“الغريب” في علوم القرآن – الدكتور أحمد فتح الله*

مقدمة

بدأ الاهتمام بالقرآن الكريم منذ نزوله على الرسول محمد (صلّ الله عليه وآله وسلم) إلى أن وصل هذا الاهتمام عند المسلمين إلى علم تفرع إلى علوم تُعرف بـ “علوم القرآن” التي يراد بها «مباحث تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وترتيبه وجمعه وكتابته وقراءته وتفسيره وإعجازه وناسخه ومنسوخه ومكيه ومدنيه ودفع الشبه عنه ونحو ذلك» (مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد الزرقاني، ص27).

ومن هذه العلوم الجليلة والمهمة (علم) “غريب القرآن”، وهو مجموعة من المعارف والمعلومات، في المصنفات التي تتناول علوم القرآن وهو أيضًا جزءٌ من علمِ معاني القرآن الذي يقومُ على بيانِ المفرداتِ أوّلاً، ثم يُبيِّنُ المعنى المرادَ بالآيةِ، مع الاعتناءِ بأسلوبِ العربِ الذي نزلَ به القرآن[1]، وكذلك هو جزءٌ من علم التفسير من حيث أن معرفته ضروريّة للمفسر، فمعرفة غريب القرآن هي مَعْرِفَةُ الْمَدْلُول[2].

والسؤال الذي يتبادر إلى الدهن حين نسمع أو نقرأ عبارة “غريب القرآن”: هل في القرآن الكريم ألفاظ غريبة؟ ألا يتعارض هذا مع كونه “عربيًّا مبينا”؟

باختصار شديد، نعم، وبلا تعارض مع عربيته وبيانه[3]. توجد ألفاظ “غريبة” في القرآن الكريم، لكنها قليلة عند البعض. يقول محمد هادي معرفة في تلخيص التمهيد، (ج2، ص244): «قال قوم: إنّا إذا تَلونا القرآن وتأمّلناه وجدنا معظم كلامه مبنيّاً ومؤلّفاً من ألفاظ قريبة ودارجة في مخاطبات العرب ومستعملة في محاوراتهم، وحظّ الغريب المشكل منه بالإضافة إلى الكثير من واضحه قليل، وعدد الفِقَر والغُرَر من ألفاظه بالقياس إلى مباذله ومراسيله عدد يسير»[4].

وفي المقابل، يقول نور الدين الحلبي عن الغريب في (علوم القرآن الكريم): «وهو كثير جدًا، وازداد كثرة باختلاط العرب بالعجم، وبُعد العهد عن عصر الصحابة رضي الله عنهم» (ص255).

5 من أهم شروط القرآن الكريم .. هل تعرفها؟

ولكن الجدير بالذكر والاهتمام أنّ “الغرابة” هنا ليست بالمعنى اللّغوي الذي يتبادر إلى الذهن العام، إضافة إلى أنّ عبارة “غريب القرآن” هي مصطلح أنتجته “علوم القرآن” (انظر: الواضح في علوم القرآن، مصطفى ديب البغا). وفي السطور التاليّة بيان مختصر للمسألة:

أولًا: كلمة “غريب” في المعاجم العربية (مادة غرب)

في المصباح المنير للفيومي:

غَرَبَتِ‌ الشمس‌ تَغْرُبُ‌ غُرُوباً: بعدت وتوارت في مغيبها، وغَرُبَ‌ الشخص بالضّمّ‌ غَرَابَةً: بعد عن وطنه، فهو غَرِيبٌ‌، وجمعه‌ غُرَبَاء، وأغرب: دخل في الغربة. وأغرب: جاء بشي‌ء غريب بعيد من الفهم[5].

في مفردات القرآن للأصفهاني:

قيل لكلّ متباعد: غريب، ولكلّ شي‌ء فيما بين جنسه عديم النظير: غريب.

في لسان العرب لابن منظور:

رجل غريب: ليس من القوم، وأغرب الرجل جاء بشيء غريب.

في تحقيق المصطفوي:

أنّ الأصل الواحد في المادّة: هو الأفول، و يقابل الشروق، والشروق هو الطلوع مع الاضاءة، فيكون‌ الغُرُوبُ‌ هو الأفول والغيبة مع انقطاع الآثار محسوسة أو معقولة. وهذا المعنى يصدق على معاني – غيبوبة الشمس في المغرب، و غيبوبة الرجل عن موطنه وكونه غريبا، وكون الشي‌ء خارجا عما يتعارف ويتفاهم مادّيّا أو معنويّا… ولا بدّ من وجود القيدين ولحاظهما في أىّ مورد يلاحظ الأصل، وإلّا فيكون الاستعمال تجوّزًا (التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي)‌.

مصدر الصورة: almrsal.com

ثانيًّا: غريب الكلام

أمّا غريب الكلام، فقد قال عنه أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي في “معالم السنن”: «إنما هو الغامض البعيد من الفهم كما أن الغريب من الناس إنما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل، والغريب من الكلام يقال به على وجهين: أحدهما، أن يراد به إنّه بعيد المعنى غامضه لا يتناوله الفهم إلا عن بعد ومعاناة وفكر، والوجه الآخر، أن يراد به كلام مَن بَعُدت به الدِّيار من شواذ قبائل العرب فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم استغربنا» [6].

ثالثًا: غريب القرآن

وأمّا غريب القرآن، فله مدخلان: [أحدهما من جهة غرابة الألفاظ، والآخر من جهة المصطلح ومفهومه]:

الأول: توجيه غرابة الألفاظ

يقول نور الدين الحلبي في “علوم القرآن الكريم”: الغريب «اصطلاحا: ما وقع في القرآن من الألفاظ البعيدة عن الفهم. سمي بذلك لبعده عن ظاهر الفهم، أو لأنه كالمنفرد عن الألفاظ الأخرى القريبة للفهم. وسبب الغرابة قد يكون لقلة استعمال الكلمة، أو لاستعمالها في كناية أو استعارة أو مجاز، أو لقلة علم القارئ والسامع باللّغة» (ص255).

وهنا لا بد أن ندرك أنّ رسالة الإسلام جاءت بلسان قوم المُرسَل (صلّ الله عليه وآله وسلم) وهذا القوم مكوّن من قبائل بلغات فصيحة ببعض مفردات لا تشاركها فيها قبائل أخرى أو لا تشترك معها في المعاني، وأحيانًا بمعانٍ متضادة، وقد استخدم القرآن الكريم بعضها، وبعضًا من الألفاظ التي تعرّبت أو اُقْترضت من اللّغات الأعجميّة المحيطة، في تناسق تام مع نغم وجرس ألفاظه العام وعربيّته البيّنة وبيان أسلوبه المتفرد[7]، ومع روح الرسالة الكليّة في القرآن العربي المبين[8].

فعلى سبيل المثال، “قبر في لغة قبيلة هذيل “جدث”، و “القرء” عند أهل الحجاز يعني الطهر، وعند أهل العراق يعني الحيض، وقصة الصحابيّ الجليل ابن عباس (رضي الله عنه) مع كلمة “فاطر” مشهورة، وجاءت على لسانه شخصيًّا، وتروي كتب التراث غيرها له ولغيره من الصحابة (رضي الله عنهم).

الثاني: حركيّة المصطلح

وصف ابن الأثير “غريب القرآن” في النّهاية، فقال: «وفي العصر الثاني (لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) كان اللّسان العربي عندهم صحيحًا محروسًا لا يتداخله الخلل، ولا يتطرق إليه الزلل إلى أن فُتحت الأمصار وخالط العرب غير جنسهم من الروم والفرس والحبش والنبط وغيرهم من أنواع الأمم الذين فتح الله على المسلمين بلادهم،

فاختلطت الفرق، وامتزجت الألسن، وتداخلت اللّغات، ونشأ بينهم الأولاد، فتعلموا من اللّسان ما لا بد لهم في الخطاب منه، وحفظوا من اللّغة ما لا غنًى لهم في المحاورة عنه، وتركوا ما عداه لعدم الحاجة إليه وأهملوه لقلة الرغبة في الباعث إليه، فصار بعد كونه من أهم المعارف مطرحًا مهجورًا، فما انقضى زمانهم على إحسانهم إلا والّلسان العربيّ قد استحال أعجميًّا أو كاد فلا ترى المستقل به والمحافظ عليه إلا الآحاد» (مقدمة النّهاية، ج3، ص4)[9].

تطور كتب “غريب القرآن”

كانت كتب غريب القرآن أول الأمر تقتصر على الغريب فقط فجاءت العبارات والمفردات المفسرة قليلة في الكتب المتقدمة كغريب القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت: 209هـ) وغريب القرآن لابن قتيبة الدينوري (ت: 276هـ)، وبعد ذلك توسعت لتشمل جميع مفردات القرآن دون أن تترك منها شيئًا كما في مفردات الراغب الأصفهاني (ت: 502هـ) وعمدة الحفاظ في شرح أشرف الألفاظ للسمين الحلبي (ت: 756هـ)، وربما كان ذلك مراعاة لغير العرب لمعرفة دلالات جميع المفردات القرآنيّة.

ولعلّ هذا التطور وتبريره ما يفهم من عبارة مساعد بن سليمان الطيار حين يقول: «ليس المُراد بالغريب ما كان غامضَ المعنى دون غيره، وإنما المرادُ به: تفسيرُ مفرداتِ القرآنِ عموماً (ويخرج من هذا ما لا يُجهل معناه؛ كالأرض والسماء والماء وغيرها، فإنها مما لا يحتاج إلى بيان)، فكُتبُ غريبِ القرآن تُعنى بدلالةِ ألفاظِه، دونَ غيرِها من المباحثِ المتعلقةِ بالتفسيرِ أو المعاني»[10].

وإضافة إلى احتواء القرآن على ألفاظٍ من لغات العرب المختلفة والألفاظ المُعرّبة من لغات أمم غير عربيّة، مثل “قمطرير” و “استبرق”، هناك ألفاظ اختص بها القرآن نابعة من خصائص مباني اللغة العربية ذاتها كلغة، منها الاشتراك اللفظي وغيره، كما اختص بألفاظ عربيّة موجودة ومتداولة أكسبها معانٍ جديدة جاء بها الإسلام لم يألفها العرب من قبل، ثم أدى انتشار العربيّة مع الفتوحات إلى زيادة في الغريب عند المتعلمين والمستعملين الجدد مع ابتعاد العرب عن فصاحتهم وسليقتهم نتيجة الاحتكاك اللّغوي واتساع المولد والدّخيل في كلام العرب[11].

خلاصة

وفي الختام، لا بد لي إن أؤكّد على نقطتين مهمتين بعد هذا العرض السريع، الّذي لا يتعرض لكثير من القضايا في هذا العلم المهم، بل يهدف إلى إعطاء نُبذة تعريفيّة مجملة عن مفهوم ومصطلح “غريب القرآن”:

(1) إنْ كان الغريب في القرآن يراد به الألفاظ الغامضة التي لم تتضح دلالتها على المعنى بشكل ظاهر، فهي إمّا أن يكون معناها غامضًا لا يفهم إلا بعد بحث وتنقيب وجهد، وإمّا أن يكون معناها معروفًا لدى قوم دون غيرهم، لأنّها مستعملة في لغتهم. ولا يُقْصَد بها الحُوشِي والوَحْشي من الألفاظ، والذي ينافي الفصاحة ويُخِلُّ بها، فألفاظ القرآن الكريم كلها فصيحة تَجِل وتُنَزّه عن هذا الوصف.

(2) إضافة إلى أنّ استعمال مفردات أو عبارات من ألسُنٍ أخرى (لغات أو لهجات) ظاهرة طبيعيّة في التداول اللّغوي وليس ذلك عيبًا بل قد يكون توظيفًا يستدعيه النص أو النّاص لرسائل يرسلها، وعلى المتلقي التأمل والتدبر فيها لعلّه يصل إلى بعض مضامينها[12]. ولي عودة لهذه النقطة قريبًا لأهميتها القصوى في أيّ مقاربة للنص القرآني ولغته.

__________________

الهوامش

[1] أنواع التصنيف المتعلقة بتفسير القرآن، مساعد الطيار، دار ابن الجوزي، ط2 (1423هـ)، ص81-82.

[2] البرهان في علوم القرآن لبدر الدين الزركشي (ت: 794هـ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية الطبعة الأولى (1367هـ / 1957م)، ج1، ص388).

[3] أخرج البيهقي وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «أَعْرِبُوا الْقُرْآنَ وَالْتَمِسُوا غَرَائِبَه» (الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، ج4، ص198، المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج3، ص228، بحار الانوار للمجلسي، ج82، ص(106. وفُسّر “أعربوا القرآن”: أي أحكموا إعراب الكلمات والجمل، أمّا “والتمسوا غرائبه” فقيل يراد بها تأملوا فيه، وتفهموا معانيه الغريبة، وقيل يعني فرائضه وحدوده.

[4] علوم القرآن الكريم، نور الدين محمد عتر الحلبي، مطبعة الصباح، دمشق: سوريا. ط1، 1414م.

[5] يقول أبو القاسم الزمخشري في أساس البلاغة: تكلم فأغرب إذا جاء بغرائب الكلام ونوادره، وغربت الكلمة: غمضت فهي غريبة ومنه مصنف الغريب (يقصد غريب القرآن). ويوضّح عبد القاهر الجرجاني أنَّ اللّفظ الغريب هو ما قلّ استعماله واحتاج في تعريف دلالته إلى المعجمات (دلائل الإعجاز في علم المعاني، ص36).

[6] تفسير غريب القرآن الكريم، فخر الدين الطريحي (1085هـ)، تحقيق محمد كاظم الطريحي، دار الأضواء، بيروت، ط1، 1986م، ص: هـ.

[7] بيان هذا القول يحتاج مقالًا منفردًا أسأل الله أن يوفقني لذلك.

[8] …الذي «لا يشبه شيئًا من كلام البلغاء الأقحاح من خطباء مصاقع وشعراء مفلّقين، كان ملء كلامهم الدرر والغرر والغريب والشارد» (تلخيص التمهيد، محمد هادي معرفة، ج2، ص244).

[9] انظر: كشف الظنون، حاجي خليفة، ج3، ص1203.

[10] الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (ت: 911هـ)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصريّة العامة للكتاب، طبعة (1394هـ / 1974م)، ج2، ص4-5.

[11] أسباب غريب القرآن وتفصيلها ومتابعة تطور مصطلحه وكتبه “كرونولوجيًّا”, أي في تسلسل زمني (chronology) تحتاج إلى دراسة أكاديميّة منفردة.

[12] هذا يستدعي أن تُدرَس “لغة القرآن” أيضًا من منظور فلسفة اللغة الحديثة، دون إهمال المباحث الأخرى من نحو وصرف ودلالة وبلاغة وغير ذلك فهي روافد مهمة للمعرفة القرآنيّة. إنّ رؤى ومناهج اللسانيات المعاصرة حتمًا ستساعد في فهم أفضل لهذا السفر الخالد واستخراج مضامين منه لم تطلها أدوات “علوم القرآن” حتّى الآن رغم انجازاتها العظيمة والمهمة.

___________________

ملحق (1): من أشهر كتب الغريب:

كتب “غريب القرآن” كثيرة وقائمة أسمائها طويلة رغم أنّ بعضها لم يصل إلينا، ومن أشهرها:

من الكتب القديمة

– نزهة القلوب، أبو بكر السجستاني (ت: 330هـ) عدّه الزركشي في برهانه “أحسن كتاب ألف في هذه المعرفة” (ج1، ص388).

– المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني (ت: 502هـ).

– تفسير الخزرجي، أبو جعفر أحمد الخزرجي (ت: 585هـ).

– معجم غريب القرآن، قاسم بن قطلوبغا الحنفي (ت: 879هـ).

– تفسير غريب القرآن الكريم، فخر الدين الطريحي (ت: 1085هـ).

من الكتب الحديثة

– معجم غريب القرآن، محمد فؤاد عبد الباقي، 1950م/1997م.

– كلمات القرآن: تفسير وبيان، حسنين محمد مخلوف، 1956م/1997م.

– السراج فى غريب القرآن، محمد بن عبد العزيز الخضيرى، 2008م.

– كتاب المُيسّر في غريب القرآن، مركز الدراسات القرآنية، 2019م، مجمع الملك فهد، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية.

* أكاديمي وباحث لغوي من المملكة العربية السعودية.

 

تعليق واحد

  1. المشكلة أن الكثير يتداول موضوع وجود ألفاظ اعجمية في القرآن الكريم
    والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: ” وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ” آية 44 – فصلت
    أتوقع المعنى واضح أن كل ما في القرآن الكريم عربي لا أعجمي فيه
    الألفاظ التي حسبت اعجمية لأنها موجودة في لغات أخرى إنما هي كما يقول البروفسور صالح السامرائي: ألفاظ مشتركة بين الغربية واللغات الأخرى، فهي تحسب عربية أيضا.
    فكلام الله واضح وصريح لا تناقض ولا جدال ولا شك ولا ريب فيه حين قال: ” “بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ” الشعراء -(195)

    ولو كان فيه ألفاظ أعجمية لحصل التناقض الذي كان يبتغيه أسياد قريش من أهل اللغة والملمين بعلومها أهل عكاظ وأصحابها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *