حين تتكلم الأرض بلسان أهلها – بقلم صادق علي القطري

القطيف ليست مدينة فحسب، بل ذاكرةٌ تمشي على الأرض. هنا، لا تُقاس الهوية بجواز سفرٍ أو شعار إداري، بل تُقاس بصوت المئذنة القديمة، ورائحة الخبز في الفرن الطيني، ولمعة اللؤلؤ في يد الغوّاص، ودعاء الجدّة عند غروب الشمس. إنها فسيفساء من الطبقات الثقافية، حيث اختلطت الأصول العربية، والبصمات الإسلامية، والمفردات البحرية، والحرف الزراعية، لتنتج مزيجًا فريدًا لا يشبه سواه.

في القطيف، كان البيتُ مدرسةً، والسوقُ مسرحًا، والمجلسُ منبرًا. تجد في كل زاوية مجلسًا علميًا، أو حلقة أدبية، أو قهوةً تختزن أخبار البحر والبر. وكانت مجالس الرجال والنساء على السواء منصّات لنقل الحكاية، وتوارث الحكمة، والاحتفاظ باللغة نقيةً حيّة، لا تجفّ على لسان الأجيال.

النخلة، ليست فقط شجرة، بل رمزٌ للكرامة والصبر والوفاء، تنمو في حوش الدار، وتطعم الغريب قبل القريب. والبحر، لم يكن مجرّد رزق، بل أبٌ قاسٍ، يُعلّم الشجاعة، ويمنح الأسماء وزنها بين الغوّاصين والنواخذة.

أما الصناعات اليدوية، من السعف إلى الخوص إلى صناعة القراقير، فهي لغةٌ أخرى للهوية، تُمارَس باليد، وتحفظ بالعين، وتُروى بالحب. كان الحِرَفي في القطيف، شاعرًا من نوعٍ آخر، يُدخل في جدائل السعف أسرارًا من الحياة، ويترك في المنسوجة أثرًا لا يُنسى.

وفي القطيف، اختلط الدين بالعلم، واختلط الشعر بالواقع. لم تكن المدينة منغلقة على نفسها، بل كانت منفتحة على العراق، وإيران، والهند، وسواحل الخليج الأخرى، عبر التجارة والمصاهرة والعلم، لكنّها حافظت رغم ذلك على لهجتها، وأمثالها الشعبية، وفنونها، ومناسباتها، من الموالد إلى الأعراس، ومن القرقيعان إلى الأعياد.

وإن سألت عن المرأة، فستجدها في كل تفاصيل الهوية: في صوت التلاوة عند الفجر، وفي كحل العيون، وفي خياطة العباءة، وفي تدبير الشؤون اليومية، وفي تربية الأجيال على الصبر والحكمة.

القطيف… هوية تتكلم بلهجة الموج والنخل
الهوية في القطيف ليست شعارًا يعلّق على الجدار، بل وجدانٌ عميق يسري في الناس كما تسري العيون في الأرض. قد تتغيّر الخرائط، وتُستحدث الأسماء، وتُهدم بعض الأزقة، لكنّ الهوية لا تُمحى… لأنها مكتوبة في القلب، ومحفورة في الذاكرة، ومنقوشة في طين الجدران القديمة.

في القطيف، كما في الخليج الأعمّ، لا نبحث عن الهوية كمن يفتّش عن شيء ضائع، بل نستدعيها كأغنية قديمة نحفظها دون أن نتعلّمها.

المهندس صادق علي القطري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *