لمحة تاريخية عن صناعة مياه الأعشاب في الدبَّابيَّة – بقلم أحمد بن جواد السويكت

صناعة مياه الأعشاب الصحية المعروفة بعملية التصعيد “التقطير” هي إحدى الصناعات القديمة التي كانت معروفة في مدينة القطيف في عدة أحياء، وبالتحديد بلدة الدبَّابيَّة القديمة الذي عُرف بعض أفرادها منذ القدم بهذه الصناعة وبالطرق التقليدية البدائية في بيوتهم وبالأدوات البسيطة. ولكن للأسف هذه المهنة اندثرت من مدينة القطيف المحروسة.

بلدة الدبّابيَّة القديمة عام 1401هـ

ومن أبرز اللذين عملوا في هذه المهنة من بلدة الدبَّابيَّة:

{1}

[الحاجّ علي الحوري]

امتهن الحاجّ علي الحوري “أبو أحمد” – رحمه الله – صناعة مياه الأعشاب الصحية في بلدة الدبَّابيَّة القديمة ويقع منزله في الجهة الغربية بجوار بيت الوالد الحاجّ جواد سلمان السويكت “أبو احمد”، ومقابل بيت الحاجّ علي حسن المخامل “أبو عبد الحميد” – رحهما الله –

(من اليسار) بيت الحاجّ سعيد علي الحوري الذي كان يصنع فيه مياه الأعشاب في بلدة الدبابية القديمة عام 1398هـ.

وقد تعلم أبنائه الحاجّ “أحمد” والحاجّ “سعيد”(1) هذه الصنعة منذ نعومة أظافرهم وكانوا يمارسونها مع أبيهم، ولكن ابنه الأكبر الحاجّ “أحمد” قبل وفاة أبيه هاجر إلى دولة البحرين وسكن في فريق “المخارقة” في قلب مدينة المنامة العاصمة، وعاش فيه حتى وفاته ودفن فيه، وله من الذرية الصالحة 4 أبناء وبنت واحدة.

وأما الحاجّ سعيد “أبو محمد” – رحمه الله – استمر في هذه الصنعة بعد وفاة أبيه مع أنه التحق بوظيفة حكومية في القاعدة الجوية في مطار الملك فهد بالظهران، مع ذلك لم تمنعه الوظيفة الحكومية من مزاولة هذه الصنعة، وبعد الانتهاء من عمله الحكومي (يوميا) يزاول صناعة مياه الأعشاب من بداية وقت العصر حتى الليل بالإضافة إلى أيام الإجازة الأسبوعية الخميس والجمعة، حيث يقوم في هذه الأوقات بصناعة مياه الأعشاب الصحية بالأدوات البسيطة مثل: (1- القدر المعدني بغطاء محكم والذي يوضع فيها الماء والأعشاب. 2- القرابية أو المعروفة باسم “الزجاجة الكبيرة” وهي مصنوعة من الزجاج والتي تستخدم في حفظ المنتج من الأبخرة الخارجة من القدر المعدني. 3– الأنبوبة المعدنية أو النحاسية وهي توصيلة ما بين القدر والمسخنة والتي تساعد على تكثيف البخار الخارج منها إلى ماء. 4– المسخنة تستخدم في جمع الماء من الأبخرة الخارجة من القدر وتوضع المسخنة في بركة ماء والهدف من ذلك تبريدها).

ويقوم في العادة الحاجّ “سعيد” بسحب الماء من البئر “الجفر” الموجود في بيته ثم يضعه في البركة الخاصة بالمسخنة.

وهذه العملية تسمى بـ التصعيد “التقطير” ، وينتج من هذه العملية عدة أنواع من مياه الأعشاب الذي يقوم بصناعتها الحاج ّ “سعيد” مثل: ماء النقيعة وماء الزموتة وماء اللبان وماء المرقدوش وماء اللقاح المعروف “بماء القروف” وماء الدارسين وماء الحلوة وماء الزهر وماء الحندبان (الهندباء) وماء السكري وماء الورد وماء الحيج لعلاج بـ “أبو صفار” وماء الزهر وماء الطبيخة وماء النعناع.

وقد زاره في هذه الفترة (قبل 1400هـ) أحد الأشخاص من دولة البحرين وتعلم من الحاجّ “سعيد” طريقة صناعة مياه الأعشاب التي تسمى بـ التصعيد “التقطير”. ثم بدأ بتنفيذها في بلاده.

وفي منتصف عام 1400هـ أثناء التوسعة بلدة الدبابية تمت إزالة بيت الحاجّ سعيد علي الحوري “أبو محمد”، وبعدها إشترى بيتًا جديدًا بحي الزريب في شمال القلعة ثم إنتقل إليه مع جلب الأدوات الخاصة بصناعة مياه الأعشاب، وصار يُزاوِل هذه المهنة في بيته الجديد لمدة عشر سنوات حتى آخر يوم من حياته، وخلال هذه الفترة حاول استخراج ترخيص خاص بهذه الصناعة، ولكن الظروف حالت دون ذلك. وقد توفي بتاريخ 12/6/ 1410هـ، ودفن في مقبرة الدبَّابيَّة قسم الجهة الغربية.

 الحاجّ سعيد علي الحوري “أبو محمد” – الحاجّ أحمد علي الحوري “أبو علي”
الحاجّ سعيد علي الحوري مع أبناؤه في منزله في بلدة الدبابية القديمة وهو يقوم في معمله بصناعة مياه الأعشاب عام 1396هـ. (مصدر الصورة: من أخينا العزيز الأستاذ /عادل حبيب آل إسماعيل ” أبو هادي” – حفظه الله تعالى).
الحاجّ سعيد علي الحوري “أبو محمد” – رحمه الله – في معمله لصناعة مياه الأعشاب
من اليسار الحاجّ سعيد علي الحوري مع ابنه الأكبر “محمد” وفي وسط الصورة ابن عمه الحاجّ أحمد منصور الضبيكي “أبو عبد رب الحسين” التي تربطهما صداقة وطيدة.
الأدوات القديمة المستخدمة في صناعة مياه الأعشاب للحاجّ سعيد علي الحوري “أبو محمد” وهي الآن بحوزة أحد أبنائه.
طلع النخل الذي يستخدم في صناعة ماء اللقاح “القروف” – (تصوير كاتب المقال عام 1446هـ)

{2}

[الحاجّ محمد علي العبد رب النبي]

امتهن الحاجّ محمد علي العبد رب النبي “أبو عون” – رحمه الله – صناعة مياه الأعشاب في بلدة الدبابية القديمة ويقع منزله في الجهة الغربية بجوار بيت الحاجّ الملّا مهدي عبد الله المناميين ومقابل بيت الحاجّ عبد الله مهدي السويكت “أبو سليمان” الذي تساعده في ذلك زوجته مع ابنها الحاجّ “عون” الذي لا يتجاوز عمره آنذاك 7 سنوات.

وحينما توفي الحاجّ “محمد” ورث ابنه الحاجّ عون “أبو حسن” المولود سنة 1348هـ، هذه الصنعة وأخذ يقوم في صناعة مياه الأعشاب بجميع أنواعها وهي: ماء الزموته وماء المرقدوش وماء اللقاح المسمى “ماء القروف” وماء الدارسين وماء الزهر وماء الحندبان “الهندباء” وماء السكري، وأما صناعة ماء الورد يكون موسميًا في فصل الربيع، الذي يجلب من أحد المزارعين من بلدة الجارودية بكميات كبيرة تقدر ما بين (1000-1500) وردة يوميًا ثم بعد ذلك تكون عملية التصعيد “التقطير” مرتين حتى يصبح مركزًا وذات جودة عالية.

وأيضًا يقوم بصناعة ماء البيدر “الماء المقطر” ويكون خصيصًا إلى عمدة القلعة الوجيه الحاجّ عبد الله نصر الله (1311-1374هـ) وأثناء تسليم ماء البيدر إليه، يعرج إلى زيارة منزل الشاعر الكبير أحمد بن سلمان الصائغ الشهير بالكوفي (1324-1420هـ)(2)، التي تربطهما صداقة بالإضافة إلى نفس المهنة.

الحاجّ عون محمد علي العبد رب النبي “أبو حسن” – رحمه الله

وبعد عدة سنوات من العمل في هذه المهنة، إنتقل الى النخل المسمى “باب الصَّرفان” حاليًا موقع “مستشفى الزهراء” وجلب الأدوات الخاصة بهذه الصنعة إلى هذا النخل ثم بدأ بمزاولة صناعة مياه الأعشاب لمدة طويلة بالإضافة على عمله في النخل، ولكن سرقت جميع الأدوات الخاصة بهذه الصنعة من النخل وبعدها توقف بشكل نهائي واتجه بشكل كامل نحو مهنة الفلاحة عملًا له تاركًا هذه الصنعة الذي ورثها من أبيه، ثم بعد ذلك إنتقل إلى نخل آخر المسمى “باب الحميرة ” التابع الى سّيحة بلدة الدبَّابيَّة.

وكان يزوره في النخل كل يوم ثلاثاء “عمدة الدبَّابيَّة” السيد علوي أمين الماحوزي (1347-1431هـ) والحاجّ إبراهيم عبد الله الحباس “أبو عبد الله” وأيضا من جلسائه والملازمين له فيه (الحاجّ عباس علي الشرقي “أبو فاضل” والسيد محمد مكي علوي الفلفل “أبو سيد عباس” والحاجّ فيصل سعيد المرزوق والحاجّ منصور أحمد الخليل). وقد توفي في يوم الأحد الموافق 26 جمادى الأولى لعام 1445هـ ودفن في مقبرة الخباقة.

من اليسار بيت الحاجّ عون محمد العبد رب النبي “أبو حسن” الذي يقع مقابل بيت الحاجّ عبد الله مهدي السويكت “أبو سليمان” والذي يقوم فيه بصناعة مياه الأعشاب في الدبابية.
أمام الصورة بيت الحاجّ عون محمد علي العبد النبي في الدبابية بعد التوسعة عام 1401هـ.

ـــــــــــــــــــــ

الهوامش: –

(1) وهو من المؤمنين الأخيار الأتقياء وكان يتمتع بحسن الخلق والتواضع وطيب المعشر، ويتعامل مع الآخرين بصدق واخلاص وأمانة عالية جدًا.

(2) قال المؤرخ محمد سعيد المسلم في كتابه واحة على ضفاف الخليج (القطيف ) صفحة (376) تحت رقم (12) أحمد بن سلمان الكوفي: هو ثاني النوابغ من شعراء القطيف بعد محمد بن سلطان ، ولد سنة 1324هـ ، وقد حمل لقب أبيه الذي ولد بالكوفة فنسب إليها ، ويعتبر هذا الشاعر من الرجال الموهوبين فقد كون نفسه بنفسه عن طريق التثقيف الذاتي ، فلم يتيسر له التعليم في صغره ، فنشأ أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، وفي سن الشباب بعد أن تجاوز العشرين استطاع أن يفك الحرف ، ثم تعلم مبادئ القراءة والكتابة ، وبعدها درس قواعد اللغة على الأستاذ الشيخ ميرزا حسين البريكي ، فنبع في قول الشعر. يتسم شعره بالسلاسة وعفوية التعبير ، ويجسد روحه الشعبية ، لا سيما حين يقرأ شعره الهزلي.

 

الأستاذ أحمد بن جواد السويكت

10 تعليقات

  1. كانت في وقتها من احسن المياه المطلوبة كعلاج.

  2. تركي بن سعيد إخوان

    رحمة الله عليهم جميعًا 🤲🏻 إلى الان لا زلت اتذكر المرحوم سعيد الحوري وكنا نذهب دائمًا نمر من صوب بيته رحمة الله عليه

  3. علي سعيد عبدالمهدي اخوان

    احسنت اخي ابومصطفى وجزاك الله خيرا ً على هذه المعلومات والتوثيق الذي حقيقة ً فيه جهد كبير لجمع المعلومات خصوصاً القديمة منها

    شكرين لك تلك الجهود

  4. منصور الصلبوخ

    لا شك إنه بحث تاريخي يثير إعجاب القراء الأعزاء .. كونك استطعت أيها الباحث ابن الديرة الأستاذ أحمد بن جواد السويكت توثيق موروث شعبي طواه النسيان واختفى ذكره، من هنا كان حقًا على باحثنا أن يستخرج هذا الموروث النافع لاستكمال صورة ماضينا الجميل.
    كانت المنطقة تفتقر إلى الخدمات الصحية، وكان الناس يلجأؤون إلى الطب الشعبي للتداوي، لذا فقد شاع استخدام النباتات الطبية ومستخلاصاتها مثل الخروع والعشرق والزموته والمرقدوش .. والمياه العطرية مثل ماء الورد واللقاح .. واحتلت مكانًا بارزًا في محلات العطارة ومراكز التسوق وحتى في الأسواق الشعبية، وأصبح من المألوف أن تتواجد الأعشاب الطبية وميائها في كل بيت، كونها تمثل وصفات متوارثة لعلاج بعض الأمراض مثل مشاكل القولون والمغص وتخفيف آلام المعدة وكثير من العلل.
    في سنوات ماضية وفي مواسم معينة يقطف الحرفيون النباتات العشبية البرية وغيرها، ويتم جمعها بناء على خبرتهم ومعرفتهم بخواصها الطبية والعطرية. ثم تنقل إلى بيوتهم، ويتم وضعها في قدر التسخين بشكل تقليدي ويضاف إليها المياه بمقدار معين، ثم يغلى الماء مع العشبة لساعات طويلة حسب نوع العشبة، حيث يكون الناتج النهائي بعد التبخير بخار يمر عبر انبوب معدني بقناة تبريد، تعمل على تحويل البخار بالتكثيف إلى ماء وتسمى هذه العملية ( التقطير ) حيث يجمع المستخلص المركز في قوارير زجاجية كبيرة. ثم تعبأ في قوارير صغيرة.
    ونشترى من العطار أو الحواج تلك المياه العشبية والعطرية لأغراض علاجية أو كمشروب عطري . وكانت عادة شرب العشرق كمادة مسهلة ومطهرة للأمعاء شائعة بين سكان القطيف.
    من الملاحظ أن الأعشاب الطبية تتمتع بخصائص علاجية مميزة، يمكن الاستفادة منها في العديد من الأغراض العلاجية، ولها فوائد لا تحصى .
    نحن نحب استخدام مياه الأعشاب الطبية ونفضلها على العقاقير والأدوية الحديثة لأنها مأمونة، ولأنها جزء من تراثنا، لقد استخدمها أسلافنا، وورثنا حبها منهم، ونحن نعرف مدى نفعها وقدرتها على الشفاء فعلًا بإذن الله.
    كنا نتمنى المحافظة على هذه الحرفة الأصيلة وتعليمها للأبناء، لكي نضمن لها الإستمرار.
    أخي الباحث أبا مصطفى لقد عرّفتَ القارىء الكريم على بعض العوائل التي مارست صناعة المستخلصات العشبية مثل عائلة الحوري الكريمة رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين، وهم جيرانكم في الدبابية، نعم لقد مارستْ هذه العائلة هذه المهنة في بيتهم، وقد ورثوا هذه الحرفة الشعبية من آبائهم وأجدادهم.

    بحث رائع بأسلوب مشوق ومختصر سيستمتع به القارىء .. سائلًا الله عز وجل أن يوفقنا جميعًا لكل ما فيه خير مجتمعنا وبلدنا المعطاء .. وهو ولي التوفيق.

  5. شفيق حسين المناميين

    كنا في طفولتنا اذا مررنا بجانب بيت الحوري الكرام نشم بشكل واضح عدد من الروائح الطيبة وأكثرها ثبوتاً في ذاكرتي هي رائحة ماء القروف او اللقاح

    ادام الله لك التوفيق ومتعك بالصحة والعافية ابا مصطفى

  6. ممتاز وماضي جميل. احسنتم موضوع شيق

  7. نضال - ابو محمد

    مساك الله بالخير ابو مصطفى
    جمال الموضوع هو من كتب وبحث ونشر جهود أجدادنا بالثروات المهنية التي نفتقدها في زماننا
    دامت عليكم التوفيقات وإلى مزيد من الثروات التاريخية التي تثلج الصدر

  8. أنور الدهان

    المسدد الموفق الأخ الغالي أبو مصطفى
    بحث يناغي الإحساس والمشاعر…
    ويبعث في القلب الشجون والافتخار
    لمن رفع القطيف بجهودهم
    والحسرة على تلك المهن لم يرثها الأبناء من الأباء…
    ذكريات جميلة ياليتها تكون منار لشبابنا الطموح….
    فجزاك الله عنا خير الجزاء…
    وبارك الله في جهودك المتميزة…
    ببركة الصلاة على النبي محمد صل الله عليه وآله

  9. ابو محمد المتروك

    شكرًا جزيلًا للأستاذ أحمد بن جواد السويكت على مقاله القيم “لمحة تاريخية عن صناعة مياه الأعشاب في الدبَّابيَّة”. لقد أتاح لنا هذا المقال فرصة التعرف على جانب مهم من تراث مدينة القطيف، مسلطًا الضوء على شخصيات بارزة مثل الحاجّ علي الحوري وأبنائه، الذين أسهموا في هذه الصناعة التقليدية. كما أضاف المقال معلومات قيمة حول طرق التصعيد “التقطير” التقليدية، مما يعزز فهمنا للتراث الثقافي والصناعي للمنطقة. بارك الله في جهودك، ونتطلع إلى مزيد من مقالاتك المثرية

  10. محمد صالح الغريافي

    أنا من محبي هذه الحرف التاريخيه وأشجع التعرف على الوجه الحضاري القديم في مدينة القطيف شكرا لك على أخي الكريم على إبراز ونشر هذه المعلومات الى عامة المجتمع ومن يتوق لمثل هذه الحرف وغيرها من الأنشطة القديمة من ماضينا التليد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *