المهندس صادق علي القطري

لا تحكم على الكتاب من غلافه – بقلم صادق علي القطري

نحن البشر طبيعتنا طبيعة غريبة فنحن نطلق احكاما مسبقة على الأشياء والأخرين من الوهلة والنظرة الأولى فنطلق الاحكام والوشايات دون ان نتمحص وندقق فيما نطلقه على الاخرين فقط لأن حدسنا واعتقادنا هو من دلنا على ذلك وبدون أي دليل واختبار وتجربة وهذا ما يجعل المثل العربي “الكتاب باين من عنوانه” او المثل الغربي “لا تحكم على الكتاب من غلافه” ينطبق تماما علينا.  

فنحن دائما ما نطلق الاحكام بصورة متسرعة ومتعجلة على هؤلاء الأشخاص دون التأكد والتمحيص في الامر وكأن هذه الاحكام جزءا من ثقافتنا وجزءا من عادات مجتمعنا وكم هو محزن ان نكتشف لاحقا اننا ارتكبنا خطأ جسيما وأننا أسئنا التقدير والحكم.

مصدر الصورة: https://twitter.com/InspiringThinkn/status/906201451092819968

الكثير منا قد يصدر الاحكام على شخص ما من خلال مظهره المتواضع الرث او على درجة تحصيله العلمي او بتصرف عفوي لا ارادي يصدر منه بيد ان التصرف الصحيح ان يكون لدينا كل المعطيات الكافية من تعامل ومخالطة عن قرب للتأكد من هدا التصرف “المقيت” وهذا هو المعيار الذي يمكن ان يعطيك حكما وتصورا صحيحا عن سلوك ذلك الشخص, فهذه هي من المعطيات التي تجلو غبار الشك وتظهر لك الحكم الصحيح وتبين لك المعدن الأصيل من الدَّخيل وتظهر كل السلوكيات والتصرفات التي تُدّعم تلك المعطيات للحكم على هذا الشخص او ذاك وليس على المظهر أو الهيئة.

وهذا هو الخطأ الفادح الذي يرتكبه الكثير من الاشخاص دون الالتفات الى هذا التصرف المقيت والى السلبية التي قد تنتج عنه فهناك الكثير من الأمثلة والتجارب والتي سأتطرق الى بعضها في هذا المقال وبشكل مختصر والتي اّمل ان يستفيد منها القارئ.

فالنظافة وحسن المظهر والاناقة والترتيب ربما لها الأثر الفوري والآني للحكم ، فقد تخدعك فتدرك لاحقا ان وراء كل هذا الصفات وجه اّخر ووحش مفترس، فالوسامة والقبح والذكاء وعدم سرعة الفهم والنباهة والغباء والطول والقصر كلها صفات خادعة قد تقودك الى حكم غير عادل لذلك الشخص المستهدف.

ولكن علينا التأكد على ما يظهره ذلك الشخص من حسن اخلاقه وامانته وصيانته للعهود والمواثيق أو نقضها، فهدة هي المقاييس العادلة التي يجب على الانسان ان يجعلها ميزانا يقاس بها. وكم هناك من اشخاص بسطاء مظهرهم يدل على انهم غير ميسوري الحال ولكن الابتسامة والرقي وحسن المعشر معهم يدخل السرور الى قلبك وترتاح نفسك الى مصاحبتهم ولربما هؤلاء يخبؤون وراء ابتسامتهم ظروفا واوجاعا لا يشعرونك بها لتعففهم وان ظروفهم لم تسمح لهم ان يصلوا الى ما وصلت انت اليه.  

مصدر الصورة: https://www.faithfellowshipministries.net/

بيد ان هناك القليل من ذوي النظرة الثاقبة والعقل الرزين من يحكم على الآخرين بالتجربة ومن خلال المواقف الصعبة والذين يعتقدون ان ما لديهم من العيوب يجعلهم يركزون عليها دون النظر الى عيوب الناس كما قال الشافعي في قصيدة تنسب اليه:

اذا رُمتَ أنْ تَحيا سَليماً مِن الأذى

ودينُكَ مَوفورٌ وعِرْضُكَ صَيِنُّ

لِسانُكَ لا تَذكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئ

فَكُلُّكَ عَوراتٌ وللنّاسِ ألسُنُ

وعَيناكَ إنْ أبدَتْ إليكَ مَعايِباً

فَدَعها وَقُلْ يا عَينُ للنّاسِ أعيُـنُ

وعاشِرْ بِمَعروفٍ وسامِحْ مَن اعتَدى

ودَافع ولكن بالتي هِيَ أحسَنُ

ومن القصص والتجارب التي وددت التطرق الى بعضها وهي كثيرة والتي قد تقودنا الى عكس ما تعتقد وهي من وحي تجارب الناس وددت الإشارة اليها وبشكل مختصر لأخد العبر والاستفادة منها.

من القصص التي قراتها (القصة الأولى):

في أحد المدارس الأجنبية قامت المديرة باختيار واحد من الطلاب الجدد الذين قدموا للمدرسة ، ليترأس اتحاد الطلاب، وكان هذا الصبي طويل القامة هادئ لا يتكلم كثيرًا وليست له شعبية كبيرة ، فشكك الكثير من المعلمين بقدراته رغم معرفتهم بتفوقه الدراسي ، ولكنهم كانوا يرون أنه شخص غير ديناميكي، وغير اجتماعي وبالتالي لم يثر إعجابهم.

مصدر الصورة: indiatoday.in

وبالرغم ذلك أصرت مديرته على موقفها باختيار ذلك الطالب، وأخبرت المعلمين أن لديه مواهب كامنة تحتاج فقط من يظهرها، ويعطيه الفرصة لذلك وهذا ما كانت مديرته تريد اثباته. مرت بضعة أشهر بعد ذلك ليثبت فيها هذا الطالب أن المديرة كانت على حق في اختيارها له، فقد برع الطالب في المناقشات والتفاعلات الاجتماعية مع بقية الطلاب، واستطاع قيادتهم بشكل متناغم ، فقد فازوا به بالعديد من الجوائز في المسابقات الثقافية بين المدارس.

بعدها تم اختياره كأفضل طالب على مستوى الجمهورية، وحصل على العديد من الميداليات في كل الأنشطة والمسابقات التي شارك فيها، وحصلت الدولة تحت قيادته بالعديد من الجوائز. وبالرغم من كل هذه النجاحات لم يهمل هذا الطالب دراسته الأكاديمية، فقد حصل على درجات مرتفعة استطاع معها الفوز بمنح دراسية مقدمة من الدولة، وعندئذ أدرك المعلمون مدى خطأهم في الحكم على هذا الطالب.

ذلك الطالب الهادئ المتواضع الذي كان بمثابة كنز دفين، استطاع أن يحقق لمدرسته نجاحًا منقطع النظير، وامتد الأمر إلى محاولة الطلاب تقليده بعد أن ألهمهم بنجاحه، فارتفع المستوى الدراسي للطلاب في المدرسة، بالإضافة إلى نبوغهم في الأنشطة، الأمر الذي جعل تلك المدرسة واحدة من أفضل المدارس في تلك الدولة.

القصة الثانية من التجارب الشخصية:

كنت انا و احد الزملاء في مناسبة اجتماعية وكان فيها احتفالا على المسرح ومن ضمن الفقرات فرقة إنشاديه لإلقاء بعض القصائد الشعرية وكان الحفل غاصا بالحضور. اعتلت المنصة هذه الفرقة الإنشادية وكان يقودها شابا يبدوا من هيئته انه من عائلة فقيرة وبسيطة وضعيفة الحال.

مصدر الصورة: istockphoto.

لاحظنا انا وزميلي الكثير من الهمس واللمز من الحاضرين ان كيف لهذا الشاب المتواضع ان يقود هذه الفرقة واخذ بعض الحضور يحبسون انفاسهم قبل ان يتلفظ هذا الشاب باي كلمة. وما ان بدا بالإنشاد حتى ابهر كل من كان حاضرا بحسن القائه وبلاغته وعذوبة صوته فقد كان اداءه اكثر من رائع وقد خاب كل من اساء الظن به وأطلق الحكم المتعجل والاستباقي عليه.   

القصة الثالثة وهي عكس القصتين السابقتين:

كان هناك اثنين من الأصدقاء نمت صداقتهما منذ ان كانا صغيرين في الحارة التي تربيا وترعرعا فيها وكبرا وكونا علاقة لا يمكن لأي متطفل ان يكسرها. كان احد هذين الصديقين له باع في الأمور القانونية والمحاماة ولديه موقعا محترما في احدى الدوائر الحكومة حيث اتصل به احد الأشخاص لينظر في قضية أخيه المحتجز منذ قدومه من الولايات المتحدة والذي تم احتجازه من المطار الي السجن بسبب قضية احتيال. قام هذا الصديق بالنظر في قضيته بالسبل القانونية وحل قضيته بالتصالح بينه وبين من اقام القضية ضده.

بعدها قام هذا المطلق سراحه بالتقرب الى من ساعد في اطلاق سراحه واقام علاقة مقربة به. وبحكم العلاقة التي تربط الصديقين كون هدا الشخص علاقة بالاثنين حيث كان يلتقي بهما كل نهاية الأسبوع لتناول وجبة عشاء في احدى المطاعم. استمر هذا الحال على مدى عدة سنوات حيث التمس الصديقين من هدا الشخص الكرم والصدق وحسن المعاملة والمحافظة على فرائضه وكما يقول المثل الشعبي ” تمسكن حتى تمكن”.

مصدر الصورة: dreamstime.com

هذا الشخص ينحدر من عائلة مرموقة وميسورة الحال حسن المنظر لبق ومقنع في الكلام ولديه عمله الخاص الناجح. وبحكم عمله الخاص عرض على الصديقين ان يقيما عمل مشترك بينهم وبحكم الثقة التي بناها معهما, وافق احدهما ان يشاركه والاخر اعتذر لعدم توفر السيولة لديه والغلطة الفادحة التي ارتكبها المشارك معه في الشراكة انه لم يوثق هذه الشراكة بعقد بل اكتفى بالثقة العمياء.

مرت عدة سنوات وهو يثني على الأرباح التي تحققت وان راس مال الشركة قد نما وتضاعف اضعاف ما كان عليه. ويبدوا ان راس المال الذي تحقق اغراه واخد يماطل مع شريكة ويبتعد رويدا رويدا سنة بعد سنة وبعد الحاح بإعادة المال لأصحابه ، قرر ان يعيد راس المال فقط وبعد ما يقارب من 20 سنة حيث ان القيمة الحقيقية والفعلية لراس المال الذي اخذه عند الاستلام يساوي اكثر من عشرة اضعاف وقت استرداده بتحويل بنكي.  وتوارى هذا الشخص عن الأنظار واختفى وعمل “بلك” على جميع قنوات الاتصال.  هذا النوع من الأشخاص ينطبق عليه بيت الشعر الدي يقول:

أذا أنت أكرمت الكريم ملكته ‌‌‌‌@@@ واذا أنت أكرمت اللئيم تمرد

والعبرة من هذه القصة، اياك ان تدخل بشراكة مع احد حتى توثقها بعقد وذلك لحفظ الحقوق ولا تفرط بالثقة بأحد كي لا تصاب بمثل ما أصاب هذا الشخص الذي احسن الظن بمثل هؤلاء السراق والنصابين المحترفين. ومثل هؤلاء لابد للعدالة الإلهية أن تأخذ مجراها في الدنيا قبل الاخرة فمثل هذا الشخص تنطبق عليه الصفات الخسيسة من نقض للعهد، الخيانة، اللئم، النصب، السرقة وعدم الأمانة.  

القصة الرابعة والأخيرة مما قرأت:

عاش رسام عجوز في قرية صغيرة وكان يرسم لوحات في غاية الجمال ويبيعها بسعر جيد، وفي يوم من الأيام أتاه فقير من أهل القرية وقال له: أنت تكسب مالا كثيرا من أعمالك، فلماذا لا تساعد الفقراء في القرية؟ انظر للجزار في القرية، فهو لا يملك مالا كثيرا ومع ذلك يوزع في كل يوم قطعا من اللحم المجانية على الفقراء، لم يرد عليه الرسام وابتسم بهدوء.

مصدر الصورة: freepik.com

خرج الفقير منزعجا من عند الرسام وأشاع في القرية بأن الرسام ثري ولكنه بخيل، فنقم عليه أهل القرية هذه الخصلة، وبعد مدة من الزمن مرض الرسام العجوز ولم يعره أحد من أبناء القرية اهتماما ومات وحيدا، مرت الأيام ولاحظ أهل القرية بأن الجزار لم يعد يرسل للفقراء لحما بالمجان، وعندما سألوه عن السبب، قال إن الرسام العجوز هو الذي كان يعطيني كل شهر مبلغا من المال لأرسل اللحم للفقراء، وهو قد مات فتوقف هذا العمل بموته.

خلاصة:

اياك وإساءة الظن بالناس من اول نظرة او التسرع واطلاق الحكم الاستباقي عليهم بمجرد النظر الى الشكل العام من ملبس ومظهر ولون فلربما ترتكب خطا فادحا في حقهم دون علم وتجربة وتمحيص, لذلك علينا ألا نحكم على أحد من ظاهر ما نراه منه، فقد تكون في حياته أمور أخرى لو علمناها لتغير حكمنا عليه.

يقول الحكيم تاسيتوس ” يتأكد الحق بالبحث والتأني، والباطل بالتسرع وعدم اليقين”, فتريث حتى تكتمل الصورة لديك وتأكد ان ما تطلقه من حكم على الاخرين صوابا وليس تخمينا او حدسا ودع الخلق للخالق ولا تطلق الاشاعات لتشويه سمعتهم والإساءة اليهم كما يقول المثل” الرفق يمن والأناة سعادة، فتأنَ في أمر تجد نجاحًا” وفي المقابل اياك بالإفراط بالثقة العمياء في البعض حتى تكون على يقين انهم محل لهدة الثقة. واختتم المقال بهدأ البيت الشعري للشافعي:

” لسانك لا تذكر به عورة امرئ @@@ فكلك عورات وللناس ألسن”

4 تعليقات

  1. عبدالجليل الخليفه

    شكرًا لك على هذا التنبيه المهم و هو التأني في الحكم على الآخرين و عدم التعجل. هذا يحدث في الإدارة ايضا، فقد لا تحين الفرصة لفلان فلا يبرز كفاءاته، هذا لا يعني انه غير كفؤ. فحين تحين له الفرصة يحقق العجب. الف شكر على قلمك الجميل.

  2. الف شكر اخينا ودكتورنا على اطرائاتك الجميلة فانا عرفنك ذالك المدير الانسان الذي يحترم موظفيه ويعطيهم مساحة من التعبير وابداء الراي وتشجعهم فنعم المدير انت ونعم الادارة ادارتك. دامت بركاتك

  3. على السيهاتي

    قرائه ممتعه ذات فائده عاليه
    شكرا لك م صادق على مجهودك الكبير

  4. يكفي اخي العزيز مرورك واطرائك يابو حسن انت جميل بقلبك و خلقك العظيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *