نظرية الإنسان أوّلًا (الجزء الرابع) – الدكتور عبدالجليل عبدالله الخليفه

هل حقّقت الرأسمالية طموح البشرية؟

تعتبر الرأسمالية جوهرة التاج في الحضارة الغربية، فقد حققت الرفاه الاقتصادي وصنعت الثروات الطائلة ورفعت مستوى المعيشة وتغلبت على الكثير من الأزمات العالمية وتربعت على عرش العالم حتى عصرنا الحاضر.

دع عنك حديث الشرق عن القيم والأخلاق، فالإنسان يبحث عن لقمة العيش والرفاه الإقتصادي وتلبية حاجاته المعيشية أولًا، وهذا ما حققته الرأسمالية. بل حتى لو كان فيها الكثير من السلبيات، لكنها أفضل الموجود، فهي التي ستنتشل ملايين البشر في أنحاء العالم من براثن الفقر والجهل والمرض. 

هذا لسان حال البعض وهو يتحدث عن الرأسمالية، فهل هذا صحيح؟ 

مصدر الصورة: .foodandwine.com – PHOTO: VICTOR PROTASIO

أين تذهب الثروة الرأسمالية؟

دعونا ننظر الى السنوات الأخيرة ونسأل كيف تضاعفت ثروة الأغنياء عشرات المرات في أحلك أزمة تمر بها الإنسانية و هي أزمة كورورنا؟

أنظر:

 هل لاحظت كيف تضاعفت الثروات خياليًا ولمراتٍ عديدةٍ بين عام 2020 وعام 2022:

قد يقول البعض أنّ كل العائلات الأمريكية ضاعفت ثرواتها خلال 2020-2022، فهل هذا صحيح؟

المصادر التالية توضح أنّ العائلات الأمريكية قد تضاعفت ديونها وليس ثرواتها، ونذكر كيف أصطفت طوابير بعض العائلات الأمريكية لاستلام سلة الغذاء وعجزت عائلات آخرى عن دفع أيجار منازلها:

حيث بلغت ديون العائلات الأمريكية أكثر من ستة عشر تريليون دولار بحلول الربع الثالث عام 2022 وهي في إرتفاعٍ مستمر:

  • بلغت نسبة الأمريكيين الذين يعيشون على الراتب الشهري حوالي 63%، أي انّ قسمًا كبيرًا منهم قد لا يستطيع سداد فواتيره الشهرية إن لم يستلم راتبه الشهري، انظر:

https://www.cnbc.com/2022/10/24/more-americans-live-paycheck-to-paycheck-as-inflation-outpaces-income.html

وكذلك: 

https://www.cbpp.org/research/poverty-and-inequality/tracking-the-covid-19-economys-effects-on-food-housing-and

السلة الغذائية في أمريكا إبّان أزمة كورونا

السؤال: لماذا هذا الخلل الكبير في توزيع الثروة الراسمالية؟

  هذا ما سنستعرضه بالتفصيل فكريًا وتاريخيًا:

الرأسمالية وتشريعاتها:

أطلقت الرأسمالية يد الإنسان وأعطته كامل الحرية في التملك والتصرف والإستثمار، وشجعت فيه المصلحة الذاتية والفردانية، لأنها ترى أن مصلحة الفرد الذاتية تتكامل مع مصالح الآخرين الذاتية لتحقق المصلحة الاجتماعية. فلم تضع حدودا تقيد الفرد في تملك الثروات الطبيعية كما وضعتها بعض التشريعات الأخرى.  وكمثال على ذلك:

  • ترى بعض التشريعات أن الجهد الذاتي للفرد وعمله هو من يؤهله لتملك الثروة الطبيعية قبل الإنتاج (من أحيا أرضًا مواتًا فهي له) عبر عمله وجهده الذاتي فليس له أن يوكّل غيره او يستأجره ليحي مساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي ثم يتملكها هو ذاتيًا، بل يملكها العامل او الوكيل المحيي للأرض نفسه. وينطبق هذا على صيد الأسماك والطيور مثلًا او إحتطاب الأخشاب من الغابات، فكلها ثروات طبيعية قيدت هذه التشريعات تملكها بعمل الفرد نفسه، بينما غابت هذه القيود عن الرأسمالية،
  • يوجد في القانون الأمريكي مثلًا تشريع (The Rule of capture)، أي أنّ من يملك الأرض يملك البترول والماء الذي في باطنها، فهذا القانون يعطي الفرد حق ملكية الثروات الطبيعية المختزنة في باطن الأرض فله أن يحفر آبارًا عديدة وينتج البترول له شخصيًا، بينما ترى بعض التشريعات الأخرى أنّ هذا البترول ليس ملكًا لصاحب الأرض، بل هو ملكٌ للدولة، وحتى لو أستثمر مالًا وحفر بئرًا لإنتاج الماء او غيره من الثروات الطبيعية فهو أولى من غيره بالإنتفاع من البئر نفسه، لكن لا يحق له أن يحبس الماء عن الآخرين بعد أن يأخذ حاجته،
  • ترى الرأسمالية أنّ العمل والملكية هي أساس توزيع الثروة، فعناصر الإنتاج هي الأرض وثرواتها واليد العاملة ورأس المال، فتكتفي بدفع أجرة الأرض او قيمة المواد الخام وأجرة العامل ويستأثر مالك رأس المال بفائض القيمة (اي سعر البيع مطروحا منه سعر التكلفة)، لذا فالعملية الصناعية او الزراعية تجني الثروات الطائلة لصاحب رأس المال فرأس المال هو المحور والأساس في العملية الإنتاجية.  بينما ترى تشريعات أخرى أن الحاجة والعمل والملكية هم أساس توزيع الثروة، فسد حاجة الفقراء والمعوزين سببٌ للحصول على حق المعيشة الكريمة وليس فقط العمل والملكية.  وترى هذه التشريعات أيضًا أنّ الإنسان هو محور العملية الإنتاجية وغايتها فالأرض ورأس المال وسائل لتحقيق سعادته فهي خادمةٌ له وليس العكس كما هو الحال في الرأسمالية،
  • جعلت الرأسمالية السوق الحرّ عامل توزيع وتوازن فهو اليد الخفية التي تضمن التنافس وتطوير الإنتاج والتوزيع العادل، ولم تشترط حقوقًا ماليةً على الثروة الفردية، لكنها عادت ففرضت الضريبة كقيمةٍ للخدمات العامة التي يستفيد منها الفرد. بينما فرضت تشريعات أخرى حقوقًا شرعية على الثروة الفردية تضمن عدم تضخمها، وتذهب هذه الحقوق الشرعية للتكافل الإجتماعي وسد حاجة الفقراء وغيرها،
  • سمحت الرأسمالية لرأس المال بجني الأرباح والفوائد المضمونة في الإقراض والبنوك على حساب المقترض الذي يتحمل الخطورة لوحده، وهكذا يضاعف الغني ثروته على حساب المقترضين الذين قد يتعرضون للخسارة، بينما حرّمت تشريعات أخرى الأرباح الربوية المضمونة وسمحت بدلًا عنها بالمضاربة وبذلك يشترك رأس المال في العملية الإنتاجية مع العامل المضارب فيتعرض رأس المال للربح والخسارة مع العامل المضارب على قدم المساواة.

كيف أستفاد الأثرياء الغربيون من تشريعات الرأسمالية:

أستثمر أصحاب الثروات في الغرب أموالهم فأستأجروا اليد العمالة الرخيصة او جلبوا العبيد من مستعمراتهم لمضاعفة ثرواتهم، فملكوا:

  • الأرض وثروتها الزراعية،
  • الثروات المختزنة في الأرض كالمعادن مثل الألماس والذهب غيرهم،
  • المياه والأنهار والبحار،
  • الثروات الطبيعية الأخرى كالأسماك والطيور والغابات.
  • أسسوا المصانع التي تحوّل المواد الخام الرخيصة بفعل الآلة والأيدي العاملة الى منتجات متنوعة يتم بيعها في الأسواق المحلية والعالمية،
  • استثمرت الدول الرأسمالية الأوربية ثرواتها في بناء أساطيلها البحرية وبدأت تجوب المحيطات بحثًا عن الموارد الطبيعية، ابتداء من الإمبراطورية الإسبانية والبرتغالية ثم الهولندية وبعدها البريطانية والفرنسية، حيث نظر الغربيون الى الموارد الطبيعية في البلدان المستعمرة كغنيمة يجب استغلالها بأسرع طريقة ممكنة، بغض النظر عن الآثار الكارثية التي تتركها على الطبيعة،
  • رأت الدول الاستعمارية أراضي بعض مستعمراتها مناسبة لإنتاج غلات خاصة، فمثلا جعلت أمريكا من غواتيمالا ودولا أخرى في أمريكا الجنوبية مزارع للموز، فإرتبط اقتصاد هذه الدول بسعر الموز فقط وأصبحت عرضة لهزات اقتصادية نتيجة انخفاض الطلب على الموز في الأسواق الدولية، وفعلت فرنسا مثل ذلك أيضا حيث جعلت مستعمراتها في شمال أفريقيا مزارع للعنب ليصل أسواقها بأرخص الأثمان.
مصدر الصورة: thepurporters.wordpress.com

عوامل نجاح الرأسمالية في صناعة الثروة:

  1. تطور العلوم الطبيعية واختراع الماكينة التي رفعت الإنتاجية وبدأ أصحاب الأراضي استغلال ثرواتهم لتأسيس المصانع، وتم توزيع العمل تبعًا للتخصص واستخدمت خطوط التجميع وتم مكننة الصناعة وجعلها أتوماتيكية،
  2. التشريعات القانونية التي تحمي ملكية الأفراد وحقوقهم وتشريع الشركات ذات المسؤولية المحدودة التي تحمي ثروات المؤسسين الأخرى،
  3. استفادت الدول الرأسمالية من مستعمراتها فجلبت المواد الخام مثل القطن من الهند ومصر، وبعد تصنيع النسيج يتم تصديره وتسويقه للمستعمرات لجني الأرباح،
  4. جلبت بريطانيا وفرنسا العبيد والعمال من المستعمرات لبناء المترو والمشاريع الأخرى بأجور زهيدة جدًا،
  5. سنّت الدول الرأسمالية قوانين تحمي صناعتها الداخلية وتفرض الرسوم الجمركية العالية على المستوردات، وشجّعت تصدير المنتجات كالملابس الى الأسواق العالمية،
  6. ذكر ماكس فيبر أنّ التنظيم المؤسساتي في العمل (سمّاه البيروقراطية) حيث السّلم الهرمي الإداري المنضبط وتحديد المسؤوليات سببٌ مهم ٌ جدًا أدّى الى نجاح الرأسمالية في تطوّرها الصناعي المادي، فقد انتقلت الأعمال من طبيعتها العادية (Traditional) كالعائلية مثلًا الى الطبيعة المؤسساتية حيث العقلانية والقوانين المنضبطة، وتقوم المؤسسات العقلانية على الأسس العلمية والعقلية وتتبنى منهجًا علميًا واضحًا لتحقيق غايةٍ وهدفٍ معين. وتتسّم المؤسسة العقلانية بما يلي:
    • السلّم الإداري المقرّر والمنضبط بوصفٍ واضحٍ لكلّ منصبٍ اداري في السلّم من أدنى منصب في المؤسسة الى أعلى منصب فيها،
    • يتسلّم الأشخاص رواتب معروفة لقاء عملهم الرسمي، ولا يجوز لهم العمل دائمين في إدارات أخرى،
    • توضع خطة تطوير واضحة للأشخاص من أدنى منصبٍ الى أعلى منصبٍ في السّلم حسب الكفاءة وبعيدًا عن التمييز والمحاباة،
    • يكون القانون الذي تطبّقه المؤسسة واضحًا ومعروفًا ولا يحق للإدارة تغيير القانون،
    • لا يحقّ لأي موظف او اداري أن يخالف القانون، وإلّا فسيتعرّض للمساءلة والعقاب.
  7. تطوّر الإدارة ومنها تجزئة العمل وتخصّص الأفراد في أعمال معينة فكلّ فرد يؤدي مهمةً معينةً ويحتاج لزملائه لإكمال صناعة المنتج في خط التجميع، وقد دفع التقدم العلمي باستمرار الجامعات ودوائر البحث العالمية الى إيجاد وتدريس تخصصات جديدة محددة جدًا في مواضيعها التخصصية الضيقة،
  8. رأى ماكس فيبر أنّ التوفير والاستثمار والعمل قيم شجّعتها البروتستانتية التي اعتبرت النجاح في الدنيا علامة على رضى الربّ ودليلٌ على النجاح بعد الموت. هذا الدافع الديني وفّر بيئةً اجتماعيةً مناسبة استفاد منها رأس المال والتقدم التقني لنجاح الرأسمالية.

ماهي الاثار التي تركتها الرأسمالية على عوامل الإنتاج (رأس المال، اليد العاملة، الأرض)؟

الرأسمالية ورأس المال:

نتيجة الثورة الصناعية وما بعدها، حقّقت الحضارة الغربية ثورةً صناعيةً وثروةً هائلةً يملكها أصحاب المصانع ورؤوس الأموال والشركات الكبرى، مثل عائلة روكفلر وشركتهم ستاندرد اويل الأمريكية، وعائلة روتشيلد وأصلها فرانكفورت والتي انطلقت عالميًا لتؤسس الكثير من البنوك والشركات العالمية.

وحين انطلقت العولمة تمكنت الشركات وعبر منظمة التجارة العالمية من وضع قوانين تفتح بموجبها الأسواق العالمية أبوابها لمنتوجاتها وتنقل الشركات مصانعها حول العالم لتتفادى الضرائب والتكاليف البيئية العالية في البلدان الغربية ولتستفيد من توفر اليد العاملة الفنية والقليلة الكلفة أيضا.

وهكذا كدّست الشركات العالمية الثروات الطائلة ومعها البنوك العالمية الكبرى التي ضبطت وقع الحركة الاقتصادية لحماية مصالحها.  فملك 10% من الغربيين أكثر من 50% من الثروة، بينما بقي 90% الآخرون يئنون في مصيدة الرهون البنكية لسياراتهم ومنازلهم وهم عرضة للتسريح من أعمالهم في أي دورةٍ اقتصاديةٍ مقبلة.

الرأسمالية واليد العاملة:

في القرن الثامن عشر، انطلقت الثورة الصناعية على أنقاض المجتمع الزراعي الاقطاعي، فسنّت الحكومة البريطانية قوانين أجبرت بعض المزارعين على ترك أراضيهم الزراعية والالتحاق كعمال في مصانع النسيج والحديد والصلب لدعم الحركة الرأسمالية الصناعية، فترك الأفراد أسرهم الممتدة الزراعية الريفية وانتقلوا الى مقار أعمالهم في المدن الصناعية حيث المجتمع الصناعي وسرعة التنقل وعدم الاستقرار، فتفككت الأسرة الممتدة، وتكوّنت بدلًا عنها الأسر النووية الصغيرة (الأب والأم وطفل او طفلين غالبًا)، وضعفت الرقابة الاجتماعية وضعف معها الالتزام بالقيم والأعراف الاجتماعية السائدة في الريف سابقًا،

  • استغّل أصحاب المصانع حاجة المزارعين القادمين من الريف للعمل في المدينة، فأغروهم برواتب ثابتة وكانت مغرية نظرًا لنجاح الصناعة والتصدير وارتفاع إنتاجية الماكينة الصناعية، فعملوا ساعات طويلة بين 12 الى 14 ساعة يوميًا. وتحت وطأة الجشع الشديد لأصحاب المصانع وعدم حماية القانون، عاش العمال في الأحياء السكنية المكتظة حيث لا توجد مياه نظيفة وصرف صحي بصورة كافية، ولا تتوفر وسائل نقل مناسبة، فارتفعت نسبة الوفيات وانتشر مرض السل بين الشباب. هذه البيئة الجشعة الموغلة في استغلال العمال اوجدت لديهم اغترابًا شديدا وفراغًا نفسيًا وشعورًا بالضياع وفقدان الأمل أدّى الى ارتفاع نسبة الانتحار والأمراض النفسية،
  • بعد توزيع العمل تبعًا للتخصص واستخدام خطوط التجميع ومكننة الصناعة، أصبح العمل سلعةً يحكمها العرض والطلب مما أضعف قدرة اليد العمالة التفاوضية وأعطى أصحاب المصانع والطبقة الرأسمالية قدرة المناورة،
  • على النقيض من الرأسمالية، رأى كارل ماركس أن العمل هو الذي يصنع القيمة المضافة وليس الأرض او رأس المال، وأنّ الطبقة الرأسمالية استغلت حاجة أبناء الريف للعمل في مصانعهم بأرخص الأجور واستأثرت بالقيمة المضافة وكدّستها مع رأس المال الذي تضخّم على حساب الطبقة الفقيرة، وأنّ هذا الجشع سيشعل صراع الطبقة العاملة (البروليتاريا) مع الطبقة البرجوازية مالكة رأس المال الى أن تحقّق الطبقة العمالية سيطرتها على الأمور في نهاية المطاف،
  • لم يحدث الصراع في الغرب كما تنبّأ ماركس ولم تسيطر البروليتاريا، لكن برزت مطالبات شديدة بسنّ قوانين تحفظ حقوق العمال مثل الحدّ الأدنى للأجور والعمر الأدنى للالتحاق بالعمل وتحديد ساعات العمل والعطلة الأسبوعية والـتأمين الصحي، ورغم أن ّ الأجور بدأت في التحسّن في القرن التاسع عشر إلّا أن المطالب الأخرى لم تتحقّق حتى بداية القرن العشرين،
  • تأسّست منظمة العمل الدولية عام 1919 ومقرها مدينة جنيف بسويسرا في إطار عصبة الأمم في أعقاب الحرب العالمية الأولى لوضع معايير العمل الدولية وذلك لضمان تحقيق العدالة والأمن والكرامة الإنسانية، فحدّدت حقوق العمال كثمان ساعات عمل يوميًا وأصول السلامة في مكان العمل، والتأمين الصحي وغيره، والغت عمل الأطفال وطالبت بالقضاء على التمييز في التوظيف والتطوير،
  • برزت الإدارة كعلمٍ يهتم برفع الإنتاجية وخفض التكاليف وقد إهتّم تيلور بدراسة الإدارة العلمية في محاولة لتوزيع العمل الى أجزاء صغيرة مدروسة بعناية لرفع إنتاجية خط التجميع، وتطوّر هذا الى علم بحوث العمليات،
  • في ثلاثينات القرن الماضي وحتى الستينات، استفادت الطبقة العاملة من قوانين العمل وكان القطاع العام والمشاريع الحكومية رافعة مفيدة لمصلحة العمال،
  • في الخمسينات دخلت النساء سوق العمل جنبا الى جنب مع الرجال،
  • في خمسينات القرن العشرين، انتقلت الصناعة من انتاج كمي كبير في خطوط التجميع كسيارات فورد (mass production) الى انتاج نوعي يتناسب مع الطلبات المختلفة للعملاء،
  • في الثمانينات وبعد تبني الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا مبادئ السوق الحرّ، أطلقت يد الشركات في جني الأرباح حيث تم تعديل القوانين الضريبية لتشجيع الشركات والقطاع الخاص فأصبحت الفجوة بين رواتب رؤساء الشركات والطبقة العاملة متسعة جدا،
  • اضطرت الأسر للعمل رجالا ونساء ولساعاتٍ طويلةٍ لكسب عيشها،
  • بعد اختراع الحواسب الآلية والانترنت وبروز عصر المعلومات، انتشرت وسائل التواصل والهواتف المحمولة والتجارة الإلكترونية وبدأت حقبةٌ جديدةٌ من (العمل عن بُعد) خاصةً إثر وباء الكورونا، وقد أستفاد الغرب كثيرا من هذه الثورة التكنولوجية فنقلت الشركات مصانعها الى شرق آسيا وشرق أوروبا بينما حافظت هي على التقدم الرقمي والشركات الرقمية الكبرى كأمازون ومايكروسوفت وقوقل وابل وغيرهم، ويبدو أن هذا التغير مستمر خلال العشرين سنة القادمة بما يحمله من ذكاء اصطناعي وروبوتات وسيارات بدون سائق وغيرها من التقنيات الحديثة، والتي قد تنعكس سلبًا على سوق العمل،
  • أصبحت القروض البنكية ميسرةً جدًا، فغرق أغلب الموظفين في الرهون العقارية والبنكية لبيوتها وسياراتها وأجهزة المنازل وكلّ شيء تقريبا، حتى جاءت نكسة الرهن العقاري عام 2008، فاضطرت الكثير من العائلات الى تسليم بيوتها للبنوك المقرضة لها،
  • بدأت الشركات والبنوك في تبني مؤشرات أداء يجب على الموظف والعامل تحقيقها وتدخل ضمن تقييمه السنوي وتطوره الوظيفي. المشكلة أنّ هذه المؤشرات يتم زيادتها كلّ عام وكأنها سيفٌ مسلطٌ على رقبة الموظف الذي يحس بالقلق الشديد خوفًا من عدم تحقيقها.
إنتاج كمي ونوعي ، مصدر الصورة: corporatefinanceinstitute

الرأسمالية والأرض:

  • ركّزت النظرية الرأسمالية على العوائد قصيرة الأجل، مما يعني استنزاف الموارد الطبيعية كالمياه بسرعة كبيرة على حساب الأجيال القادمة،
  • نتيجة التوسع الهائل في الصناعة، انتقل البشر من الأرياف الى المدن حيث نمت التجمعات الحضرية، وهذه التجمعات المدنية تحتاج الى استغلال عشرة أضعاف رقعتها الجغرافية للدعم والتوريد والتوزيع والخدمات مما أثّر سلبًا على الرقعة الزراعية،
  • نتيجة النمو الصناعي والاقتصادي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، إزداد عدد سكان المدن وتحسّنت أوضاعهم المعيشية فارتفع الطلب على الغذاء والوقود والمياه، لذا تم استخدام نظم زراعية جديدة كتناوب المحاصيل والميكنة فيما يسمى (الزراعة الصناعية) والتي تعنى بوفرة الإنتاج وخفض التكاليف، وازداد تطبيق العلوم الزراعية في سبعينات القرن العشرين فيما سمي بالثورة الخضراء، فازداد استخدام الأسمدة والمبيدات الحشرية وتضاعف الإنتاج الزراعي لكن مع آثار بيئية وخيمة،
  • تعرّض صغار المزارعين الذين كانوا يمثلون عصب الزراعة سابقا، الى منافسة شديدة من الشركات الزراعية الكبرى مما أدّى الى انسحابهم التدريجي من الزراعة والتحاقهم كعمال في المصانع،
  • الاستهلاك الرهيب الذي تم تشجيعه من قبل الثقافة الغربية سواء في اللباس او الغذاء او غيرهما، بهدف زيادة الأرباح، أدّى الى استنزاف الموارد الطبيعية وزيادة التلوث البيئي،
  • ثقافة المسطحات والملاعب الخضراء بدأت من بريطانيا ثم انتقلت منها الى أقطار العالم، وكأن البشر في سباق محموم الى استنزاف المياه،
  • تستخدم بعض الشركات المياه الجوفية العذبة في تكسير الآبار او ضخ النفط وغسله او في مصانعها المتنوعة مما يسبب هدرا كارثيا للموارد المائية المحدودة،
  • درس علماء الاجتماع مواقع بعض المدن في العالم ولاحظوا وجود بعضها في أماكن غير مناسبة طبيعيا، فقد تكون في طريق الأنهار قرب مناطق الفياضات والأعاصير كمدينة نيو اورلينز بولاية لويزيانا وقد تكون على خطوط الفوالق والزلازل كمدينة سان فرانسسكو بولاية كاليفورنيا، وذكروا عدة أسباب لذلك قد يكون منها تشجيع الطبقة الرأسمالية لذلك حتى تستفيد من تجارتها في الأراضي والمشاريع العقارية قرب هذه المدن، نسأل الله ان يحفظ هذه المدن فلا تصاب بنكبات طبيعية مستقبلا،
  • تمّ في القرون الماضية تجاهل التكاليف البيئية والاجتماعية لتراكم رأس المال، وأصبح النظر الى الأرض كهدية مجانية من الطبيعة وتم استغلال المشاعات (الغابات والأنهار والسواحل والبحار)، فأزيلت الغابات وانهارت التربة في بعض المناطق مما أدى الى تسارع التدهور البيئي،
  • هناك الكثير من الأمثلة الأخرى التي توضح جشع الغرب ونظرته قصيرة الأجل والتي استمرت قرونا طويلة في نفث الملايين من اطنان الكربون في الجو ومن تلويث مياه الأنهار والبحار والمحيطات، ولم تنتبه إلا متأخرة في أواسط القرن العشرين فبدأت في سنّ القوانين البيئية التي رفعت تكلفة الإنتاج،
  • دفع ذلك التغيير الشركات الغربية الى نقل مصانعها من أمريكا وغرب أوروبا الى شرق آسيا وشرق أوروبا حيث تهرّبت من القوانين البيئية الصارمة وجنت بذلك الأرباح الطائلة على حساب البيئة.

الرأسمالية والتحديات الاقتصادية:

تعرضت الرأسمالية لنكساتٍ عديدةٍ عبر تاريخها كان منها الكساد العظيم عام 1930 حيث انبرى جون مينارد كينز لوضع نظريته الكنزية لترميم الاقتصاد الرأسمالي فتبنت الحكومات مشاريع بنيةٍ تحتيةٍ كبيرةٍ جدًا لضخ السيولة في الأسواق وتوفير الوظائف وتحريك العجلة الاقتصادية. وفي مقابل النظرية الكنزية، وضع ميلتون فريدمان مع زملائه الأوربيين في ثمانينات القرن الماضي مبادئ مدرسة شيكاغو وهي نظرية السوق الحرّ حيث دعوا الى احجام الحكومات والقطاع العام عن التدخل في الحركة الاقتصادية. لكن حين حدثت كارثة الرهن العقاري عام 2008، كاد الاقتصاد العالمي ان ينهار لولا تدخل الحكومات التي ضخت مئات البلايين من الدولارات لإنقاذ البنوك والشركات. حدث هذا ايضًا إبّان جائحة الكورونا حيث ضخت الحكومات تريليونات الدولارات لإنقاذ الأوضاع الاقتصادية.

لقد نتج عن الرأسمالية طبقية فاحشة حيث بدأت تتلاشى الطبقة الوسطى تدريجيًا، وانقسم المجتمع الى طبقة غنية مترفة جدًا وهي أقل من 10% بينما مثلت البقية وهي 90% الطبقة المتوسطة والفقيرة وأغلبها من الموظفين والعمال.

هل حقّقت الرأسمالية السعادة المنشودة؟

مستوى القلق المرتفع في ظل خواءٍ روحي وفراغٍ معنوي وإغراقٍ غريزي وضع نهايةً لحلمٍ طويلٍ عاشته البشرية لمدة خمسمائة عام. إنّه من المؤسف أن تنحدر الحضارة الغربية بكل انجازاتها العلمية والتكنولوجية نتيجة ضعف العلوم الانسانية والاجتماعية الغربية والتي لم تحقّق تقدمًا يوازي طفرات العلوم الطبيعية، بل على العكس، فبعض النظريات الاجتماعية الغربية تركت وراءها خرابًا هائلًا وتنذر بكوارث رهيبةٍ على مستوى القيم الإنسانية والحياة الاجتماعية.

الرأسمالية وسعادة الفرد:

أعطت الرأسمالية الفرد كامل الحرية في تحقيق ذاته وكفلت له قانونيًا حماية حقوقه وأشعلت روح المنافسة بين الأفراد تحت دافع حبّ الذات والتملك فانطلق الفرد الغربي يعمل ويستثمر ويخترع وينجز ويؤسّس الشركات العابرة للقارات. وحين اعترضت طريقه بعض القيم والقيود الاجتماعية، انطلقت في الغرب نظرةٌ تحرريةٌ انفلتت من كل القيم والأعراف فالإبداع هو الهدف، وللمبدع الحق في تلبية غرائزه، فالأنانية فضيلةٌ وليس على الفرد أن يفكّر في الآخرين الذي يعيقون حركة التطور فهو مسؤولٌ عن نفسه ونفسه فقط. وحين يفكّر كلّ فردٍ بهذه الطريقة فيحبّ نفسه حتى الأنانية الجشعة، فستكون محصّلة هذه الأنانيات الفردية مجتمعةً مصلحة المجتمع. هكذا ترى الثقافة الغربية السائدة حاليًا.  فلكي تكون عظيمًا، ترى بعض المدارس الغربية أنه في:

  • ساحة النفس: يمكن للفرد أن يتحرر من القيود والقيم فيلبي غرائزه حتى يمكن لطاقاته الكامنة ان تتفجر وتبرز على أرض الواقع في هيئة اختراعات وإنجازات مادية، أنظر كتاب (Selfie by Will Storr)،

Selfie: How the West Became Self-Obsessed: Storr, Will: 9781447283669: Amazon.com: Books

  • ساحة المجتمع: يمكن للفرد أن يحبّ نفسه بلا قيود، غير أنه لايحق له التعدي على حرية الآخرين، فالإيثار وإعطاء الآخرين قد يسبّب ضررًا على الاقتصاد، بينما توفير المال وتأسيس الشركات سيوفر فرصًا وظيفيةً للفقراء تغنيهم عن التسوّل والاعتماد على الصدقات. أي أنّ ثقافة السوق المفتوح والمنافسة العادلة هي من يحقّق غنى المجتمع والعدالة الاجتماعية بين الفرد والآخرين. هذا المجتمع تتجلّى فيه ثقافة وقيم الأرباح أوّلًا، التي تسود السوق والشركات عالميًا، أنظر كتاب (فضيلة الأنانية لمؤلفته آين راند).

فضيلة الأنانية – دار صفحة سبعة للنشر والتوزيع

هذه هي الوصفة الغربية التي تحقق السعادة في رأي الرأسمالية الغربية السائدة حاليًا، فهل حققتها؟

لقد خلّفت الحداثة الغربية بنظرياتها المادية التي لا تلبي أبسط التساؤلات الإنسانية قلقًا وجوديًا لدى الغربيين، (مثل: لماذا وجدنا؟ ولماذا نموت؟ وما معنى الحياة؟ وما الهدف منها؟ ولماذا يحصل البعض على الثروة الطائلة بينما يعاني الآخر شظف العيش؟) لقد إنتبه فلاسفة غربيون كنيتشه وغيره لذلك وحذروا من آثار وخيمة على المجتمع الغربي. هذا الفراغ الفكري والخواء الروحي فسح المجال لنظرياتٍ فاشيةٍ متطرفة غزت الفكر الأوربي وتركت وراءها حروبًا عالميةً كبرى ذهب ضحيتها عشرات الملايين.

الحقيقة أنّ التمرد ضد الدين الذي بدأ في الغرب في عصر الحداثة زعزع الإطار الفكري الايماني واستبدله بإطار فكري مادي، فلم يعد هناك تفسير مقنع للحياة والموت حتى تحوّل الى قلق وجودي ضرب في اعماق المجتمع الغربي. هذا القلق حاول بعض الغربيين ان يعالجه بشتى الوسائل لكن دون جدوى، فانطلق بعضهم يبحث عن اسباب مادية لتحقيق الهدوء النفسي كالاستهلاك المفرط او الانغماس في اللذة الغريزية او المشروبات الكحولية كمهدئات لحظية لا تستقر طويلا حتى يعود القلق اشدّ من سابقه.

؛؛في الغالب، يعيش الغربي أغلب وقته بين علاقة العمل وعلاقة الغرام، لذا فإن أي خللٍ يصيب علاقته الغرامية او حالته الاقتصادية او علاقته بعمله قد يسبب له نكسةً وقلقًا شديدًا؛؛

لذا فإن أسباب القلق وعدم السعادة، كما نراها:

  1. أسرية – اجتماعية:

الغرام في الغرب قد يكون مع الزوجة الشرعية او مع أي علاقةٍ غير شرعية يلبي الفرد بها مطالبه الغريزية خاصة بعد شيوع التحررية.  لذا فإنّ سهولة تكوين واستبدال العلاقات الغير شرعية جعلها تتعرض للاهتزاز نتيجة أيّ خلافٍ بسيط، فأشتدّ الشعور بالقلق والغربة والوحدة وضعفت الثقة بالآخرين خاصة في ضوء تفكك العلاقات الأسرية.  ولعلّ هذا يفسر شيوع وسائل التواصل الاجتماعي التي جاءت تلبية لهذه الحاجة الماسة للتواصل مع الآخرين (على الأقل افتراضيا).

  1. هل يحقق الاستهلاك السعادة؟

يورد المؤلف تيم كاسر (في كتابه الثمن الباهظ للمادية، ترجمة طارق عسيلي) ما يلي:

  • يتعرض الفرد الغربي الى وابلٍ غزيرٍ من الدعاية التسويقية، فالتنوع والدعاية والاستهلاك ليس لسواد عيون الفرد بل لزيادة الإنتاج وتعظيم أرباح الشركات في النظام الرأسمالي. لذا يلعب التلفزيون ووسائل التواصل دورًا بارزًا في عملية الدعاية والتسويق حتى يتصوّر الفرد ان سعادته ورفاهيته لا تتحقق الا بتملك المنتج الفلاني فيظل يلهث حتى يتملكه ثم يدخل في دوامةٍ أخرى لمنتجات اخرى وهكذا يعيش الفرد في دوامة الماديات لأنه يحتاج الى المال لشراء المنتج وإذا بالمنتج لا يلبي الرفاهية المطلوبة، وهكذا دواليك.
  • إنّ الاستهلاك المفرط يؤدي الى فقدان السعادة، حيث تضع الحياة المادية ضغوطًا متزايدة على النفس الإنسانية، فبدلًا من البساطة السابقة، أصبحت هناك المزيد من الرغبات لاقتناء المزيد من الكماليات، وهي في تزايدٍ جنوني. فعلى الفرد أن يعمل باجتهادٍ لامتلاك هذه السلع المادية والحفاظ عليها وتحديثها مما يسبب عبئًا وضغطًا نفسيًا أكبر من قبل، هذا يدفع الى مزيدٍ من الرغبة في اقتناء سلعٍ جديدةٍ بحثًا عن سراب السعادة، فتزداد الأمور سوءًا، وهكذا يتضاعف الاستهلاك على حساب السعادة الحقيقية،
  • إنّ وهم السعادة في اقتناء السلع والمغريات المادية صرف الأفراد عن المعنى الحقيقي للسعادة والتي تتحقق بالنظر الى داخل النفس ومعنى الحياة الحقيقي وغايتها الأسمى،
  • في ظل الدورات الاقتصادية التي تصيب النظام الرأسمالي، كما حدث إبّان أزمة الرهن العقاري عام 2008 وإبّان وباء الكورونا عام 2020، تعرّض الأفراد والعائلات الأمريكية الى هزاتٍ اقتصادية أثّرت سلبًا على نمط حياتهم ووضعهم المعيشي وراحتهم النفسية،
  • حين يعيش الموظف تحت رحمة القروض البنكية ويعمل هو وزوجته ليضمن مستوى معيشة مقبول، يصبح القلق المعيشي مرتفعًا جدًا،
  • حين تكون الطموحات المادية مرتفعةً نتيجة زوبعة تحقيق الذات، وقد لا تتناسق مع القدرات الفردية، يضطر الافراد الى الخروج عن القانون او الشعور بالقلق.
  1. بيئة العمل:
  • شعور الموظف بالاغتراب والضياع فهو ليس إلّا شيئًا ووسيلةً لتحقيق الربح فيمكن استبداله او البحث عن بديلٍ أرخص منه،
  • تقلبات السوق والدورات الاقتصادية تجعل تسريح العمالة الحلّ السريع الذي تلجأ له الشركات والمؤسسات لإرضاء مجالس الإدارة والمستثمرين،
  • الجشع المفرط من قبل المستثمرين تترجمه الإدارات بفرض الأهداف العالية على الموظفين والتي تتم مضاعفتها سنةً بعد أخرى (كزيادة عدد العملاء او الارباح او الإنتاج)، وان لم يحققها الموظف فقد يكون مصيره الانذار او التسريح من العمل.
مصدر الصورة: /soodcharityfoundation.org

لقد أستعرضنا لمحةً فكريةً وتاريخيةً سريعةً عن مدرسة (الأرباح أوّلًا) التي تبنتها الرأسمالية والتي حققت إنجازاتٍ ماديةٍ في بعض المجتمعات على حساب مجتمعاتٍ أخرى، لكنها مع الأسف فشلت فشلًا ذريعًا في تحقيق السعادة النفسية حتى في المجتمعات التي تتغنى بنجاحها.

 بقي أن نقول: ما أحوج البشرية الآن الى مدرسةٍ أخرى تجعل الإنسان غايتها ومحورها في العملية الإنتاجية وهي مدرسة (الإنسان أوّلًا)، والحمد لله ربّ العالمين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *