ادارة الحياة بين المادة والمعنى – د. عبدالجليل عبدالله الخليفه

كلّ إنسان يدير حياته بطريقته الخاصة، فالبعض قد يعيش سعيدًا والآخر قد يعيش تعيسًا ، وهناك من يتميز فيكون عظيمًا. وحيث أنّ أيام الحياة تذهب ولا تعود، وبعض المواقف تتطلب قرارًا، وبعض القرارات قد يكون كارثيًا، لذا من المفروض أن يتعلم الإنسان فنون إدارة الحياة.

هذه الفنون قد لا تدرس في كتاب او محاضرة وقد لا يهتم بها البعض رغم ضرورتها القصوى، لذا يجب علينا كآباء وأمهات أن نفكر جديًا في وسائل فعالة لنقل تجاربنا وخبراتنا في ادارة الحياة الى جيل الأبناء والبنات حتى نوفر عليهم الكثير من العناء والجهد والوقت. هذه المقالة وغيرها قد تكون أحد هذه الوسائل.

مصدر الصورة: moldovacrestina.md

الإنسان جسمٌ وروح:

الإنسان تركيبٌ رائعٌ من جانبٍ مادي يتمثل في جسمه وحاجاته المعيشية وجانبٍ معنوي يتمثل في روحه وفكره ومشاعره. لذا فهو يطير بجناحين هما المادة والمعنى، او يعيش في ساحةٍ لها محوران هما محور المادة ومحور المعنى، ونعني بالمادة كلّ ما يتعلق بالحياة الطبيعية كالتقنية والعلم الذي يعمر به الإنسان الأرض فيأكل من طيباتها ويعيش في نعيمها،

ونعني بالمعنى الاستقامة والقيم والأخلاق والتعلق بغاية الجمال والكمال الذي يشحنه بالطاقة والهدفية والرضا والطمأنينة بمستقبلٍ مشرق في الدار الآخرة. وقد أختلفت الثقافات في اهتمامها ومعالجتها لهذا التركيب الانساني، فركزت الثقافة الغربية على الجوانب المادية في حياة الإنسان كردة فعل على الرهبانية الكاثوليكية المنتشرة في اوروبا سابقًا، بينما ركزت الثقافات الشرقية وبعض الأديان على توازن المادة والمعنى.

طموح الإنسان بين المادة والمعنى:

الطموح هو نقطة البداية في إدارة الحياة، فهل يريد الفرد أن يكون عظيمًا متميزًا أو يريد أن يعيش مثل بعض البشر دون بصمة تاريخية؟ واذا أراد أن يكون عظيمًا متميزًا فما هي نظرته بالتفصيل؟

هناك نظرتان غربية وشرقية بناءً على الثقافة السائدة. الغربي يرى الثروة والمنصب أهدافًا ساميةً يحققان له أمانيه وطموحه في هذه الدنيا، بينما تبدو له الدار الآخرة باهتةً لا تشغل اهتمامه فهو يقضي جلّ اهتمامه بهذه الدنيا. فتحقيق الغنى والثروة غالبٌ على اهتمامه وحياته مما يؤدي الى خللٍ واضحٍ ينعكس سلبًا على طمأنينته ورضاه عن مستقبله. هذا لاينفي تحقيقه الكثير من الانجاز المادي والتقدم التقني في هذه الدنيا (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)، لكنّه يعيش فراغًا معنويًا هائلًا يحسّ فيه بنهايةٍ بائسة تتمثل في الموت الذي يمثل كارثةً لأحلامه الوردية.

أما نحن فنطمح أن يكون ابناؤنا وبناتنا مثل بقية العظماء الذين خلدهم التاريخ والذين تركوا بصمةً خاصةً وانجازًا رائعًا على محوري المادة والمعنى. هؤلاء العظماء عاشوا كبقية الناس في جانب المادة فعملوا لتحصيل لقمة العيش وقضوا وقتًا في مشاغلهم العائلية (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ)، ولكنّهم حققوا في جانب المعنى ما لم يحققه الآخرون فكانوا مصابيح نجاة وأعلام هدى وقدوات حسنة تمثلت فيهم قمم القيم والأخلاق والسعادة المعنوية. هذا الطموح الذي يجمع الحسنيين اي المادة والمعنى او الدنيا والآخرة هو باختصار: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا)، (ليس منا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه).

إنّ عزوف البعض عن العمل الجاد وتواضع طموحهم الدنيوي بدعوى الزهد في الدنيا شبهةٌ يجب علاجها والتطرق لها، (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)،

وننقل هنا بعض هذه الرواية: (…..وأخبروني أين أنتم عن سليمان بن داود (عليه السلام) حيث سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه الله جل اسمه ذلك وكان يقول الحق ويعمل به، ثم لم نجد الله عز وجل عاب عليه ذلك ولا أحدا من المؤمنين، وداود النبي (عليه السلام) قبله في ملكه وشدة سلطانه ثم يوسف النبي (عليه السلام) حيث قال لملك مصر: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)……….، فلم نجد أحدا عاب ذلك عليه، ثم ذو القرنين عبد أحب الله فأحبه الله وطوى له الأسباب وملكه مشارق الأرض ومغاربها وكان يقول الحق ويعمل به، ثم لم نجد أحدا عاب ذلك عليه……).

هؤلاء العظماء جعلوا (الدنيا مزرعة الآخرة)، فعاشوا في هذه الدنيا بأجسادهم وقلوبهم متعلقةٌ بالملأ الأعلى، ملكوا الدنيا ولم تملك قلوبهم وهذا هو الزهد المطلوب الذي لا يتعارض مع رسالة السماء بإعمار الارض والتنعم بطيبات هذه الدنيا من الرزق الحلال الواسع. هذا الطموح يتفجر طاقةً وإرادةً تدفع قطار الطموح نحو مستقبلٍ مشرق.

هذا التوازن المهم جدًا بين المادة والمعنى يفتح الآفاق واسعة أمام الفرد، فقد تسمح له الظروف بالتميز في الخدمة الاجتماعية او في العلم او في الثروة او في المنصب فما اكثر هذه الفرص لكنها دائمًا وأبدًا مشروطة بالاستقامة، فهي الأقرب الى فطرته وهي الأنسب لتلبية شوقه النفسي للطمأنينة والرضا. هذا الطموح المتوازن يلامس قلب الإنسان، فيستغرق نهاره وليله وصحوته ونومه وصحته ومرضه فهو أغلى شيء يملكه الإنسان.

هذه هي مرحلة الانسجام والانغماس الكامل في الهدف، التي تشحذ طاقات الإنسان وتفجرها لتصبح كالنهر الجارف المنحدر من قمة الجبل. وهذا ما يسميه ميهالي سيكز ينتميهالي بالتدفق «flow». فكلما كان الطموح متوازنًا بين المادة والمعنى، كلما كان أقرب الى قلب الإنسان وأعمق أثرًا في تفجير طاقاته.

لقد عاش العظماء عبر التاريخ ضمن خطة عمل وخارطة طريق وبرنامج يومي حقّق لهم الانجازات العظيمة وهذا ما نسميه إدارة الحياة. فعسى أن نتعلم من هؤلاء العظماء طريقتهم في إدارة الحياة التي حققت لهم النجاح والانجاز.

ماهي ادارة الحياة؟

الإدارة هي الاستخدام الأمثل للموارد لتحقيق الأهداف. أما الحياة فهي أفعال الانسان التي تلبي حاجاته وتحقق سعادته في بيته وعمله ومجتمعه وهي تطبيق عملي لقيمه وعاداته وقناعاته.

لذا فإن مصطلح ادارة الحياة يعني استخدام الفرد الأمثل لموارده كالجسد والمال والوقت والفكر والروح والعلاقات الاجتماعية وغيرها لتحقيق أهدافه المادية والمعنوية. فلا ينفك أي انسان ان يسعى لتحقيق أهدافٍ ماديةٍ ومعنويةٍ تنطلق من قيمه وقناعاته، فهي التي تحدد نوع الأهداف وأولويتها لديه، كما ناقشناه سابقا.

وتنقسم مراحل تحقيق الطموح الى أربع خطوات هي: التفكير والإرادة والقرار والتنفيذ.

التفكير:
الإنسان حرٌ مختارٌ وهبه الله العقل ليفكّر في الظروف المحيطة والفرص والتحديات و الإمكانيات، فيقرّر: ماهو الهدف والطموح الذي يمكنه تحقيقه؟ وكيف؟

الإرادة:
حين يستعرض الإنسان طموحه فكريًا، تقفز الى ذهنه صورٌ جميلة عن المستقبل المنشود، فتولّد في نفسه إرادةً حازمةً لاتخاذ القرار الذي يحقق هذا الطموح. هذه الإرادة تبقى مشتعلة حتى يصنع القرار وقد تستمر بنفس الزخم لتضمن تنفيذه على أرض الواقع. وكلما كانت الأفكار واضحة والمستقبل حاشدًا بالصور الجميلة كلما كانت الإرادة قويةَ وحازمةً.  

القرار:
هو العزم والتصميم على البدء في تنفيذ الطموح. فصناعة القرار هي أوّل خطوةٍ تنقل الإنسان من عالم التفكير والإرادة الى عالم التنفيذ. وصناعة القرار تعتبر من أهم صفات العظماء الناجحين في ادارة الحياة.

التنفيذ:
‎اتخاذ الخطوات العملية في تنفيذ الخطة كبدء الدراسة او الالتحاق بعملٍ معين، كأنسب واقرب السبل الممكنة لتحقيق الطموح المطلوب. إنّ كثيرًاٌ من الأفراد يصنع القرار وقد يبدأ في التنفيذ لكنه سرعان ما يفقد العزم والتصميم فتتبخر تلك الإرادة، ولا يبقى لها أثرٌ على أرض الواقع.

انت وادارة حياتك:

ماهي مواردك التي تستطيع ان تسخرها لتحقيق أهدافك؟ وماهي أهدافك المادية والمعنوية التي تسعى الى تحقيقها؟ البعض يرى أنّ هذه الأسئلة بديهية لا تستحق ان يضيع الفرد وقته للتفكير فيها.

لكنّ المشكلة أنّ الكثير من الموارد العظيمة التي يملكها الفرد لا يستثمر إلّا القليل منها. ففي ورشة عملٍ ، تمّ عمل استبيان فرأى الحضور أنّ الفرد يستفيد تقريبًا من ٣٠٪ من موارده بينما يضيع ٧٠٪؜ منها هدرًا ! وكأمثلة على ذلك: كم نهدر من وقتنا وكم ننسى من علاقاتنا الاجتماعية وكم وكم.

ونعني بادارة الحياة وفنونها: التفكير المستمر والعمل الجاد في مراجعة الفرد لموارده وكيفية تنميتها الى أقصى درجةٍ ممكنة (كيف احافظ على صحتي فأترك التدخين وأنام مبكرًا؟ وكيف أتطور علميًا فأواصل دراستي؟ وكيف أقوي علاقاتي الاجتماعية وأوسّع دائرتها؟ وكيف وكيف؟).

من جهةٍ أخرى هل فكرت في أهدافك المادية والمعنوية وهل سألت نفسك هل هي متواضعة ام أنها تستحق أن تكون مشروع حياتك الذي يلبي غاية طموحك والذي يستحق ان يرثه الأجيال بعدك؟ وهل حققت التوازن بين الأهداف المادية والمعنوية وكيف؟ ونعني بفنون ادارة الحياة المرونة في مراجعة الأهداف تبعًا لتغير الظروف والمناورة بين عدة أهدافٍ أحيانًا لفتح آفاقٍ أوسع عند تغير الظروف.

مصدر الصورة: .naserfuraih.com

كيف ننقل خبراتنا وتجاربنا في إدارة الحياة الى الجيل الجديد:

إنّ قراءة السير الذاتية الصادقة والشفافة لبعض المنجزين والمبدعين مهمةٌ جدًا في اثراء التجارب الحياتية. كما أنّ الحوار البناء حول سفرة الطعام او في جلسة شاي محترمة مع الأبناء والبنات او مع بعض الأصدقاء المخلصين حول تجارب يومية مرّ فيها أحدهم او سمع عنها ذات أهمية عظيمة.

خذ مثلًا بعض المواضيع التي يمكن نقاشها عائليًا او مع بعض الأصدقاء:

1. سألك صديقٌ أن تكفله لدى البنك حيث أنّه ينوي اقتراض مائة الف ريال، فماهو رأيك؟
2. قدّم المدير هديةً ثمينةً الى أحد الموظفات بصورةٍ شخصية، فهل تأخذها؟
3. طلب رئيسك أن تحسّن في تقييم أحد أقاربه الذي يعمل لديك، فماذا تعمل؟
4. دعاك أحد الأصدقاء الى وليمةٍ مع بعض الشخصيات المهمة، فكيف تستفيد من هذه المناسبة؟
5. حدث خلافٌ بين زوجين و طلب أحدهما الإنفصال دون سببٍ وجيه، وقد طلب منك أحدهما المساعدة، فما هو رأيك؟
6. يعيش أحد الأبناء حياةً خاصةً مع هاتفه المحمول ويبدو عليه شرودٌ ذهني، فكيف يتصرف الوالدان؟

قد يأخذ الحديث مناحي مختلفة فيعبّر البعض عن رأيهم، بينما يبدي الآخرون رأيًا مختلفًا بكلّ مرونةٍ. المهم أن يكون الحديث شفافًا ومقنعًا وثريًا.

الخاتمة:

إنّ إدارة الحياة موضوعٌ مهمٌ جدًا يثري الجيل الجديد بخبراتٍ غنيةٍ تراكمت في الضمير الجمعي الذي عاشه الآباء والأمهات عبر السنين.

ومن أهمّ فنون إدارة الحياة بل نقطة بدايتها رفع سقف الطموح المتوازن بين المادة والمعنى وعقد الإرادة الحديدية على تحقيقه ثم القرار ببدء التنفيذ العملي لخطةٍ مرسومةٍ مرنة تناسب الموارد والامكانيات المتاحة وتعالج التحديات المتوقعة.

بقي أن نذكر بكلّ صراحة أنّنا بحاجةٍ ماسّة الى اثراء الجوانب العملية من حياتنا دون اغفال الجوانب العلمية المهمة، والحمد لله ربّ العالمين.

 

2 تعليقات

  1. موضوع رائع وممتع ويحمل الكثير من الدلالات والدروس التي يحب على الانسان التركيز عليها قبل فوات الاوان.. شكرا للدكتور ابومحمد على هذه الاطلالات الجميله والخبرة المتزنة في نظرته للأمور ومشاركاته للمجتمع بكل تفاني واخلاص وشفافية. الله يوفق ابا محمد ويزيده من فضله وكرمه..

  2. موضوع ابداعي. شكرا للدكتور ابومحمد على هذا الطرح المتسلسل الرائع و دمتم بصحة و عافية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *