فيه من مشكلات بفعل غرورِهِ وجشعِهِ، تحاول أن تذكره بما تعلمناه ولعدة مرات في تاريخنا: إن الإمكانية ما هي إلى وجه واحد لعملةٍ وجهها الآخر هو المسؤولية.

يبدو أن الذكاء الاصطناعي حلاً واعداً لمجموعة من المشكلات، وأداة مُعينة لتوفير الكثير من الموارد، بدأً من الخاص جداً: أسعار البقالة، الطريق الأسرع للعمل، الحديث مع قريب متوفى، حتى الموضوعات العامة جداً: التغير المناخي، الأوبئة، الأمراض المستعصية، الفقر، تأمين الحرية وتحقيق العدالة، بهذا، يكون الذكاء الاصطناعي هبة من هبات العلم والتقنية التي لا تضاهيها هبة أخرى.

لكن، دوناً عن بقية الطفرات المعرفية الأخرى في تاريخ البشرية: الكتابة، الطباعة، والإنترنت،  فقد فجَّر الذكاء الاصطناعي عدداً هائلاً من النقاشات والدراسات والتصورات، لقد إنتقلت الموضوعات من الشأن العلمي إلى الإجتماعي والسياسي ثم إلى الفلسفي والأخلاقي، كما قد أنشأ معضلات على المستوى القانوني لا يمكن تصور إمكانية تفكيكها إلا بعد حين، ليس لأننا لا نملك عقولاً قانونية وأخلاقية تضاهي عقولنا العلمية والتقنية، لا، بل لأننا ندخل حقبة جديدة كلياً من العيش، حقبة تمتاز بالتغير والتشعب والتشابك، وعلى حدِّ تعبير الفيلسوف الألماني هايدجر إنه انكشاف جديد على الوجود.

لقد أصبحنا مقتنعين بفعل التاريخ والثقة بأنفسنا، أننا لن نستغرق ما استغرقته وكالة ناسا في تحقيق أحلام ميلييس، فسبعين عاماً تبدو طويلة بالنسبة لحضارتنا، وأن الذكاء الاصطناعي أصبح بالفعل يتسلل إلى حياتنا شيئاً فشيئاً، وأن مسألة القبول التام له هي مسألة وقت فقط.

وكعادته، فالإنسان لا يبدي اعتراضه على أمرٍ ما إلا وكان هناك قلقاً خاصاً يخفيه في صدره، ولعله في مكانٍ دون مستوى وعيه، وأحسبُ أن ما يقض مضجع الإنسان في هذا الموضوع، هو كلمة “ذكاء”، الكلمة التي يعتقد الإنسان أنها إنسانية حصراً، أو بالعكس، أن الإنسان هو كائن الذكاء الحصري، إنها صفة خاصة به، فهي قاربه الوحيد الذي قطع به محيطات الحيوانية الأولى، ومركبه الذي اجتاز به فلوات البرية، وها هي الآن، مصدر قوته وهيمنته ورخائه، فكيف له أن يشاركها مع مَن صنعه بيده؟، وهو الكائن المعروف بنرجسيتهِ وأنانيته!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *