كان هناك حوض زراعي ممتد من بعد حدود الظهران الشمالية الشرقية يضم العديد من قري القطيف التي تبدأ محاذاتها من مدينة سيهات إلى صفوى وما بعدها -جاوان وطريق الجبيل- مروراً بوسط القطيف وقرى القطيف الشمالية الغربية كالأوجام وام الساهك والخترشية ورويحة وطفيح والدريدي وأبو معن وغيرها من عشرات القرى التي لايسعنا ذكرها في هذه العجالة،،،
وهي على حدود ذلك الشريط الذي عُرف بالبذراني والذي زحفت عليه رمال صحراء الدهنا فطمرت جميع قراه بمزارعها وبيوتها إلا عيونه النضاخة المتدفقة عبر ساباتها وتناقيبها التي وُجِّنت فيما بعد والتي تجاوزت أعدادها الستين عيناً موزعة في أنحاء قرى البذراني فقط -دون سائر عيون مناطق القطيف- فنزح أهالي البذراني إلى الشرق تاركين خلفهم مزارع (العيش الأحمر والأبيض) وبساتين النخيل وبيوتهم ولكنهم لم يتنازلوا عن شيء واحد وهو العيون فقد بدلوا من أجلها المستحيل لتبقى متدفقة تشق طريقها نحو الشرق ومتحدية لزحف الرمال.

إنها بالفعل فكرة عبقرية حين وحدّوا أبعاد اتساعات جداولها ووجنوها بالجص المقاوم ومن ثم غطوها بألواح حجارة الفروش البحرية المسطحة لتشكل مايُعَرفُ بسقوف الجملون (gable roof) وهي السقوف ذات الأجزاء العلوية المثلثة أو الموشورية بشكل ٨، وقد استخدموا هذا النظام من السقوف تجنباً لتأثير ضغط ثقل كثبان الرمال القادمة في الزحف على هذه السقوف فلو كانت مسطحة فإن ضغط ثقل الكثبان حتما سيهدمها ويحدث بعدها كارثة فيضانات تدفق تلك العيون العشوائي،،،

وقد نجحوا نجاحا باهراً في منع تأثير زحف الرمال على جداول تلك العيون ولكنهم لم يتوقفوا عند هذا الحد بل راحوا يبنون الأسوار العالية بشكل اسطواني حول محيط كل عين وبارتفاع منزل يتكون من طابق ونصف لكي لا تعفيها الرمال أي أن ارتفاع سورها يصل إلى خمسة أمتار تقريباً، وأما جداولها التي وُجِّنَت وسُقِّفَت بنظام الجملون فعلى بعد كل مئة متر تقريبا أو أكثر نجد ماسورة اسطوانية قائمة فوق ذلك الجدول المغطى بزاوية قائمة بنفس ارتفاع الأسوار المحاطة بها العيون ولكنها بقطر لا يتجاوز المتر بحيث تسمح بمرور رجل بالغ في داخلها وعلى جدران محيطها الداخلي طوالع حجرية من أعلاها إلى اسفلها بحيث تسمح لرجل الوقوف على تلك الطوالع في حالتي النزول والصعود،،،

وتتصل هذه الإسطوانات المفرغة من الداخل بفتحة لها على سقف الجدول الجملوني بشكل ٨ لتتصل بالجدول المائي مباشرة، وهذه الاسطوانات بنيت من الجص لتشكل غرف تفتيش يستطيع العامل من خلالها الوصول إلى جدول الماء لغرض تنظيفه في حال انسداده وكذلك للسماح بخروج بخار الماء بالإضافة إلى منع تصدع هذه السقوف من جراء التمدد والانكماش خلال فترتي الشتاء والصيف.

حين تنظر إلى هذه الاسطوانات من بعيد وهي في صفوفها فإنها تخال إليك وكأنها صوامع الغلال وهي تعرف محليا بالمثاقيب وباللهجة العامة (مفاقيب) والبعض يطلق عليها تناقيب ولكن واقعا إنما التناقيب مسمى يطلق على بعض أقسام الجداول التي تجري فيها المياه والممتدة في أسفلها والمتجهة جميعها إلى الشرق لتسقي المزارع والبساتين في الجهة الشرقية ثم لتصب أخيرا في البحر بعد أن تتصل بجداول سائر العيون الشرقية التي تشكل بعدها جداول مائية نهرية الإتساع قد يصل اتساعها احيانا لأكثر من خمسين مترا وهي المعروفة بالسابات والمجازات والتي تحولت في مطلع ستينات قرن العشرين (١٩٦٠) إلى مصارف مياه عرفت محلياً بالسدود وكان وراء تلك التسمية قصة طويلة قد أدرجتُها في مقال سابق بعنوان: “السد العالي: في قطيف السعودية أم في أسوان مصر؟”.

هكذا ركز أهالي قرى منطقة البذراني خاصة وأهالي القطيف عامة جلَّ جهودهم على حماية تلك العيون ومصارفها غير آبهين بخساراتهم لممتلكاتهم الشخصية التي عفتها رمال صحراء الدهناء من بيوت ومزارع حيث نزحوا الى المناطق الشرقية المقابلة لقراهم ومناطقهم ومزارعهم الغربية. وفيما بعد اقتصرت زراعة الأرز بنوعية: الأحمر (الهندية) والأبيض على المناطق والقرى الشرقية وكذلك الغربية التي لم يطالها زحف الرمال ولكن زراعته أخذت في الأفول والإضمحلال في نواحي القطيف وقد استمرت على استحياء حتى عام ١٤٢٥ هجري بعد أن توقفت آخر مزرعة في القطيف تنتج العيش الأحمر والذي يعرفه أهالي القطيف بالهندية وتحديدا في الآجام (الأوجام).
القديح وأم الحمام كانتا أيضاً من أواخر المناطق التي كانت تزرع الأرز في القطيف وقرى مجاورة اخرى، وهناك العديد من المناطق التي اشتهرت بزراعة الأرز الأبيض البشاور وبالأخص في المناطق الجنوبية كأم الحمام والجش والملاحة وبرزا وسيهات.

إن الموطن الأصلي لبذرة كل من الأرز الأبيض البشاور وكذلك بذرة الأرز الأحمر المعروفة بالهندية هو الهند بلا منازع لذلك اعطاها أهالي القطيف حقها بهذين الإسمين (العيش الأحمر أو الهندية).
في بداية الثمانينات التقيت ببعض من عاصروا زراعة الأرز الأحمر والأبيض في منطقة البذراني قبل أن تزحف الرمال عليها وكان من ضمنهم الحاج محمد بن حسن بن عمران بن شوبان العمران -رحمه الله- وهو من أهالي الكويكب المعمرين فقد تجاوز عمره المئة عام آنذاك وهو في كامل قواه العقلية والجسدية ويُقَدر بأنه من مواليد عام ١٢٩٩ هجري تقريباً الموافق ١٨٨٢ ميلادي تقريباً.

بدأ حديثه بطرح سؤال بالعاميّة ليلفت انتباهنا حول تسمية البذراني بقوله: (عجل لاويش سموها البدراني؟ مسوى يبدروا فيها العيش)! في اللهجة القطيفية يتساوى الذال والدال في النطق على حد سواء فالحاج محمد يقصد أن منطقة البذراني سميت بهذا الإسم لكونها منطقة بذر الأرز الأحمر (الهندية) فهي البذراني وليست البدراني، ثم يستطرد في حديثه قائلاً أنه في أيام صباه قد اشتغل في نقل “أخياش العيش” على ظهور الحمير إلى فرضة الجمرك وإلى السوق ويضيف بأن البذراني كانت (دِيَر ونخيل) اي انها بلدان وبساتين ويضيف انه قد زحفت عليها الرمال ودفنت كل شيء فيها وهذا يعني أن زحف الرمال بدأ من نهاية القرن التاسع عشر!
وأما الرحالة المؤرخ جورج ب سادليير الذي جاب القطيف وكتب عنها بدءًا من عام ١٨١٨م فإنه أيضاً يستبدل الذال بالدال (وذلك حسب سماعه لأهلها) حيث كان يقول “كانت المياه متوفرة لنا بكميات كبيرة من عيون البدران القريبة من قرية الجارودية على بعد ميلين من القطيف / ٢٩ يونيو”. ونلاحظ انه قد حذف الياء الأخيرة من كلمة البذراني.

وثمة شيء آخر يثبت لنا ذلك ايضاً وهو نزوح أهالي الرفيعة إلى أم الحمام وهي الجهة التي تقابلها من الشرق والتي كان يُجمَع فيها قش الأرز ونفاياه (الخمام) ليحرق بقصد التخلص منه أو لتقديم بعضه للماشية المتكاثرة عندهم لذلك فقد تنازع القوم حول حقيقة تسميتها بين “أم الحمام” و “أم الخمام” بل وبين “أم القمام” أيضاً على رأي جورج ف. سادليير في كتابه “مذكرات الرحلة في القطيف على الخليج العربي الى ينبع على البحر الأحمر” على أن “لقمامة” في لهجة أهالي ام الحمام تعني منخضة اللبن! وليس أهالي أم الحمام وحدهم من يسمونها “لقمامة” وإنما يشترك معهم في التسمية أيضاً أهالي الجش والملاحة وعنك وسيهات، ويبدو إن كانت تسميته صحيحة فهو يدل على ثراء أهالي أم الحمام المشهود لهم في تلك الآونة من حيث امتلاكهم للكثير من ماشية الأبقار فيكثر عندهم الحليب وخض ما فاض منه بواسطة القمامات للحصول على الألبان وقد كانت تلك “القمامات” تعرض متراكمة على جوانب طرقاتها لعرضها الى البيع.
ومثال آخر هو نزوح أهالي الصالحية وهي احدى المناطق التابعة للعوامية ولكن بقيت العيون نضاخة وسط الرمال ومياهها تجري تحت كثبانها حتى تصل إلى القرى والمناطق الشرقية لتسقي نخيلها ثم يتجه ما فاض منها إلى البحر.
أعود لأسرد حكاية آخر أيام زراعة الأرز بنوعيه الأحمر (الهندية) والأبيض في محافظة القطيف التي انتهت بوفاة بطلها المرحوم الحاج محمد بن دخيل بن ناصر الناصر الذي كان ومعه أفراد عائلته مواظبون على زراعة (العيش الأحمر) وكان في البداية معه إخوانه وأبناءه وبقية العائلة في مزرعتهم في الأوجام والمسماة بالمنية والمطلة على خور تويريت الشمالي الكبير وفي فترة بقي هو الوحيد صامدا ويعاونه بعض من أولاده، وعندما توفي الحاج محمد -رحمه الله- في عام ١٤٢٥ هجري توقفت بوفاته زراعة الأرز في القطيف وانطوى قيد زراعة الأرز الأحمر والأبيض.

لهذا الحد كنا نظن أن زراعة الأرز الأحمر في القطيف ذهبت وبلا عودة ولكن واقعاً بعد توقفه لفترة من الزمن عادت تجربة زراعة الأرز في إحدى مناطق القطيف الزراعية وشكلت ظاهرة جديدة في نظر الجيل الجديد من المزارعين وذلك في بعض مزارع أبو معن حيث انتشرت زراعته هناك كثيراً. إنها العودة لزراعة الأرز الأحمر (الهندية) وحده وذلك بعد ثلاث سنين من توقفها أي في عام ١٤٢٨ هجري حيث حدثني عبدالله الزريع (أبو حسين) وهو من أهالي سنابس بجزيرة تاروت ومن جملة من زرعوه في مزارع أبو معن وقد قال لي: “أن الإنتاج كان ممتاز جداً” حيث كان يحصل في كل موسم على أكثر من ٤٠٠ كيلو صافي وذلك بعد إزالة القشرة وكانت زراعته فقط في (نصف باب) والذي يحتوي على (خمسة شروب) أي خمسة أحواض زراعية فقط علما بأنه ومن معه ممن زرعوه لم يستطيعوا مقاومة الطيور التي ناشت الكثير من بذوره رغم استعمالهم للشبكات التي تصد تلك الطيور عن الوصول إليه.
إن تصدير بعضه إلى دول الخليج العربي في تلك الآونة لدليل واضح على الكفاية الذاتية من الأرز في تلك الآونة بالإضافة إلى طحن الفائض منه في كثير من مناطق القطيف لتحويله إلى دقيق فهناك مناطق متخصصة لطحنه ومعه القمح أيضاً لصناعة الخبز ولبعض الاستعمالات الأخرى في الطبخ حيث تستعمل مطاحن كبيرة كانت تدير أقطاب رحاها الحمير ويسمى هذا النوع من المطاحن محلياً بالمداور ومفردها مدور حتى أنه قد سمي أحد أحياء القطيف القديمة بإسم وظيفة أهله التي كانوا يمارسونها وهو حي المدارس الذي اشتهر بكثرة المداور والمخابزة ففي زاويته الشمالية الغربية كانت تدرس سنابل الأرز.

ومعنى “درسها” هنا هو فصل الحبوب عن سنبلها وعن القش، فقد ورد في لسان العرب درسوا الحنطة اي داسوها وفي تاج العروس: وقد دُرِس الحبوب إذا ديس وفي المعجم الغني: “درس الدارس سنابل القمح ونحوها أي داسها بمدارة” وفي الرائد: درس القمح ونحوه بالنورج لينقى حبه من قشره وفي الصحاح درس الحنطه.
ومن جملة المناطق المشهورة بكثرة المداور ذلك الحي المسمى “فريق المطاحن” والذي احتفظ بإسمه حتى عهد قريب ولازال كبار السن يطلقون عليه الآن هذا المسمى وهي المنطقة الواقعة جنوب شرق الجش ومكانها اليوم هو موقع ملاعب نادي الهدايا بالجش وماجاوره من المزارع، وقد استمر وجود هذه المداور حتى نهاية خمسينات قرن العشرين. لا يعني هذا أنه لايوجد مناطق غيرهما لإعداد الطحن إنما هناك العديد من المداور في أنحاء القطيف وقراها بل وحتى في البيوت الكبيرة وفي بعض الساحات العامة.
اليوم وتحديداً من بداية تسعينات قرن العشرين الماضي بدأت كثبان رمال الجزء الشرقي من البذراني في الإنقشاع لتكشف لنا ما أخفته تلك الكثبان من أسرار عن أجيال قرن العشرين فظهر لنا المستور تحتها وعلى سطح أرض البذراني وباطنها،،،

فوضحت لنا بعض العيون وما حولها من قرى ولكن كمعالم أثرية لا أكثر وخصوصاً بعد أن بدأت مياه العيون في النضوب وبشكل عام والذي بدأ تحديداً من عام ١٤١٦ هجري الموافق ١٩٩٦م بل أن أغلبها قد جرفتها آلات العمران المدني لتقام على إثرها المدن الحديثة ولكن لاتزال هناك بقاع منه مسيجة للحفظ تحت وصايا الجهات المختصة بدراسات الآثار وهي في انتظار التنقيبات الأثرية العلمية التي ستكشف لنا عن كثير من الأسرار حول مزارع أرض البذراني لزراعة العيش الأحمر وكذلك قرى فلاحيها.

شكرا لكم ابا محمد على هذا التوثيق الرائع ونتطلع دائما إلى المزيد من أعمالكم المباركة حفظكم الله ورعاكم
ماشاء الله. معلومات جدا قيمه شكرا لك استاذنا الكريم على مجهوداتك وإنماء معلوماتنا التاريخية والزراعيه والهندسيه
اتمنى على وزاره السباحه والآثار ضمك إلى فريق من الباحثين لسبر أغوار هذه الآثار لكي نطلع على نتائج نامل بها أن توضح الكثير من تاريخ المنطقه في شتى الميادين
شكرا لك يا استاذ على هذا الموضوع الشيق ، اراك بين الفينة والأخرى تتحفنا بتحقيق بديع حتى اصبحت ارى فيك القطيف المعاصرة او التاريخ القريب المنسي، هنيئا للقطيف بجهودك الباهرة المخلصة وليت البلدية او محافظة القطيف تتبنى هيئة تعنى بتوثيق كل مقالاتك على ارض الواقع، وتوضع معالم لكل ما قدمته وبينته من عيون ومواقع أثرية في القطيف قبل أن يعفي عليها الزمن ، واهيب بالشباب أن يبادروا بإنشاء وتكوين جمعية لرصد تراث القطيف وتسليط الضوؤ عليها وتوثيقها بالصور والمعالم على الطبيعة قبل اندثارها في عالم النسيان. ولا شك أن المقالات المنشورة والمحاضرات التي كتبها وألقاها المرحوم المؤرخ الجنبي بالإصافة لتحقيقات الأستاذ الغريافي تشكل بمجموعها انسكلوبيديا القطيف..
جزيل الشكر لك يا أبا محمد على هذا الجهد المبارك، فقد أثريتنا ببحثك الغني بالمعلومات، ودونتَ ما سيبقى *نبراسًا يُضيء دروب الأجيال القادمة*.
حفظك الله وبارك في علمك ومدادك، وجعل ما خطّت يداك في ميزان حسناتك.
مقال اكثر من رائع وتوثيقية جميلة جداً اجابت على تساؤلات عدة عن قصص جميلة سمعتها من اصدقاء من منطقة الاوجام عن الانهار التي كانت تمر بمنطقتهم من خلال المزارع والمسطحات الخضراء والتي اندثر ولم يتبقى منها الا بعض البقع الزراعية تجيب عن مشاهدات عينية وقفت عليها بمعية هذا الصديق الاخ عيسى ال جميع على عديد من فوهات ارضية بالمقاسات التي ذكرت عن المناقيب في المقال من دون بناءات او اثار لذلك وهي متناثرة في رقعة محددة بغرب الأوجام . شكراً على هذه الوثائقية الرائعة والسردية الجميلة ونرجو ان يصل مقالك و مستنداته الى المعنيين بهيئة الاثار للبحث عن المزيد منها ووضعها على خريطة الاثار والسياحة التاريخية للمنطقة
أستاذ عبدالرسول الغريافي شكرا لك على ما أتحفتنا به من معلومات قيمة لم نقرأ عنها من قبل ولا نعرف عنها شيء
هذه وثائق يجب علينا الإهتمام والإحتفاظ بها لتكون مصدرا من مصادر تراثنا العريق الذي كان عليه أجدادنا وليعرف أبنائنا والآخرون تراث هذه المنطقة الزراعية
شكرا لك أبا محمد