الصوره الفوتوغرافيه “البريئة” أفضل موثق تاريخي – عبد الرسول الغريافي

الأستاذ عبد الرسول الغريافي

تعال معي نبحث في عالم الصورة “البريئة” وأقصد بالبريئة هنا الصورة التي لم تتعرض (لتشويهات) التغييرات اليدوية (المعروفة بالتأثيرات الخاصة Special effects) من رتوش في الفيلم “النيجاتيف” أو دمج صورة مع أخرى على الورق أو إدخال أو مزج صورتين مع بعضهما في المعمل المعروف بالغرفة المظلمة (The dark room) وذلك في أيام طباعة صورة الأبيض والأسود التي وصل أوج فن ممارساتها بدءا من نهاية الخمسينات من القرن العشرين الماضي وما تلاها بعد ذلك في الصورة الملونة التي بدأ ظهورها في بيئتنا في نهاية الستينات، ولكنه مع ذلك لم يؤثر هذا المزج البسيط كثيرا إذ أن صعوبة ورسمية تغييرها نادرا وصعبا نوعا ما، كما أن التغيير في الصورة عن طبيعة واقعها يترك آثارا واضحة التزييف بشكل جلي وهو أمر غير مرغوب فيه لأنه لايصور الأمر الواقع المرغوب حفظه للمستقبل، وأما موضوع التأثيرات الخاصة فالإهتمام بموضوعه آنذاك كان مقتصرا على حالات التسلية وتذوق الفنون أو لتركيب صور لعدة أشخاص في صورة واحدة من أجل بروزتها وتعليقها على جدران الغرف. وبدون ذلك التحريف فإن الصورة صادقة عاكسة للأمر الواقع وهي التي دخلت في الإسهام الكبير في عالم التوثيق التاريخي منذ أن نجح لويس داجير في إلتقاط صورة مطورة بالأبيض والأسود بعد تقليص مدة تعريض الكاميره فقط إلى دقائق معدوده وذلك في عام 1839م بعد أن كان مساعدا لنسيفور نيبس الذي نجح في بدايات القرن التاسع عشر (1826م) في محاولاته بإلتقاط صورة فوتوغرافية إستغرقت مدة تعريض كل لقطة عدة أيام.

كانت تلك أيام الصورة البريئة التي وثقت لنا الحدث التاريخي الصادق الدقيق إلى أن دار الزمان فحلت الطامة الكبرى في عالم التصوير بدخول “الفووشوب وشلته” فجاء معها التزوير والتحريف وتلوين صورة الأبيض والأسود وتجريد الألوان من الصورة الملونة لدرجة أنه أصبح لا شئ يصعب أو يستحيل تغييره في عالم الصوره ولم تعد الصورة موثوق فيما تتضمنه إلا ماندر فغاية ما في الأمر هو خصوبة الخيال عند المبدع فبقدر مايتخيله تتمثل أمامه الصورة كما تخيلها أن تكون.

فلنرجع قليلا الى عالم الصورة “البريئة” ودورها الأمين في توثيق الحدث التاريخي ودورها في تعليم المهتم بدراسة بحثه حول زمن إلتقاطها مهما بلغت قلة عناصرها كما أنها وثقت أحداث ساعدت على دقة الوصف وعمق التخيل؛ فلسنا مثلا كثيري الإلمام أو التصور حول حرب داحس والغبراء أو حرب البسوس الغير مصورتين بقدر مانستطيع تخيل أو معرفة كثير من الحقائق من خلال صورة واحدة أو عدة صور للحرب العالمية الثانية لنعرف نوع الأسلحة وطرق الدفاع وأبطالها وماتوصلوا له من إختراعات: معدات وأسلحة للحرب وطرق للدفاع وللهجوم وتوضيح الإصابات ومقدار الدمار والتخريب وغيرها، كل هذا نراه أمامنا ماثلا من خلال صورة واحدة أو عدة صور .

سأكتفي هنا بتسليط الضوء على صورة قادتني إلى دراسات عميقه حول بيئتها الملتقطة فيها، ولعله لايخطر على بال من يقرأ ويرى الصورة على أنها مجرد لقطة لفريق كرة قدم لأطفال بخلفية من النخيل! فكيف يكون بمقدورها أن تعطينا إنطباعا تاريخيا؟

كل صورة يمضي عليها عقد أو عقود من الزمن يمكن الإستدلال من خلال عناصرها على عدة قراءات حول أحداث وأماكن أو محلات وعادات وتقاليد وأزياء وأدوات وآلات أو معالم تاريخية لتلك الحقبة التي التقطت فيها بعد أن تغير كل شئ عن واقعه.

صورة إلتقطتها وأنا طفل وكان أول إصراري جعلني أكتشف (كطفل) بأن الكاميرة يمكنها الإلتقاط دونما الحاجة للنظر من خلال منظارها إذ قمت بضبط أبعاد الكاميرة وفتحة عدستها ومن ثم تثبيتها على برميل حديدي (درام) بعد أن وجهتها نحو الموضوع المراد تصويره (وهو فريق لكرة القدم) فطلبت من أحد المارة من الأطفال أن يضغط على الزر فقط بعد أن أجلس مع لاعبي الفريق، فكان من دهشتي أن الصورة كانت ناجحة دونما حاجة للنظر من خلال المنظار.

بعد أعوام عديدة من إلتقاطها – وعند تحليل عناصر الصورة ووصفها لبعض من كانت صورهم فيها و بحضور بعض كبار السن قادني إلى عدة حقائق عن معالم مربع صغير تقل أبعاده عن نصف الكيلومتر مربع، كما وأضاف كبار السن هؤلاء عند التحدث عن تلك الصورة بإدلاء مسميات معالم بين ثلاثة أحياء يكاد لايصدقها من لم يشهدها و تعريفات لعناصرها لم تعد معروفة اليوم للجيل الجديد!

16 لاعبا أشبال لفريق أسموه “النصر” ومتفرجان إثنان من حي الكويكب، المباراه كانت في ساحة “الفدى”، فما هو الفدى؟

الفدى: هو كل ساحة منبسطة تفرش أحيانا بالحصير لتعريض التمور إلى أشعة الشمس لتجفيفها وتقليبها قبل تعبئتها في القلال (يشبه البياذر في عمله)، ويستعمل أحيانا أيضا كمسلق لسلق السلوق في قدور كبيرة ومن ثم تجفيفها و تعبئتها في أكياس الخيش إستعدادا لتصديرها من جمرك فرضة القطيف الى الهند وتخزين بعضها للإستهلاك المحلي. هذا الفدى الذي لعب فيه فريق الأطفال يقع في ظهر حدود الكويكب الجنوبي وهو مقابل الشويكة ومتعارف عليه أنه تابع للشويكه، وفي الشمال الشرقي منه (في حي الكويكب) يقع العوام،

العوام: هو إسم مجرى مائي يشبه بركة السباحة وهو حمام يرتاده أهالي الكويكب قبل إنشاء الحمامات (العيون الإرتوازية) التي كانت تغطيها غرف وفي كل حي وقرية في أنحاء القطيف بقسميه الرجالي والنسائي عامة لها. ويغذي العوام أحد سابات القطيف ويبلغ عرضه 7 متر تقريبا، وأما طوله فيتجاوز العشرين مترا وجميع جوانبه مجصصة أو موجنة بالجص العربي المحلي وكذلك قاعه وعند مصبه يغسل النساء الملابس والأواني وبمحاذاته الشرقيه يقع بستانا يعرف بنفس الإسم (العوام). في نهاية الخمسينات توقف أهالي الكويكب عن إستخدامه بعد إتجاههم للعين الإرتوازية التي تخدم الرجال والنساء. في عام 1395م  تم تحويل هذا البستان إلى حي سكني ومن ثم تحول العوام الى مصرف مياه مغطى لخدمة هذه البيوت.

وعند الإسترسال في التحدث عن هذا الفدى سيطالعنا طريق الى الجنوب منه يفصل بينه وبين (الفريق) الشويكه، فما هو الفريق في النظام السكني في القطيف؟

الرداء والبشت كانا يحاكان في فريق الحياكة

الفريق: في الخليج والمعروف أحيانا (بالفريج) هو حي شعبي سكني وحتى في القطيف يستخدم أحيانا هذا المصطلح وأحيانا الديره؛ ولكن هناك نظام في أغلب أحياء وقرى القطيف في التقسيمات فالحي أو القرية عادة تقسم الى قسمين هما الديره والفريق؛ فالديره هي الرئيسية وبمثابة العاصمة ويسكنها عادة علية القوم وأما الفريق فهو الحاشية الجانبيه للقرية ولا يزال هذا النظام موجود في كثير من الأحياء والقرى وبشكل واضح كما هو في الشويكه وحلة محيش والقديح وأم الحمام. ما لايتوقعه الجيل الجديد هو وجود فريق آخر يلتصق بفريق الشويكه من الجهة الجنوبية يسمى فريق الحياكه!  بتشديد الياء وقلب الكاف إلى (چيم) جيم ثقيله (الحيّاچه) كما في الإنجليزية ch، فما هو سر تسمية هذا الحي بهذا الإسم؟ كما كان إسم على مسمى فأغلب أسر هذا الحي حياكة وكل بيت تقريبا به منوال لحياكة البشوت والرداء الترملي النسائي والأبسطه، لقد إستمر ذلك حتى بداية الستينات من القرن العشرين الماضي.

إلى الغرب من الفدى وفي منتصف شارع الملك عبدالعزيز اليوم أي بين الشويكه والكويكب على أرض جبلية غير مرتفعة يتدفق نبع ماء يعرف بالچويچب: وهو تصغير چوچب (أي كوكب) ويطلقون على ماحوله شريعة أو جمه كانت النساء تغسل فيها الأواني والملابس ويستحم فيها الأطفال.

تلك هي صورة فوتوغرافيه بسيطة من أيام الأبيض والأسود أعطت كل هذه المدلولات وإن لم تكن من محتويات عناصرها ولكن الإنسان الذي عاش تلك الأيام وشهد جميع تلك المعالم حين يرى أي جزء من هذه الأرض فإنه يستذكر الجميع وهي كما يعللها علماء النفس ويطلق عليها تداعي المعاني recall.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *