الحاج علي: طيبة أضاعت صاحبها – بقلم علي الجشي

الطيبة ليست سذاجة، ولكن كثيرًا ما تُكسر قلوب الطيبين بأيدٍ جافية، لا تُحسن فهم النبل، ولا تردّ المعروف بمعروف.

رغم بساطة حياته، لا تزال حكاية الحاج علي تعاودني كلما رأيت من يُفرط في العطاء، أو من يُضيّع رزقه سعيًا وراء رضا الوجوه العابرة، متغافلًا عن منطق الحكمة، وغافلًا عن رجاحة العقل التي تحفظ الكرامة.

لا أدري من أي قرى الأحساء جاء، ولا متى بدأت علاقته بالقطيف، لكنها جاءت على الأرجح من السوق. من سوق الخميس، حيث امتزجت التجارة بالأخوة، والربح بالود، بين أهل القطيف والأحساء في زمن مضى.

كان الحاج علي يأتي كل خميس، يحمل من خيرات الأحساء ما يسرّ العين ويفتح الشهية: تمر الخلاص والرزيز والشيشي، والرمان الحساوي حلو المذاق، وحب الشمسي الذي كان جوهر تجارته.

يفرش بضاعته في السوق، يبيع ويبتسم، ويُعرّف الناس على ما صنعته الأيادي الإحسائية بإتقان.
وفي نهاية اليوم، يعود محمّلًا من القطيف بالسمك المجفف، والربيان، والعومة التي تُستخدم علفًا للأبقار، ليبيعها في الأحساء.

ازدهرت تجارته، فقرّر الاستقرار. استأجر بيتًا ودكانًا، وجاء بأسرته الصغيرة: زوجته، وولدَيه محمد وعبد الواحد، وابنته شهربان.

انسجم الأبناء مع أولاد الحي، وصاروا جزءًا من تفاصيله. أما الزوجة والبنت، فبقيتا حاضرتين بأدب، غائبتين عن عمق العلاقة.

كبر اسم الحاج علي في السوق، وعُرف بين الناس لا بجودة ما يبيع فحسب، بل بسخائه الذي لا يعرف كبحًا.
كان مولعًا بالكرم، شغوفًا بإقامة الولائم. كل أسبوع، يستضيف ضيوفًا من كل حدب وصوب.
الذبائح، والدجاج، والأسماك، والفواكه، والشاي، والقهوة… وليمة يعدّها مع أسرته، وتُقدم بمحبة.
كان المجلس لا يهدأ، يملأه الضحك، وتعلو فيه المجاملات، بينما محمد وعبد الواحد يخدمون الضيوف بكل طواعية.

كان أيضًا متعلقًا ببعض “الوجوه البارزة”؛ أولئك الذين يجيدون الوقار، ويتقنون الابتسامة، ويملكون من الهالة ما يُرغم أمثاله على التودد والتقرب.
يصادقهم، ويغدق عليهم من بضاعته ما يطلبونه وما لا يطلبونه، بلا مقابل.
وكان يصحبهم إلى الأحساء، يتكفّل بكل شيء: الطعام، والسكن، والتنقل. يدفع، ويُرضي، ويستدين.

هكذا ظل على حاله لسنوات… يعطي، ويعطي، حتى أكلت الديون ما جمعه، وأثقلت كاهله.
تخلّى عن البيت الرحب، وانتقل إلى صندقة متواضعة بالكاد تقيهم حرّ الصيف أو زمهرير الشتاء.
أغلق دكانه، وصار يفرش ما تبقّى من بضاعته على الرصيف.

اختفت تلك الوجوه التي كانت تملأ مجلسه، وانفضّ من حوله من كان يتودد حين كان العطاء وفيرًا.

تغيّر وجهه… ذاك الوجه الدائري، الذي كانت الحمرة تزيّنه، غطّاه الشحوب، وملأت التجاعيد مساحاته.
ظلت لحيته البيضاء كما كانت، مرتبة، لكن عينيه فقدتا بريقهما، واستقرتا على الأرض، كأنهما تعتذران بصمتٍ عما كان من حسن نيةٍ بلا حساب.

أبناؤه تبدلت أحوالهم. من أولاد أنيقين، إلى فتيان بالكاد يملكون ما يشترونه. حتى نفوسهم لم تسلم من وطأة التغيير.

أما زوجته، أم محمد، فكانت مثالًا نادرًا للصبر.
صبرت حين كانت تحضّر الولائم، وتنظّف، وتغسل، وتُسهم بصمت.
ثم صبرت على حياة الصندقة، دون تذمر، ولا شكوى.
في عينيها حزن عتيق، لا أدري إن كان ناتجًا عما مرّ بها، أم أنه سابق لكل ما جرى.

في النهاية، قرر الحاج علي الرحيل. عاد إلى الأحساء، وانقطعت أخبارهم منذ ذلك الحين.
لم تكن وسائل التواصل كما هي الآن. من يغادر البلد في تلك الأيام، كأنه ابتلعته الغربة.

وأنا، بعد كل هذه السنين، لا يزال السؤال يراودني:

لماذا فعل الحاج علي ما فعل؟
لماذا استمر في إكرام من لا يستحق؟
أما كان بين معارفه من ينصحه؟
أم أن أهل الرأي يهابون النصيحة حين يرونه منغمسًا في وهم القبول؟
أم أنه نُصح، لكنه لم يُصغِ؟
هل خدعه بريق الوجوه؟ أم أنه كان عطشانًا للاعتراف والقبول؟

ربما… لم يقرأ كتابًا يحذّره من استغلال الطيبين أمثاله،
وربما… لم يُشاهد فيلمًا يحكي عن خيبة الكرم حين يذهب في غير أهله،
وربما… كان فقط، طيبًا… أكثر مما ينبغي،
وربما، لم يكن إلا قلبًا نقيًا، لم يُصادف قلوبًا تبادله النقاء.

المهندس علي الجشي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *