إلى أولئك الذين جلسوا على تراب المجالس، لا طلبًا للدموع فقط، بل رغبة في اللقاء مع الله عبر الحسين (ع).
إلى من فهم أن اسم الحسين (ع) ليس ندبةً، بل طريقًا… وأن المجالس ليست تقليدًا، بل شعيرة من شعائر الوعي الإلهي.
ما إن يُذكر الحسين (ع) حتى تتغير نبرة الزمن. وتتحول المجالس إلى لحظة استثنائية، يتداخل فيها التاريخ بالخلود، والدمعة بالبصيرة، والنداء باللهفة.
والسؤال الذي يعود في كل عصر هو:
هل مجالس الحسين (ع) شعيرة من شعائر الله؟ أم طقس شعبي نُمارسه دون وعي؟
إن الجواب لا يأتي من العاطفة وحدها، ولا من العادة، بل من عمق المعنى الذي جسّده الحسين (ع)… ومن معنى “شعائر الله” التي أمرنا الله أن نُعظّمها:
﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ﴾.

مجالس الحسين… حين تتجلّى التقوى
مجالس الحسين ليست أماكن للبكاء وحسب، إنها محاريبٌ للوعي، تُقام فيها الصلاة الخفية بين قلب الحاضر ودم الحسين (ع).
حين يجتمع الناس ليُذكَر فيهم الحسين (ع)، فإنهم في الحقيقة يذكرون: العدل، والموقف، والإيثار، والتوحيد الحقيقي.
في تلك المجالس، لا يُعاد مشهد كربلاء فقط، بل يُستنهض الضمير ليعيش كربلائه الخاصة في هذا الزمان.
فكل من حضرها بنيّة الصدق، فقد عظّم شعيرةً تُقرّبه من الله، لأنّ الحسين (ع) كانت رسالته لوجه الله.
ما هي شعائر الله؟
الشعائر في معناها القرآني هي كل ما عُظّم لأجل الله، وكان طريقًا للتقوى، أو رمزًا لهُوية الإيمان.
فرمي الجمرات شعيرة، والوقوف بعرفة شعيرة، والأذان شعيرة، والنحر شعيرة.
فكيف لا تكون ذكرى من خرج لله، وذُبِح لأجل كلمة التوحيد، من أعظم شعائر الله؟
كيف لا تكون المجالس التي تُحيي دمه، وتُستحضر فيها القيم التي استشهد لأجلها، من أعظم منارات التقوى؟
المجلس الحسيني… محراب لا يُشبه سواه
في مجلس الحسين:
لا تُلقى محاضرة فحسب، بل يُسكب تاريخٌ حيّ في قلبٍ خاشع.
لا يُبكى رجلٌ فقط، بل يُجدد عهدٌ مع الله على طريق الكرامة.
لا يُقرأ سطرٌ من المأساة، بل يُكتب سطرٌ من نهضة الذات.
من جلس في مجالس الحسين (ع)، وسمع العِبرة، وحضرت في قلبه الإرادة، فقد دخل مقام “التقوى الحيّة”.
والتقوى، كما قال الله، هي روح تعظيم الشعائر.
لماذا يُحارب المجلس الحسيني من قبل البعض؟
لأنّه يُنبتُ الوعي.
لأنّ فيه صوتًا يقول: “لا للطغيان والظلم”، كما قالها الحسين (ع).
لأنّه مدرسة تنجب أحرارًا، لا عبيدًا.
لأن في مجالس الحسين (ع) الله حاضرًا، لا عبر النظريات، بل عبر دمٍ سال من أجل أن يبقى الله حيًّا في قلوب الناس.
من هنا، فإنّ من يُريد أمة نائمة، يحارب هذه المجالس.
ومن يُريد أمةً واعية، يُقيمها بكل حب وخشوع.
المجالس الحسينية امتدادٌ لوعد الله
حين وعد الله إبراهيم بأن يرفع له ذكرًا، رفع الكعبة، وأمر الناس بالحج.
وحين وعد الحسين (ع) أن يخلّده، جعل دمه منارًا، ومجالسه طريقًا.
ليس من العبث أن يقول النبي:
“إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا”
ولا من الصدفة أن تبقى المجالس عامرة، ولو أُغلقت المساجد، ولو حوصرت الشعائر.
لأنّ الذي أقامها هو الله… والذي يُحييها هو القلب.
في الختام:
حين تُصبح المجالس جسرًا نحو الله….
مجالس الحسين هي من شعائر الله، حين تُقام بروحٍ واعية، ونيّة خالصة، وعينٍ ترى ما وراء الدمعة.
هي ليست مجرّد ذكرى لماضٍ مضى، بل بوابة لمستقبلٍ تُنيره قيم الحسين (ع).
وكل من أحياها، فقد أعان الله على أن تبقى الكلمة كلمة حق، والراية راية نور.
وأننا، حين نجلس في مجالس الحسين (ع)، فإنما نُعظّم الله في أبهى شعائره…
وأن الحسين (ع)، لا يُبكي لأجله فقط، بل لأجلنا نحن الذين نحتاج إلى نهضته في قلوبنا كل يوم…
