مصدر الصورة: 3ccontactservices

التكاليف الغارقة – المهندس محمد سعيد الدبوس

اممم.. رائحة (المحموص) الشهية تتسلل إلى أنفي..

ويكأن آلهة الفينيقين (عشتار) أو (عشتاروت) هي من طبختها بنفسها..

كنتُ أمشي بين أشجار الليمون القطيفي ذات الرائحة النفاذة في إحدى مزارع (التوبي).. كان صديقي منهمكاً في تقليب البصل إذ تكفل بتقديم هذا الطبق الشهي رغم حرارة الطقس.. إلا إن النسيم العليل يصفعني بين الفينة والأخرى.. وكأن النخيل تنفخ الهواء من سعفاتها الخضراء الشامخة.. كانت السماء صافية كاللآلىء وعقلي ملبدٌ بغيوم أفكاري المتبعثرة.. كنتُ منهمكاً في تذكر البرنامج الصوتي الذي استمعته مؤخراً.. لأرتب أفكاري علّني أستطيع كتابتها وتلخيصها.. صرخ صديقي منادياً بانتهاء طبقه الشهي.. وأنا اكتبُ آخر نقطة بالقلم الذي أصبح متشبعاً برائحة البصل.. فلا طعام بلا تعب!!.. وإليكم ما كتبت:

لقطة بعدسة الفنان محمد مرزوق آل غزوي

ارتبطت كلمة الإصرار عند العرب بالعزيمة والشجاعة والصفات الحميدة.. فها هو المتنبي يتغنى بالعزيمة والإصرار في قوله: على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ..وتأتي على قدر الكرامُ المكارمُ.. فهل يعد الإصرار صفة حميدةً على الدوام؟!..

بعد أنْ حُرم الملاكم (محمد علي) لأربع سنوات من لعب الملاكمة بسبب إحجامه عن المشاركة في حرب (فيتنام).. لعب مباراة حاسمةً واستعاد فيها أمجاده في الوزن الثقيل.. نصحه أطباؤه بعد ذلك بالاعتزال والاكتفاء بهذه البطولة لكنه أصر على الاستمرار رغم تدهور حالته الصحية.. حتى أن اتحاد الملاكمة الأمريكي قام بإلغاء رخصته بمزاولة الملاكمة.. فأصر مرة أخرى على الاستمرار في جزر (الباهاما) أو (كومونويلث الباهاماس) كما يطلق عليها رسمياً.. حيث توالتْ هزائمه الساحقة حتى أبكى خصومه وآل به الحال إلى التوقف وتشخيصه بمرض (باركنسون) أو (الرعاش) عام 1984.. فهل الإصرار في قصة هذا البطل محمود؟.. قطعاً ستكون الإجابة “لا”.. فالخوف من الخسارة هو الدافع الرئيس للإنسان للتشبث بعلاقات سامة أو سيارة مهترئة أو وظيفة بائسة.. فلنأخذ مثالاً آخر يبين تصرفات البشر الغريبة تفادياً للخسارة:

كانت أخبار الطقس تشير إلى أجواء ماطرة وعواصف رعدية شديدة وعرض عليك صديقك تذكرةً لمشاهدة مباراة (الهلال) و(النصر).. فسيكون الرفض ردك في الغالب لأنك فكرت في المستقبل وما ستؤول إليه أمورك في حال الذهاب إلى المباراة .. ولو فرضنا الآن بأنك أنت من اشترى تلك التذكرة.. فهل ستفوّت مشاهدة (كريستيانو رونالدو) أو (الدون) رغم حالة الطقس السيئة؟!.. الجواب في الغالب.. لا.. فلن تستطيع تفويت هذه المباراة خوفاً من خسارة قيمة التذكرة.. أو ما يعرف بالتكاليف الغارقة.. فهذه التكاليف غير مستردة ولا تستطيع استعادتها على كل حال رغم أن ظروف الطقس أقسى من متعة مشاهدة المباراة!!..

هل سمعت من قبل بنظرية (إيكيا)؟!.. نظرية عجيبة ولكنها صحيحة نلاحظها دائماً على أرض الواقع.. فلو ذهب (علي) إلى مركز (إيكيا) للأثاث وابتاع كرسياً جميلاً.. وتطلب الأمر ساعات لتركيبه في المنزل.. بعدها.. ذهب إلى منزل والده وشاهد نفس الكرسي.. فلو أوكلنا له تسعير الكرسيين.. فسيعتقد (علي) بأن الكرسي الذي اشتراه وقام بتركيبه أغلى سعراً من كرسي منزل والده.. لاعتقاده بالتكاليف الغارقة الذي بذلها لتركيب كرسي (إيكيا)!!!

نفد (المحموص) ولم يبق سوى دبق الزيت الذي امتزج بلون الأرز البني.. مشكلاً لوحة فنية تجريدية!!.. نهضتُ وأنا مثقلٌ لا ألوي على شيء سوى استلقائي على أريكة مهترئة وُضعت أمام جهاز التكيف.. أكملت فتل حبل أفكاري المتقطعة.. ورحت أدون ورائحة البصل تفوح من كل ذرة في جسمي،،،
أما المسبب الثاني للإصرار السلبي فهو اعتقاد بأن ما نمتلكه أثمن مما يمتلكه الآخرون.. فمن السهل أن تقترح على أحدهم ترك وظيفته بسبب معاناته مع بيئة عمله.. أو نصح صديق مقرب بالإقدام على الطلاق بسبب مشاكله الدائمة مع زوجته.. ولكن هل سيقدم أي منا على هذه الأمور لو وقعنا في نفس المشكلة؟!.. الجواب باختصار هو لا بالطبع.. فنحن نعتقد بأننا نمتلك أشياء أثمن من أقراننا ولا نستطيع التخلي عنها بكل سهولة رغم تطابق الظروف وتشابه الأحداث!!

؛؛يجب علينا دائماً أن نضع معايير للمغادرة قبل حلول الأزمات.. فالإنسان سيء جداً في اتخاذ القرارات أثناء وقوعها..؛؛

فالطيارون على سبيل المثال يضعون معايير “للمغادرة” أثناء الرحلات الجوية.. فعند انخفاض مخزون الوقود إلى٨٠٪؜.. يجب على الطيار الهبوط في أقرب مطار.. فهل سيتخذ الطيار هذا القرار الحكيم لو لم يضع معياراً للمغادرة؟!.. وكذا الأمر في جميع أمور حياتنا.. فالواجب هو وضع معايير للمغادرة والتخلي في جميع أمور الحياة قبيل وقوع الأزمات..
أكملتُ السمر وأصدقائي خارجاً تحت عباءة السماء وبين أحضان الشجر.. ورائحة البصل لا زالت تلتصق بثيابي بل وفي كل (بيكومتر) من جسمي.

المهندس محمد سعيد الدبوس

3 تعليقات

  1. عدنان احمد الحاجي

    موضوع شيق جدًا ومفيد. ربما بإمكاننا ان نسميه بـ التشبث بالخيار الخطأ

  2. علي ال موسى

    جميل جداً مهندس محمد

  3. عبدالله العبندي

    موضوع جميل وشيق وفيه ريحة بصل. لكن أتمنى ألا يفهم بطريقة خاطئة والتخلي عن أحلامنا بسبب الإخفاقات المتكررة، الأمثله كثيره منها إجراء أديسون لأكثر من ألف تجربه قبل التوصل للمصباح الكهربائي. لو توقف يمكن لا زلنا فوانيس وشموع 🙂 ويقولوا بعد كثر الدق يلين الحديد. وسلامتكم،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *