إلى كل من شرب من ماء هذه الأرض، ثم حمل طعمها في قلبه أينما رحل…
لم تكن عيون القطيف مجرد ينابيع ماء… بل كانت عيونًا تُبصر بها الأرض وتتنفّس.
تنبجس من جوف التربة كأنها تنهيدة صبرٍ خرجت من قلب نخلة عجوز،
تسري بين السواقي والجدوال كأغنية أزلية، تعرف طريقها دون أن تُرشد.
تفتح الفجر بجريانها،
وتغسل وجوه الفلاحين قبل أن تلامسهم أشعة الشمس.
تجعل من الطين صلاةً، ومن الزرع دعاءً، ومن النخل قصيدةً خضراء.
في طفولتنا، كنّا نظنها كائنات سحرية.
تأتي من عالم آخر، وتعرف أسماءنا، وتراقب لعبنا، وتضحك حين نغوص في طين ضفّتها.
كنا نؤمن أن كل عينٍ منها لها روح،
وأنها تحزن إن أهملناها، وتفرح إن غنينا لها.
“عين الخُباقة”، “عين القصاري”، “عين الكعيبة”،
كلٌّ منها حكاية، ولكل حكاية أمٌّ وجِدّة،
ولكل جدة ذاكرة، محفورة على الجدران الطينية،
تُروى في المجالس، وتُهمس في الحقول.
لكن الزمن جفّف الملامح…
واختنقت بعض العيون تحت الإسفلت والحديد،
وباتت تتنهد تحت الأرض، تنتظر من يسمع صداها.
هل نسيها الناس؟
أم أن العيون ما زالت ترى، تنتظر من يبصر بها من جديد؟
فالماء لا يموت…
هو فقط ينتظر أن نعود إليه بقلوب نقية كما كنّا يومًا أطفالًا نغتسل على ضفّته….
