أخلاق التقنية: حين تصبح الفضيلة فريضة – بقلم عبدالله سلمان العوامي

في عصرٍ باتت فيه التقنية والذكاء الاصطناعي يحددان ملامح حياتنا اليومية، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا ليس حول ما نملكه من ذكاء أو معرفة، بل حول الكيفية التي نستخدم بها هذه الإمكانات.

هل يمكن أن يتحوّل الطبيب من منقذٍ للأرواح إلى أداةٍ للتربّح؟

وهل يُعقل أن يكتب المؤرخ صفحات من الكذب تُخلّد كحقائق؟ و

هل يمكن للذكاء الاصطناعي، أعظم إنجازات البشرية، أن يصبح سلاحًا يهدد وجودها؟


لا شك أن المعرفة والمهارات التقنية والإبداعية تحمل في طياتها فوائد جمة، لكنها لا تخلو من مخاطر إذا أسيء استخدامها. وتبرز هذه الجوانب السلبية بشكل خاص مع التطور المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي والتقنية الحديثة. في تقديري المتواضع، الخطر الحقيقي لا يكمن في التقنيات نفسها، بل في طريقة تعامل الإنسان معها وفي مدى التزامه بالأخلاق والقيم الإنسانية.

بين نعمة المعرفة وخطر الانحراف: مفارقات واقعية بين الفضيلة وسوء الاستخدام

عندما ننظر بعمق إلى مجالات الحياة المختلفة، نكتشف أن كل أداة أو موهبة أو منصب يمكن أن يكون مصدر خير أو شر، بحسب النوايا والأخلاقيات التي تحكم استخدامها. السلاح مثلًا: في يد المجرم خطر، وفي يد رجل الأمن أمان. الطبيب، رغم مهنته الإنسانية، قد يُغريه التسويق أو سياسات المستشفى ليصف أدوية غير ضرورية. المدير التنفيذي، بعلمه ومهاراته، قد يخدم المصلحة العامة أو ينحرف لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المجتمع. حتى المعلّم، صاحب الرسالة النبيلة، قد يُسيء بتعامله أو يهمل مسؤوليته تجاه طلابه.

وينطبق الأمر نفسه على تقنيات الذكاء الاصطناعي، والعقول المبدعة، ورجال الدين، والمحامين، والكتّاب. الذكاء الفائق يمكن أن يصنع دواءً أو ينشر فيروسًا، ورجل الدين قد يرتقي بالناس أو يستغلهم لمصلحته، والمحامي قد يدافع عن المظلوم أو يبرئ الظالم باستغلال ثغرات القانون، والمؤرخ قد يوثق الحقيقة أو يزوّرها لخدمة أجندات خاصة.

وتتجسد هذه المفارقة في أسئلة مصيرية:
• هل يصمد الطبيب أمام الإغراءات ويحفظ شرف مهنته؟
• هل يتقي المحامي الله في موكله ويراعي ضميره؟
• كيف نثق بالإعلام في زمن التزييف؟
• هل يلتزم مطور الذكاء الاصطناعي بالأثر المجتمعي لتقنيته؟
• هل يخدم المدير التنفيذي شركته ومجتمعه أم نفسه فقط؟
• هل يبقى رجل الدين مصلحًا أم يغويه النفوذ؟
• هل يحافظ المعلّم على أمانة المعرفة أم يهملها؟
هذه النماذج العملية تذكرنا أن جوهر القضية ليس في الأداة أو المعرفة أو المنصب، بل في أخلاقيات الإنسان الذي يستخدمها؛ فهو من يصنع الفرق بين النعمة والنقمة، بين الفضيلة والرذيلة.

الأخلاق… الحَكَم الفعلي وجوهر التحدي بين المعرفة وخدمة المجتمع
الأمثلة السابقة تُبيّن أن المشكلة لا تكمن في الطب، أو القانون، أو الإعلام، أو الدين، أو الذكاء الاصطناعي في حد ذاته، بل في مدى التزام الإنسان بالقيم الأخلاقية وهو يمارس هذه الأدوار الحساسة. فالخطر ليس في العلم أو التقنية أو الذكاء أو السلطة، بل في الضمير الإنساني الذي يوجّهها.

السؤال الجوهري هنا: أين موقع الأخلاق في كل هذه الحالات؟ وهل أصبح من الضروري أن تكون الأخلاق “مادة إجبارية” في حياتنا اليومية؟ ليس فقط كمقرر دراسي، بل كقيم وسلوكيات نمارسها بصورة تلقائية في البيت والعمل والشارع وكل تفاصيل تعاملاتنا الحياتية.

لقد بات واضحًا أننا بحاجة إلى أخلاقيات تُعاش لا فقط تُدرَّس، وأن تربية الضمير وغرس الفضيلة لا تقل أهمية عن التعليم والتدريب المهني. فالمعرفة والقدرات، مهما بلغت، تبقى أدوات يمكن أن تُستثمر في الخير أو تُستخدم في الشر، بحسب القيم التي تحكمنا والنوايا التي توجهنا. كلما رسخت الأخلاق في النفوس، قلّت احتمالات انحراف المعرفة أو المهارة نحو الإضرار بالآخرين أو المجتمع. وهكذا يصبح الإنسان – بقيمه وتربيته – هو الجوهر الحقيقي للتحدي، لا الأدوات ولا الشهادات ولا التقنيات نفسها.

وهنا يبرز سؤال أساسي
هل التمسك بالأخلاق النبيلة فضيلة اختيارية، أم هو واجب إنساني وشرعي؟ وهذا السؤال نفسه، يمكن إعادة طرحه، بصيغ متعددة، على كل الأمثلة السابقة، ومنها:
• هل الطبيب الذي يُسخر علمه لمصلحة المريض يفعل ذلك لأن الأخلاق واجب عليه، أم لأنها مجرد فضيلة يُثنى عليه إن فعلها؟
• هل الموظف أو المدير ملزم أخلاقيًا بخدمة المؤسسة والمجتمع أم أنها مجرد قيمة إضافية؟
• هل استخدام الذكاء الاصطناعي لخدمة البشرية واجب أخلاقي وتقني، أم مجرد خيار في يد المطوّر؟
• هل على الكاتب والمؤرخ أن يلتزم الأمانة، أم أن تزوير الوقائع مسألة تقديرية؟
كلما تعاملنا مع المعرفة والمهارات على أنها مسؤولية وواجب أخلاقي، لا مجرد أدوات أو فضائل اختيارية، قلَّ الخطر وزاد النفع، وارتقت المجتمعات.

وتبقى هناك الكثير من الأسئلة، ومنها:
• كيف نضمن ألا تتحول التقنية من خادم للبشرية إلى سيدٍ يسيطر عليها؟
• هل يمكننا حقًا تعليم الآلات والذكاء الاصطناعي القيم الإنسانية الأساسية؟
• ما هي الحلول والاقتراحات لمواجهة هكذا تحديات؟
ورغم كل التحديات الجسيمة التي يفرضها عصر التقنية المتسارع، يبقى الإنسان الواعي والملتزم بالقيم والأخلاق هو صمّام الأمان الحقيقي لمستقبل أكثر إشراقًا.

فليست التقنيات أو المعارف هي مصدر الخطر بذاتها، بل تكمن الخطورة الحقيقية في النوايا والسلوكيات التي توجه استخدامها.

وفي الختام، قد ندرك جميعًا أن أعظم منجز للإنسانية ليس في ابتكاراتها المادية، بل في قدرة الإنسان ذاته على توجيه هذه الابتكارات بعقل راجح وضمير حي وأخلاق رفيعة. هكذا وحده نصنع عالماً يليق بقيمنا الإنسانية.

الأستاذ عبدالله سلمان العوامي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *