العلم والآلة: معضلة التحكم في عصر الذكاء الاصطناعي – بقلم غسان علي بوخمسين

مع تسارع التقدم التقني الذي نعيشه هذه الأيام، متجلياً في الذكاء الاصطناعي، تبرز معضلة فكرية وأخلاقية تتحدى أسس العلم التجريبي الذي شكل العمود الفقري للحضارة الحديثة.

فقد كان العلم التجريبي، منذ نهضته في القرن السابع عشر، أداة الإنسان لفهم الطبيعة والسيطرة عليها عبر الملاحظة المنهجية، التجربة المتكررة، والتحقق العقلي. ولكن، مع ظهور الذكاء الاصطناعي (AI) كقوة رقمية ذات قدرات متطورة قائمة على التعلم الذاتي واتخاذ القرارات، يواجه العلم التجريبي تحديات غير مسبوقة.

هل يستطيع هذا العلم، الذي أنجب التقنية، أن يبقى متماسكًا في مواجهة وريثه الطموح؟ أم أن الذكاء الاصطناعي قد بدأ بالفعل في الانفلات من قيود المنهج العلمي، متجاوزًا الغايات التي وُضع العلم أصلاً لخدمتها؟

العلم التجريبي: الأسس والوظائف
العلم التجريبي، كما تبلور عبر أعمال علماء مثل غاليليو، نيوتن، وبيكون، هو منهج منظم يهدف إلى فهم العالم عبر خطوات منهجية تشمل الملاحظة، التجربة، القياس، والتحقق. يمكن تلخيص وظائفه الأساسية في النقاط التالية:
1. الوصف الدقيق: يسعى العلم التجريبي إلى تسجيل الظواهر كما هي، دون تحيز أو افتراضات مسبقة. على سبيل المثال، رصد حركة الكواكب أو قياس التفاعلات الكيميائية، يعتمد على جمع بيانات موضوعية.
2. التفسير العقلي: يبحث العلم عن الأسباب الكامنة وراء الظواهر، ويصوغ قوانين طبيعية تحكمها، مثل قانون الجاذبية أو قوانين الديناميكا الحرارية.
3. التنبؤ المستقبلي: بناء على القوانين المستخلصة، يتيح العلم توقع النتائج المستقبلية، كما في التنبؤ بالطقس أو مسارات الأجسام الفلكية.
4. التحكم بالطبيعة: من خلال التطبيقات التقنية، يُمكّن العلم الإنسان من تسخير الظواهر الطبيعية لخدمة أهدافه، كما في اختراع الطائرات أو تطوير العلاجات الطبية.
5. بناء المعرفة: يقدم العلم نماذج نظرية قابلة للاختبار والتفنيد، مما يضمن تطور المعرفة عبر مراجعة مستمرة في ضوء الأدلة الجديدة.
هذه الوظائف جعلت من العلم التجريبي أداة تحرر فكري، حيث أطاح بالخرافات والأساطير، ومهد الطريق لإنجازات غيرت وجه الحضارة، مثل اكتشاف الكهرباء، تطوير اللقاحات، واستكشاف الفضاء. لكن هذا المنهج، رغم قوته، لم يكن بمعزل عن التحديات، خاصة مع ظهور الذكاء الاصطناعي.

الذكاء الاصطناعي: ثورة تقنية أم تحدٍ للعلم؟
في السنوات الأخيرة، برز الذكاء الاصطناعي كأحد أعظم إنجازات العلم التجريبي. يعتمد الذكاء الاصطناعي على أسس علمية صلبة تشمل الرياضيات، علوم الحاسوب، والإحصاء، ويمتلك قدرات غير مسبوقة في معالجة البيانات واتخاذ القرارات. تشمل تطبيقاته:
• معالجة البيانات الضخمة: يستطيع الذكاء الاصطناعي تحليل كميات هائلة من البيانات بسرعة تفوق قدرات البشر، كما في تحليل البيانات الجينية أو التنبؤ بالاتجاهات الاقتصادية.
• التنبؤ بالسلوكيات المعقدة: يُستخدم في توقع الأوبئة، تحليل أسواق المال، وحتى التنبؤ بسلوكيات المستهلكين.
• التحكم في الأنظمة المتقدمة: من السيارات ذاتية القيادة إلى الروبوتات الجراحية، يتيح الذكاء الاصطناعي أتمتة العمليات بدقة عالية.
• حل المشكلات العالمية: يساهم في مواجهة تحديات مثل تغير المناخ، إدارة الموارد الطبيعية، وتحسين كفاءة الطاقة.
ومع ذلك، فإن هذه القدرات تأتي مع تحديات خطيرة. فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تنفيذية، بل نظام قادر على التعلم الذاتي (Machine Learning) واتخاذ قرارات مستقلة في بعض الحالات. هذه الاستقلالية تثير تساؤلات حول قدرة العلم التجريبي على ضبط هذه التقنية، خاصة عندما تصبح قراراتها غامضة أو خارج نطاق الفهم البشري.

المعضلة الأساسية: حدود الضبط العلمي
تكمن المعضلة الأساسية في السؤال التالي: هل يستطيع العلم التجريبي، بمنهجه القائم على التحقق والاختبار، أن يبقى الجهة الضابطة للذكاء الاصطناعي؟ أم أن هذا الأخير قد بدأ يسير في مسار مستقل، متجاوزًا حدود المنهج العلمي؟ هذا السؤال يفتح الباب أمام عدة تحديات:
1. فقدان الشفافية: العديد من أنظمة الذكاء الاصطناعي، خاصة تلك القائمة على التعلم العميق (Deep Learning)، تُعتبر “صناديق سوداء”، حيث يصعب فهم كيفية وصولها إلى استنتاجاتها. على سبيل المثال، قد يوصي نظام ذكاء اصطناعي برفض طلب قرض بنكي، دون أن يتمكن المطورون من تفسير السبب بدقة.
2. التقاطع مع الأخلاق: هل من المقبول أن تتخذ أنظمة ذكية قرارات مصيرية في مجالات مثل القضاء (تحديد الأحكام)، الطب (اختيار العلاجات)، أو الحرب (استهداف الأعداء)؟ هذه القرارات تتطلب توازنًا بين الكفاءة التقنية والقيم الأخلاقية، وهو ما يصعب تحقيقه في ظل غياب الشفافية.
3. التحكم مقابل الانفلات: العلم التجريبي يعتمد على مبادئ الاختبار المتكرر وضبط الأخطاء، لكن الذكاء الاصطناعي يخلق أنظمة ديناميكية يصعب اختبارها بالطرق التقليدية، خاصة عندما تتطور هذه الأنظمة بشكل مستقل.
4. مخاطر العلموية: يُعرف مصطلح “العلموية” بتحويل العلم من منهج مفتوح إلى عقيدة مغلقة، ترفض أي مصدر معرفي آخر (مثل الفلسفة أو الدين) وتعتبر التقنية الحل الأوحد لكل المشكلات. هذا التوجه قد يؤدي إلى تقديس الذكاء الاصطناعي، مما يهدد بإقصاء القيم الإنسانية.

العلموية: الوجه المظلم للتقدم العلمي
العلموية (Scientism) هي نزعة فكرية ترى أن المنهج العلمي التجريبي هو المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة، وأن أي شكل آخر من المعرفة – سواء كان دينيًا، فلسفيًا، أو فنيًا – يفتقر إلى الشرعية. هذا التوجه يحمل مخاطر متعددة:
• إقصاء القيم الإنسانية: العلموية قد تبرر استغلال الطبيعة أو قمع الإنسان باسم “الحقيقة العلمية”. على سبيل المثال، قد تُستخدم تقنيات المراقبة الشاملة للحد من الحريات الفردية بحجة تحقيق الأمن.
• تحويل التقنية إلى غاية: بدلاً من أن تكون التقنية وسيلة لخدمة الإنسان، قد تصبح غاية بحد ذاتها، مما يؤدي إلى تطوير تقنيات دون النظر إلى تداعياتها الأخلاقية.
• إهمال الأسئلة الوجودية: العلموية تتجاهل الأسئلة الكبرى حول معنى الحياة، الهدف الإنساني، والقيم الأخلاقية، معتبرة إياها خارج نطاق العلم، وبالتالي غير ذات أهمية.

نقد الفلاسفة للعلم التجريبي
قدم فلاسفة العلم نقدًا عميقًا للعلم التجريبي، مشيرين إلى حدوده وضرورة التواضع الفكري:
1. كارل بوبر: أكد أن النظريات العلمية ليست يقينيات، بل فروض قابلة للتفنيد. هذا المبدأ يدعو إلى التشكيك المستمر في النتائج العلمية، وهو ما يصعب تطبيقه على أنظمة الذكاء الاصطناعي المعقدة.
2. توماس كون: أشار إلى أن التقدم العلمي لا يحدث عبر تراكم الحقائق، بل عبر ثورات علمية تغير النماذج الأساسية (Paradigm Shifts). هذا يعني أن العلم ليس مسارًا خطيًا، بل عملية ديناميكية تخضع للتغيير الجذري.
3. ألبرت أينشتاين: حذر من أن العلم بلا قيم قد يصبح أداة تدمير، مشيرًا إلى أن “العلم دون دين أعرج، والدين دون علم أعمى”. هذا التأكيد يعكس الحاجة إلى تكامل القيم الأخلاقية مع التقدم العلمي.
4. بول فييرآبند: دعا إلى التنوع الفكري، مؤكدًا أنه لا يوجد منهج علمي واحد يصلح لكل زمان ومكان، وأن فرض منهج واحد قد يحد من الحرية الفكرية.

تأثيرات المعضلة في الحياة اليومية
المعضلة التي نناقشها ليست مجرد جدل نظري، بل لها تداعيات ملموسة في حياتنا اليومية:
1. سوق العمل: يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى أتمتة العديد من الوظائف، مما يهدد بإزاحة العمال في قطاعات مثل الصناعة، النقل، وحتى الخدمات الإبداعية.
2. المراقبة الشاملة: تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تتبع الأفراد، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو أنظمة المراقبة الحكومية، مما يثير مخاوف حول الخصوصية.
3. التحيز الرقمي: قد تعكس أنظمة الذكاء الاصطناعي تحيزات البيانات التي تُدرب عليها، مما يؤدي إلى قرارات غير عادلة، كما في التوظيف أو تطبيق القانون.
4. تآكل القرار الإنساني: مع تزايد الاعتماد على الخوارزميات، هناك مخاطر تتعلق بفقدان الإنسان لسيطرته على القرارات الحاسمة، سواء في السياسة، الاقتصاد، أو الطب.

نحو علم متواضع ومسؤول
إن مواجهة هذه المعضلة لا تتطلب رفض العلم أو الذكاء الاصطناعي، بل إعادة تقييم دورهما في ضوء القيم الإنسانية. الحلول المقترحة تشمل:
1. دمج الفلسفة والأخلاق: يجب أن تُدرج الأخلاقيات كجزء أساسي من تطوير التقنيات، مع إشراك الفلاسفة والمفكرين في صياغة سياسات الذكاء الاصطناعي.
2. تعزيز الشفافية: ينبغي تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي يمكن تفسير قراراتها، مما يتيح للبشر فهم المنطق وراء النتائج.
3. إعادة تعريف التقدم: يجب أن يشمل مفهوم التقدم تحسين نوعية الحياة، العدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية، وليس فقط الإنجازات التقنية.
4. حوار مفتوح: ينبغي فتح قنوات دائمة للحوار بين العلماء، الفلاسفة، صناع السياسات، والمجتمع لضمان أن تظل التقنية خادمة للإنسان.

كما أشار الفيلسوف مارتن هايدغر، فإن “الخطر الحقيقي ليس في الآلة ذاتها، بل في أن يتحول روح الإنسان إلى آلة”. هذا التحذير يدعونا إلى الحفاظ على الإنسانية كجوهر لكل تقدم علمي.

في الختام،،،

إن معضلة العلم التجريبي في زمن الذكاء الاصطناعي تمثل تحديًا مصيريًا يمس جوهر وجودنا. العلم التجريبي، بكل إنجازاته، أنتج أداة قوية كالذكاء الاصطناعي، لكنه يكافح الآن لضبط هذا الإرث.

[المخاطر تكمن في فقدان الشفافية، التجاوزات الأخلاقية، وتحول العلم إلى عقيدة علموية تُقصي القيم الإنسانية]

ومع ذلك، فإن الحل لا يكمن في التراجع عن التقدم، بل في تبني نهج متواضع يعترف بحدود العلم ويدمج الأخلاق والفلسفة في صميم التقنية. كما قال فرانسيس بيكون، “المعرفة قوة”، لكن هذه القوة تحتاج إلى الحكمة لتوجيهها. إن المستقبل يعتمد على قدرتنا على طرح الأسئلة الصحيحة، مراجعة مسارنا، وتوجيه التقنية نحو خدمة الإنسانية، لا السيطرة عليها.

الصيدلي غسان بو خمسين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *