سينما الاستهلاك وسينما الارشاد – بقلم المهندس أمير الصالح

تمهيد:
مازال اول فيلم سينمائي رأيته في حياتي عندما كان عمري السابعة عالق في ذهني. حتى الساعة مازلت اتذكر مسلسل التلفاز الشهير (الجذور Root) عن اضطهاد وتجارة العبيد الافارقة في احد القارات وكان بطل الفيلم الشاب الافريقي كونتا كونتي. مازلت اتذكر البطل الخارق ستيف اوستن مع موسيقى حركته البطيئة الملازمة لاعماله البطولية في مسلسل “رجل الستة ملايين دولار”. ادركت منذ الصغر ان السينما ومسلسلات التلفزيون المنتجة باحتراف وسردية ناضجة متكاملة تصيغ قناعات الفرد وكيفية فهمه للشؤون العامة في الحياة وتحليله للمشهد العالمي وحتى تعاطفه وانحيازه وتفضيلاته او نفوره من الشعب الابيض او الاصفر او الاسود او الملونين او بعض القضايا. وكانت ومازالت سينما هوليوود ومدارسها الفنية هي المسيطرة على الانتاج السينمائي حول العالم حتى الساعة.

فصل الصيف من كل عام هو فصل الترويح العائلي بعد انقضاء العام الدراسي الطويل. وفصل الصيف هو ايضا فصل ذروة الترويج للافلام والاعمال السينمائية حول العالم وذروة التردد على صالات السينما في دول العالم. وتتنافس كل مدن الانتاج السينمائي على الاستحواذ على اكبر قدر من المشاهدين عبر جذب المخرجين المشهورين واستقطاب كتاب الاعمال الفنية الاكثر اثارة. معظم اولياء الامور يدرجون ضمن برامجهم العائلية الترفيهية الصيفية شراء تذاكر دور لافلام سينمائية جديدة الاصدار بقصد الترفيه للابناء او بقصد المكافئة لهم بعد انتهاء عامهم الدراسي.


السينما ومدن صناعة الافلام

السينما وصناعة انتاج الافلام لا سيما الوثائقية والابداعية والتحفيزية والتعليمية والصحية وتقديم القدوات التي يحتذى بها امر مهم ومحل تقدير من الجميع. الا ان مصطلح السينما انصرف ذهنيا لدى البعض بشكل محدد وتم تحجيمه في سقف الانتاج الاعلامي لمدينة هوليوود السينمائية. افلام الاثارة الهوليودية هي الافلام الاكثر جذبا للشباب من جميع انحاء المعمورة.

ولعل افلام الاثارة الهوليودية هي الافلام الاكثر مبيعا في شباك التذاكر وتصل بغضها حد ارقام فلكية. وكمية الارباح التي يجنيها الافلام الناجحة فتحت شهية كثير من المستثمرين حول العالم لاطلاق مدن واستوديوهات تصوير مخصصة لانتاج الافلام السينمائية. ولكون الدافع الاعم لاطلاق تلكم المدن السينمائية هو المكسب المالي الاكثر، فان بعض دول العالم اتاحت وشرعت استثناء كل القوانين لحماية صناعة الافلام حتى الافلام المخلة بالعفة والمحرضة على العنف والانفلات والمحفزة على الكراهية والتنابز.

مع طغيان انتشار افلام العنف والاغواء والاغراء ، يتسأل المشاهد ذو البصيرة والناقد الموضوعي ماذا تؤصل معظم تلكم الافلام في العقل الباطن لدى الاغلب من المشاهدين لاسيما المراهقين والشباب؟! ولماذا افلام الاغواء (seduction) و العنف (action) هي الافلام المتصدرة للانتاج. هل هي صدفة ان تكون الجهود السينمائية منصبة في اتجاه او اتجاهين فقط؟

عند مشاهدتك لافلام الاثارة الهوليودية بموضوعية بحتة ، فان مفردات الفتوة والعنف والقوة الجسدية للمثلين وتوظيف اجهزة التنصت التقنية العالية الدقة والاغواء الجنسي للممثلات وترويج المخدرات وهتك الاعراض وخيانة الامانة ونقض العهود والانقلابات المتكررة في المواقف تتجلى بصور مختلفة وتنعكس في كل مجريات ومنعطفات احداث تلكم الافلام لجعلها اكثر اثارة وتشويق للمشاهدين لا سيما فئة المراهقين.

حتى ان المشاهد المحترم والعاقل والراجح البصيرة يتسأل عن اهداف المخرج من تاصيل مفردات الاغواء الجنسي والترويج للاباحية والخيانة والشذوذ والدياثة بشكل فج وصارخ ومكرر. بل في بعض الاحيان يتعمد بعض كتاب النص السينمائي في تمجيد تلكم المفردات بطرق مبطنة مختلفة ومنمقة ودمجها في سلوك بطل الفيلم وقد تلهم الشاب المراهق (الفتاة المراهقة) لتبنيها او الاقتباس منها من اجل تحقيق احلام الثراء السريع أو بلوغ مباهج حباة الرفاهية والبذخ والعربدة او استحصال منصب ما او احراز معدل دراسي مميز في اروقة تعليم مختلط بطرق ملتوية وساليب ماكرة.

قيم بعض الافلام السينمائية

الخبث (Insidious) والغدر (Treacherous) والتحالفات المتقلبة (flipping alliance) والجحود ونكران الجميل والتضليل (Misleading) والخداع (deceiving) جزء اصيل من نصوص وسيناريوهات افلام الاثارة في بعض دور صناعة افلام الاثارة المسيطرة لا سيما في بعض دول العالم الصناعي. وباختصار بعض الافلام السينمائية ترسخ مفاهيم هتك الحرمات الثلاث: الانفس والمال والاعراض.

حتى ان بعض مراهقي العالم اضحوا على يقين ان الثراء والشهرة و حياة البذخ والسيارات الفارهة لا يتولد عبر تبني عادات النجاح والجد والاجتهاد والمثابرة وانما عبر الانخراط في عالم الجريمة وتمجيد اصحاب القلوب القاسية واقتراف الاعمال المشينة دون اي رادع اخلاقي أو قانوني أو شرعي أو اجتماعي. ولك ان ترى النمو القياسي في معدل الجرائم والاغتصاب والسرقة في تلكم الدول للمقارنة.

عندما يصل الانسان الى تكذيب ما يراه في ارض الواقع وتصديق ما يسمعه ويشاهده في افلام الاكشن والاثارة السينمائية او الروايات الفنتازية الخيالية والخيال العلمي فانه خان عقله وقلبه وضميره و اضحى دمية في ايدي عقول المخرجين السينمائين والكتاب لتلكم الافلام والروايات. وسحق ذات الشخص ملكة النقد والتحليل المنطقي الذي لم يهتم بتنميته داخل روحه ونفسه.

خيانة الصداقة، خيانة الاسرة، الخيانة الزوجية، وخيانة المجتمع وخيانة الوطن اضحت مادة دسمة يمجدها مخرجي بعض الافلام والمسلسلات لخلق اطول عدد من الحلقات واطول مدد زمنية في المسلسلات الدرامية وافلام التشويق والاثارة والنزوات.

فصل ترسيخ القبول بالخيانة (Betraying) عبر تقليب المصالح على المبادئ والقيم امر اضحى مصرح به في الاعمال الفنية الاعلامية سواء التلفزيونية او السينمائية او الصوتية. نجح كتاب ومؤلفين ومنتجين كُثر من خلال اعمال فنية سينمائية وغير سينمائية في ترسيخ مفاهيم تغليب المصالح الشخصية والشهوانية على قيم الامانة والعفة والاخلاص. وشخصيا اتطلع ان ياتي جيل من المخرجين والمنتجين ممن يتبنون افلام ترسخ قيم نبيلة وفي ذات الوقت ادعو ارباب الاسر بتوخي الحذر عن انتقاء اي فيلم للعائلة وحجب افلام / مسلسلات الاسفاف وضخ بدائل تغذي معان الايمان بالقيم النافعة لايقاظ الضمير وتنقية القلوب من اثار تلكم المفاهيم المبتذلة.

هرمونات السعادة داخل مخ المشاهد

الهرمونات تطلقها الغدد في مجرى الدم ، وتعمل على أعضاء وأنسجة مختلفة للتحكم في كل شيء بدأ من الطريقة التي يعمل بها جسمك إلى ما تشعر به ومزاجك سواء بهجتك او تعاستك او حزنك او ضحكتك. لكل شخص فينا اربع هرمونات تجعلك تشعر بالسعادة:

  1. هرمون الدوبامين: وهو الهرمون الذي يحفز الشغف لذى المشاهد ويستثمر المخرج هذا الهرمون لصالحه بزيادة فصول الغموض في افلامه.
  2. هرمون السيروتونين (Serotonin): يساعد هذا الهرمون (والناقل العصبي) على تنظيم المزاج وكذلك نومك وشهيتك وهضمك وقدرتك على التعلم والذاكرة، يعد التعرض لأشعة الشمس أو الضوء الساطع.
  3. هرمون الإندورفين: هرمون يخفف الالم ويعطي شعور بالنشوة والسعادة وحب الضحك. تميل مستويات الإندورفين أيضًا إلى الزيادة عند الانخراط في أنشطة منتجة للمكافأة ، مثل تناول الطعام أو ممارسة الرياضة تضمن الناقلات العصبية في العمل أن يشعر الناس بهذا الشعور بالنشوة المعروف باسم “نشوة العداء” بعد التمرين المكثف.
  4. هرمون الأوكسيتوسين (هرمون الحب): هذا الهرمون الذي يُفرز عندما تقع في الحب ، وتحتضن شخصًا ما ، وبالتالي يطلق عليه “هرمون الحب”. هذا هو الهرمون الذي يسمح للناس بتطوير الثقة والتعاطف والترابط في العلاقات والحب.

الهرمونات المذكورة اعلاه هي هرمونات السعادة وكل مفاصل الافلام السينمائية تستحث وتحفز افراز هرمون معين عند مشاهدة مقطع او سردية او تشويق او غموض او حماس. وبالفعل قد تم استغلال واستنزاف الهرمونات المذكورة اعلاه في صناعة الافلام والدراما بشكل احترافي.

ولعل القلة من الناس استطاعوا او يستطيعون على كبح جماح الانجراف نحو إرواء انفسها بإفرازات تلكم الهرمونات عند مشاهدة الافلام السينمائية ويستبدلون ذلك بالانخراط في انشطة اسرية واجتماعية وتطوعية بالجلوس مع الاحبة والحديث مع افراد الاسرة والسفر مع الاصدقاء واللعب مع الابناء وممارسة الرياضة … الخ.

ايقاظ الضمير وطهارة القلب

الحواس الخمس هي مداخل المعرفة عند كل انسان. ولكون البصر ذو تاثير سحري في ترسيخ المعلومة وتطهير او تنجيس الفكر كان لزاما على الانسان الجاد ان يغض بصره ويفلتر التطبيقات لديه.

لك ان تتخيل ان بعض المخرجين السينمائين يروجون للخيانات الزوجية على انها غلطة عابرة!! اتذكر تعليق اورده احد مغردي التويتر استعرض هكذا تحايل وحيل شيطانية. رابط التغريدة مرفق:
https://x.com/hakim_mft/status/1794299246688301175?s=48&t=dDobtzm973QXvxxuQFf5Yw

الكل يشعر ويعلم ان الاتصال البصري مؤثر في تشكيل الافكار وزرع الأذواق والتحفيز على انماط المعيشة واستنساخ التجارب وتغذية الذاكرة.

طهارة القلب: عن الإمام علي (عليه السلام): قلوب العباد الطاهرة مواضع نظر الله سبحانه، فمن طهر قلبه نظر الله إليه. فالحرص على نظافة القلب تستوجب حسن انتقاء ما نراه وما نسمعه.

السينما اضحت في متناول الجميع

في السابق كان زيارة دور السينما يقتصر على طبقات اجتماعية مخملية. ومع زيادة الإنتاج السينمائي وكثرة الاستثمار وتنامي القبول المتزايد من الجمهور للسينما اطلقت دور السينما فئات تذاكر مختلفة الاماكن والاسعار. وتلاحقت الامور حتى اضحى نجوم الافلام نجوم عالميين تم الاختفاء بهم في عواصم عالمية بحفاوة كبيرة. وزاد تاثير الانتاج السينمائي على وعي الناس مع تزايد امتداد العولمة والأنترنت.

اتذكر عام ١٩٩٨م وجود دار سينما في شارع (westhiemer) بمدينة تكساس الامريكية حيث كان الدخول لمشاهدة الفيلم الواحد ب دولار واحد فقط. ومعظم الافلام منتقاه وموجه للاطفال الصغار اي اعداد ارضية في نفوس الاطفال ل استهلاك منتجات السينما. في المقابل عندما تسنح لي الفرصة اذهب لسينما بشارع (hofweg) بمدينة لاهاي الهولندية تمتاز بعرض افلام عالمية من كل انحاء العالم ، وانتقي مشاهدة افلام خارج اطار انتاج سينما هوليوود اي من انتاج اعمال السينما الأسبانيه والهولندية والصينية والهندية والأفريقية والفارسية.

ومع تنوع المعروض السينمائي من ثقافات متنوعة يزداد الاثراء اللغوي والفني والادبي والثقافي لدى المشاهد ويكسر النمطية ويوطن التفكير النقدي في نفسه ويتمحص افكاره ويعيد تفكيك قناعاته السينمائية.

الانتاج المحلي السينمائي والعالمية

محليا ، المخرج القدير المغفور له باذن الله ، عبدالخالق الغانم ترك بصمة فنية جميلة في ابناء جيلي والجيل السابق لي لم تزل ولا تزال اثارها واضحة في ترسيخ افكار وابتسامات ومفاهيم طيبة وبصيرة مستنيرة ونقد فكري وضاء. وكان اخراجه لمسلسل “طاش ما طاش” الشعبي الشهير لعدة اعوام بصمة مميزة. ادعو الله له بالرحمة والمغفرة.

المخرج عبد الخالق الغانم رحمه الله – المصدر: جريدة الجزيرو.

كنت وما زلت سعيدا باطلاق وتبني الاعمال السينمائية المحلية وانا اعتز بمبادرات وزارة الثقافة. وقد استقرأت بروز صناعة السينما في مناطق عدة من العالم نتيجة لتعارض ما تنتجه هوليوود مع المجتمعات المحافظة. ولعل اصداء قائمة متطلبات ترشيحات الافلام للجوائز العالمية في منصة الاوسكار وهوليوود والمعلنة قبل عام او عامين مازالت قائمة ومرفوضة من قبل مجتمعات وحواضر مختلفة في العالم لما تسعى من ترويج وتوطين للخبائث والانحلال.

بعد زيارتي ل هوليود في ضواحي مدينة لوس انجلوس والمشي في شارع المشاهير (walk of fame) وبعد زيارتي المدينة السينمائية في مدينة كيب تون بجنوب افريقيا وبعد زيارتي للمدينة الاعلامية بمدينة الجيزة (القاهرة الكبرى) بمصر الحبيبة , توقدت لدي فكرة اصدار اول رواية لي بعنوان (Confession on Zurich Cafe , Barcelona) [برشلونة ، اعترافات على طاولة مقهى زيورخ] وهي محاولة مني لولوج عالم الفن والسينما بمفاهيم جديدة. وللحق تتوقد فكرة الانتاج السينمائي في عقلي بين الحين والحين طامحا لتحويل بعض كتاباتي الادبية الى اعمال سينمائية مؤثر ومعزز للقيم الانسانية العالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *