إلى أولئك الذين لا تزال كربلاء تنبض في صدورهم كقلب لا يشيخ، إلى كل عاشقٍ للحقيقة مهما طال ليلها…
في تلك الصحراء التي احتضنت الشمس قبل أن تغيب، وعلى أرضٍ لم تعد مجرد رمال بل صارت كتابًا مفتوحًا في ذاكرة الأزمنة، نُقِشت كلماتٌ لم يقلها بشرٌ عابر، بل خُلقت لتُقال، كأنها نُفخت في أرواح الخالدين قبل أن تنزل إلى الأرض. هناك، حيث كتب الحسين (عليه السلام) بدمه سفر الفداء، صدحت الحناجر المنذورة للحق بكلمات ستظل أبدًا مشاعل لا تنطفئ.
كربلاء لم تكن حربًا بالسيوف وحدها، بل كانت ثورةً بالكلمة، بالجملة التي قيلت في وجه الطغيان، بالعبارة التي ولدت في رحم اللحظة، وخلّدها الصدق، وترجمتها الدماء.
“هيهات منّا الذلّة!”
أيّ قلب لا يرتجف حين يسمع هذه الصرخة؟ أيّ عقلٍ لا ينتبه حين تمرّ هذه العبارة كأنها برق في العتمة؟ قالها الحسين (ع) لا لأنه يرفض الذلّ فحسب، بل لأنه أراد أن يعلم العالم كيف تُصاغ الكرامة حين تكون وحيدًا، محاطًا بالأعداء، قد قُطِع عنك كل طريق، ومع ذلك لا تساوم.
في هذه الجملة اختُصر معنى الإنسان، واختُزلت فلسفة الحياة الحرة.
“إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي، فيا سيوف خديني”
ما هذه العبارة إلا قمة التصالح مع القدر حين يكون طريقًا إلى الله. لم تكن صرخة ألم، بل كانت إعلانًا مقدّسًا بأن الحق أغلى من النفس، وأن الدين لا يُفدى بالكلمات، بل بالروح.
قالها الحسين (ع)، وكل حرفٍ منها يقطر يقينًا. لم يكن ينتظر نصرًا دنيويًا، بل كان ينتظر أن تنتصر الحقيقة، ولو بعد حين.
“صبراً بني الكرام”
وحين دار الحسين (ع) بعينيه على وجوه أحبّته، من إخوة وأبناء وأصحاب، وهم يعلمون أنهم على أبواب الموت، لم يقل لهم: “اهربوا”، بل قال: “صبرًا بني الكرام”، كأنما الموت عنده طريقٌ من طرق النبل، لا عقوبة ولا نهاية.
لقد خيّرهم في البقاء، ووهبهم حرية القرار، لكنهم آثروا الموت بين يديه على الحياة بعيدًا عنه. وهكذا صارت كلماتهم شواهد على أعظم صور الوفاء:
“والله لو قُطّعت وحرّقت”
قالها الحرّ بن يزيد حين اختار أن ينتقل من معسكر الباطل إلى ضفة النور، في لحظة من أعظم لحظات التحوّل في التاريخ. كان بإمكانه أن يصمت، أن ينسحب بهدوء، لكنه أراد أن يُخلّد موقفه بكلماتٍ تشبه طهر التوبة.
وفي لحظة، تحوّل من قائد في جيش يزيد إلى شهيد في كتيبة الحسين، وصار اسمه مرادفًا للتوبة النبيلة.
“في نصرتك أحلى من العسل”
هكذا أجاب الفتى القاسم، ابن الحسن المجتبى (ع)، حين سأله عمه الحسين (ع) عن الموت. لم يكن قد بلغ الحلم، لكنه أدرك أن الشهادة في كربلاء ليست موتًا، بل ولادة جديدة في سجل الخلود.
أن يقول فتىٌ يافع إن الموت “أحلى من العسل”، فذلك لا يكون إلا لأن في قلبه من النور ما لا تحمله الجبال.
“ما رأيت إلا جميلًا”
أما زينب (ع)، سيدة الصبر، فما قالته في مجلس الطغاة هو أعظم من كل الخطابة والفصاحة. لم تُهزم، لم تنكسر، بل وقفت كأنها تمثّل السماء أمام التراب، وقالت ليزيد: “ما رأيت إلا جميلًا”.
رأت الأشلاء، سمعت الأنين، عاشت العطش والموت، لكنها رأت بعين البصيرة، لا بالبصر.
كانت كلماتها ثورة من نوع آخر، ثورة المرأة التي لم تكن على هامش الملحمة، بل في صميمها.
“فوالله لا تمحو ذكرنا”
وفي لحظة التحدّي، قالتها زينب (ع) كأنها تُلقي وعدًا للزمن: “فوالله لا تمحو ذكرنا”.
وكان ما قالت.
مرت القرون، تغيّرت الدول، سقطت عروش، وتبدّلت خرائط، ولكن ذِكر الحسين (ع) بقي، وازداد، حتى صار كل محرّم موسمًا تستفيق فيه الضمائر.
“حرارة لا تبرد”
قالها الإمام الصادق (ع): “إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا”.
ولم تكن نبوءة، بل حقيقة نعيشها، فالحسين (ع) لم يُقتل ليُنسى، بل قُتل ليكون حياةً للقلوب الحيّة.
كل دمعة تُسكب عليه، كل قلب يخفق حين يذكره، كل مجلس يُقام باسمه، هو تأكيد جديد على أن الكلمات التي قيلت في كربلاء، لم تكن كلمات لحظة، بل رسائل خالدة من زمن الطهر إلى كل العصور.
خاتمة:
ليست هذه الكلمات مجرّد أقوالٍ مأثورة، بل هي جمرات من نور، تُشعل في النفس جذوةً لا تنطفئ. كربلاء لم تكن ساحة موت، بل ساحة ولادةٍ جديدة للإنسان، حين يقول كلمته ولو كلفه ذلك حياته.
السلام على الحسين
وعلى من علَّمنا أن الدم يمكن أن يكون أنقى من الماء،
السلام على الحسين
وعلى كل قطرةٍ سقطت لتزرع في الأرض شجرة حرية لا تموت،
السلام على الحسين
الذي قال “هيهات منا الذلة”، فسمعها الكون إلى يوم يُبعثون،
السلام على الحسين
في عطشه، في صمته، في سكينته، وفي صرخته،
السلام على الحسين
وعلى علي بن الحسين
وعلى أولاد الحسين
وعلى أصحاب الحسين
الذين باعوا دنياهم ليشتروا بقاء المبدأ.
السلام على الحسين…
في القلب نار لا تُطفأ، وفي العين دمع لا يجف
