بالقطيفي القديم: چول الضبعة – بقلم عبد الرسول الغريافي*

أبيع طوقي وخوقي والمنبت في النخل؟!
لا.. عجل خلي طوقش وخوقش عندش ينفعوش لاتبيعيهم وقعدي بجوعش وخلي البرد ينهش مصارينش لين تموتي من جوع البرد!

ماحد قال لش تخدعي نفسش وتلعبي على روحش وتقنعيها بمجرد شوفتش (لمنبت فوق النخله) وترجعي بيتكم وانتين خايفه على ذهباتش (طوقش وخوقش) مثل ما انخدع البدوي (الخبل) اللي باع عباته وفي ظنه أن البرد ذهب بلا عوده ولما عاد البرد في شبطه فجأة قتله بسبب شدة برودته وقسوة جفافه!

وللّا تبغي تصيري زي عجوز البادية اللي نصحوها قومها أن البرد في هالفترة خداع وله عوده مره ثانية وترجوها بأن لاتجز صوف خرافها وما طاوعتهم وراحت جزت أصواف كل الخراف والنتيجة كانت موت جميع أغنامها!

ياضبعة القطيف! ترى وقت الچول بعده ماجا، وإذا جاء وانتين على هالحال بيخليش تتضوري من الجوع وانتين على هواش، وينش ووين على “بارح العود” اللي يجيب لش لرطبه لمزويه باقي شوط طويل على موسمها، باقي تنبيت ولفاف وفچاچ وترويس وتحدير.. لكن تبغي تسمعي ويش قالوا اللي جو بعدش من بعد ماكسبوا الخبره من اخبارش؟ اسمعي ويش قالوا:

يا بارح العود… سرّع بالمزوي
چول الضبعة ولى…
ونترقب منك هالمزوي

والبارح العود هو الفترة الأخيرة في موسم مابعد الشتاء والتي تمتد أيامها من ٦ يونيو إلى ١٦ يوليو وهذا هو الموسم اللي علقت عليه الضبعة جل آمالها. والمزوي هو الرطب الذي ضرب فيه البارح العود ونضّجه وجعله جاهزا للأكل ولكن بعد ثلاثة شهور من بعدك ياچول الضبعة.

هنا أروي لكم اسطورة قطيفية أخرى ولكن هذه المرة حول المواسم. تقول هذه الأسطورة أن امرأة كانت وحيدة في بيتها المتواضع قد تقدم بها السن فأصبحت ضبعة (عجوز) بطيئة الحركة قليلة الدخل في الرزق وفي موسم الشتاء القارس اخذ الجوع يقرّص في بطنها بعد أن نفد كل ماعندها من مؤن الشتاء فحدثت نفسها قائلة:

أقوم ابيع طوقي وخوقي
واشتري لي كل اللي ابغاه من الأكل
واستانس بضوقي (بذوقي)
ولا اقعد بجوعي

ومن معاني الطوق هو ما يحيط العنق من الذهب والفضة كما جاء في معجم اللغة المعاصر: “كل مايحيط بشئ كطوق الذهب”، وفي معجم الرائد: (حلي للعنق يحيط به)، وفي المعجم الوسيط: “كل ما أحاط بشيء كطوق الذهب والفضة يحيط بالعنق”، وفي لسان العرب: “الطوق حلي يُجعَل في العنق”، وفي تاج العروس وكذلك المحيط في اللغة: “الطوق حلي يجعل للعنق”.

وأما الخوق فيشمل نوعين من الذهب: حلقات الذهب والقرط الذي تلبسه المرأة كما جاء في معجم الرائد: “الخوق حلقة من الذهب او الفضة. حلقة في الأذن”، وفي المعجم الوسيط: “الخوق القرط وسعه وكذلك الحلقة من الذهب أو الفضة وحلقة في الأذن”، وفي لسان العرب: “الخوق الحلقة من الذهب والفضة وقيل هي حلقة القرط والشَّنف”، وفي تاج العروس: “الحلقة كما في الصحاح زاد في اللسان من الذهب والفضة”، وفي معجم المحيط: “حلقة القرط”.

فهذه الأطواق والأخواق جميعها مسميات للحلي والمجوهرات الذي تقتنيه المرأة وهو بالنسبة لها السر الأكبر الذي يجلب لها الفرحة وينمي في قلبها النشوة والسعادة منذ نعومة أظفارها وحتى قبيل مماتها تحرص عليه لتورثه لأعز الناس حولها وتحزن عليه عندما يذهب من يدها لأنه كما تعبر عنه هذه المراة بأنه زينة وخزينة تزدان به وتتباهى به وقت أفراحها وتسميه عند استعراضه على عودها بأنه الحلي، ولذلك فإن قدماء العرب عبروا عن المرأة التي لاتتزين بالذهب بأنها (حسناء معطال) فهي في نظر المجتمع مهما بلغ جمالها وحسنها الفتان فلن يكتمل هذا الجمال إلا بلبس الذهب والحلي والمجوهرات. وأما عندما تحتاج أو تجوع فإنها تخرجه من خزينتها استعدادا لبيعه لتسد به حاجتها أو رمق جوعها أو ما يلحق بها من نقص مادي فمن المعروف أن قيمة الذهب لاتنزل عن وقت شرائه أبدا لأنه كلما مر الزمن ارتفعت قيمته.

حملت هذه المرأة (الضبعة) ذهبها متجهة به نحو سوق صاغة الذهب وفي طريقها -كما كان معهودا في القطيف- كانت بواسق النخيل عن اليمين وعن الشمال تحجب عنها وصول أشعة الشمس التي من المفترض أن تقوم بتدفئتها عن برد الشتاء القارس للجسم والقارص في المعدة والذي يجعلها تتضور جوعا، فأثناء مشيها إلى السوق لفت انتباهها صوت ضربة الكر في النخلة الذي يستعين به النخلاوي المنبت لتسلق النخلة بسهولة ويسر وأكثر أمان فنظرت للأعلى ولمحت المنبت وهو يتسلق النخلة.

نعم إنه موسم تنبيت النخلة أي تأبيرها أو تلقيحها فهاهو الرجل في أعالي النخلة وفي يده المنجل وما يعرف بالسِّف وهو الطلع الذي يقطع من فَكَرْ الفحال والذي يحتوي على مايعرف محليا بالنبات وهو حبوب الطلع (pollen) الذي يخرج من طلع النخلة الفحال وهو مسحوق أبيض يتطاير من طلعها فيقوم الفلاح (النخلاوي) المنبت بذره فوق براعم عراجين (عذوق) النخلة الأنثى وذلك في بداية تفتق الطلع وخروج العذق من أكمامه المعروفة محليا ب(القروف)،

وهذا الموسم هو موسم خدّاع يوحي بقدوم الدفء وكأنك في بداية أيام الصيف ولكنه سرعان مايعاودنا البرد القارس المعزز برياح قوية باردة وهو الذي خدع هذه “الضبعة” المسكينة وجعلها تتراجع عن قراراتها في بيع “طوقها وخوقها” ثم أخدت تتساءل نفسها مرة أخرى وهي مترددة:

“أبيع طوقي وخوقي ولمنبت في النخل؟” لا بالله مابعته كيف أبيع شوقي وطوقي وموعد الرطب قريب، والشتا ولى وراح. فاتخذت قرارها سريعا في الرجوع إلى بيتها ففاجأها بعد ذلك رجوع البرد القارس وقضها جوع البرد فماتت رحمها الله، وبهذا سموه “چول الضبعة”.

فما هو الچول وماهي الضبعة؟
(الچول) بلهجة أهالي القطيف هو من أصل عربي (الجَوْل) فمن المعروف في بعض لهجات القطيف أن حرف الكاف وكذلك حرف الجيم أحيانا يقلب إلى الچيم الثقيلة (ch)، أي أن الجول يصبح چول. والجَوْل أصلاً في اللغة كما ورد في المعجم الغني والمعجم الوسيط هو جول الريح “ماتجول به الريح على وجه الأرض من تراب وغيره”، ويذكر معجم لسان العرب بأن الجول والجولان والجيلان هو التراب والحصى الذي تجول به الريح على وجه الأرض، فيقال يوم جولاني وجيلاني أي كثير التراب، وأما معجم تاج العروس فإنه يرى الجول والجولان هو التراب تجول به الريح على الأرض.

وأما الضبعة بلهجة أهالي القطيف -كما أشرت- فمعناه المرأة المسنة أو العجوز، وأما مُذَكَّر (الضبعة) بالقطيفي فهو (الشايب) كما في جميع اللهجات السعودية والخليجية وليس (أضبع) كما يطلقونه عليه أبناء الجيل الحديث، وفي هذا السياق اذكر على سبيل الإستدلال الفلكلور المحلي الذي كان يردده أبناء الأجيال السابقة على لسان الشايب والضبعة وذلك عندما يشتد البرد فإنهم ينشدونه قائلين:

اتحموا ياولادي وباچر حطبوا
أمكم ضبعه وابوكم شايبو

فالضبعة هي المرأة العجوز المسنة والچول -كما سبق تعريفه- هو الجول ومعناه ماتجول به الريح على وجه الأرض من تراب وغيره فهو من أشد أنواع البرد وهذا يعادل في التسمية الخليجية برد العجوز.
يغلب على البيئة القطيفية طابعين يجعلها متميزة عن كثير من مناطق الخليج وهو الطابع الزراعي النخلاوي والطابع البحري بالإضافة إلى وجود كثرة عيون السيح العريقة، فأهل الزراعة والفلاحة يطلقون على هذ الموسم: موسم چول الضبعة والذي يقع في فترة الخمسينية الثانية من الشتاء (وهي التي تبدأ من ٣٠ يناير وتستمر حتى ٢٢ مارس حيث بدء الإعتدال الربيعي).

وأما دور أهل البحر في القطيف من نواخذية وبحارة وصيادين وغواصين لؤلؤ من حيث التسميات فيأتي مسبقا عند المربعانية أي الأربعين يوما الأولى من الشتاء (البادئة من ٢١ ديسمبر إلى ٣١ يناير) وفيه يقع ذلك البرد المسمى ضربة چار وچار وهذا اللفظ يدل على رقم وهو من أصل مسمى هندي وفارسي والذي يعني بالعربي: أربع وأربع، كما أن هذا المصطلح نفسه معروف ومتداول في بعض مناطق الخليج حيث يكتفي بحارتهم بتسميته (چار وچار) بدون كلمة (ضربة)، ولايفوتني هنا أن أذكر أن القطيفيون وبعض أهالي الخليج يستعملون هذا المركب الإصطلاحي في الأمثال الشعبية؛ فعندما يصر شخص على استمراره في لبس الملابس الثقيلة حتى بعد خروج موسم البرد ويبدأ الاعتدال الربيعي -مثلا- فإنهم ينتقدونه في لبسه بقولهم له (كأنك في ضربة چار وچار).

وأما سر تسميتها بالطريقة التقسيمية إلى قسمين (أربعة وأربعة) بدلا من قولهم ثمانية أيام فذلك لأن الأربعة الأيام الأولى هي من آخر أيام السبعين يوم الأولى للبرد وأما الأربعة الأيام الأخرى فهي من أول أيام الثمانين يوم الأخيرة منه. وقبل الدخول في موسم ضربة چار وچار فإنه يسبقها برد جويريد الذي يجرد الشجرة من أوراقها والذي يطلقون عليه القطيفيون وبعض مناطق الخليج المجاورة مسمى (المحسرات أو لِمْحِسرات) وكل ذلك خلال المرابعين الممتد من ٢١ ديسمبر في نهاية السنة إلى ٣٠ يناير في العام الجديد.

ولذكر المسمى القطيفي (المحسر أو لِمْحِسرات) أود هنا أن أشير إلى ثلاثة تأثيرات للحالات الجوية على الأشجار والنباتات وكذلك على الأبدان البشرية والحيوانات خلال ثلاث فترات تبدأ من نهاية الخريف وخلال الشتاء وبداية الربيع، ولهذه التأثيرات الثلاثة توجد ثلاثة مسميات قطيفية هي:
المحسرات أو لِمْحِسرات والمضرات والمدرزات (لمنبتات)، وعلينا أن نتصرف تصرفاً حكيما حيالها وأن نتبع النصيحة الحكيمة الواردة في نهج البلأغة القائلة:

“توقوا البرد في أوله وتلقوه في آخره فإنه يفعل في الأبدان كفعله في الأشجار أوله يحرق وآخره يورق”.

ففي الخريف تسقط الأوراق من الشجر فهو موسم (لمحسرات) وكذلك الأبدان يصيبها الوهن والأمراض إن لم تتقيه.
الغريب في أمر رجوع هذا البرد (بمختلفت مسمياته) أنه قصة منسية بين الناس جميعا فسرعان ما ينسون أمره في كل عام رغم السنين التي تمر بهم وبنفس التجربة والتي من المفترض أن تكسبهم الخبرة والمعرفة برجوعه إلا أن الكثير من الناس ينكرون رجوعه وينسونه والسبب في ذلك هو أنه بعد إعتدال الجو بل وتحوله الى مايشبه الصيف الحار وخصوصا في مناطق الخليج وإذا به يعود بشكل مفاجئ.
ومن مسمياته في البادية أيضا وعند الكثير من المجتمعات السعودية والخليجية هو (الخبل بياع عباته!) فكل هذه المسميات لها رمزية ودلالة على خداع تقلبات الجو التي ينساها الناس وكأنهم لم يعيشوا سنين مضت مثلها، فهذه الظاهرة تتجسد أيضا في قصة الأعرابي الذي شعر بدفء الجو وحرارته ومن حماقته (خبله) بادر في بيع عباءته بأبخس الأثمان فلما رجع البرد مات من شدته.

ومن مسمياته القطيفية أيضا هو (برد الورد) ففي موسمه تفوح رائحة الورد فعندما يعبر أحدنا في وسط طرقات ضيقة تحدق بها بعض بساتين القطيف يمينا وشمالا وهي مكتنفة جداول مياهها على الجانبين فإنه يبهج القلب عبقها ويسر الخاطر منظرها، وترى نساء الفلاحين يشككن براعم الورد في خيوط فطنية او في خوص النخيل ليشكلن باقات (ربطات/شكَّات) براعم الورد وأحيانا ينضدنه على شكل قلائد ليبعنه عند حواف الأسواق وقارعات الطرقات، لذا فأهالي القطيف يميزون هذا الموسم بمنحه وسام يسمى برد الورد والمستمر حتى يوم ١٠ مارس.

ومن مسمياته أيضاً موسم الشبط عند عامة المجتمع العربي وقد سمي بهذا الإسم لأنه يقع في نهايات شهر شباط. ومن الأساطير التي تحاك حول شأن هذا البرد هو قول القدماء أن شباط هو حفيد المرابعين والمولود في الخماسين والتي كانت دائما تنصحه بالتورع وأن لايكون مضرا ولا قاسيا على الناس ولكنه دائما يعاندها فيقوم بأفعال معاكسة لما توصي به الجدة له فيثور برياحه شدة برده ليضرب به من لايتقيه.

يجدر بنا هنا أن نذكر مايقوم به الإختصاصيون من تقسيمات لفصل الشتاء فهم يقسمونه إلى قسمين رئيسيين وكل قسم مصنف إلى اقسام أخرى وهذان القسمان هما: الأربعينية وهي ماتعرف عند أهالي الخليج والمملكة عامة بالمرابعين والتي يبدأ مشوارها من ٢١ ديسمبر (آخر شهر في العام الميلادي) إلى ٣٠ يناير (نهاية أول شهر في السنة الجديدة) فقوامها ٤٠ يوما تقريبا لذا سميت بالمرابعين.

أما القسم الثاني منه فهو المسمى بالخمسينية والتي تبدأ من (31 يناير- اول السنة) إلى (٢١ مارس) أي أن أيامها خمسون يوما تقريبا ومن ثم يتخللهما تقسيمات أخرى.

يلاحظ أن هناك توازن في موجتي البرد -الأولي والثانية- وكأن كلأ منهما في إحدى كفتيي ميزان متعادلتين تقريبا؛ الكفة الأولى وهي كفة چار وچار أو الأزيرق المشار إليه سابقا وهي الأيام المضرة والتي يجب علينا أن نتقيها.
وأما الكفة الثانية فهي كفة برد العجوز أو چول الضبعة أو برد الورد أو الخبل بياع عباته والتي نُصِحنا بأن “نتلقاها في آخره” وهي التي تليها الأيام المورقة للأشجار والمصحة للأبدان والتي يطلق عليها المجتمع القطيفي مسمى (المدرزات) ولكنها ترجع باردة وهي نفسها الأيام المعروفة بالحسوم ولعلها نفس الأيام التي عاقب بها الله عز وجل قوم عاد فقد ذكر نفس الإسم ونفس عدد الأيام (ثمانية أيام حسوما) وذلك في آيات بينات من سورة الحاقة بقوله عز وجل:

﴿ وَأَمَّا عَادࣱ فَأُهۡلِكُوا۟ بِرِیحࣲ صَرۡصَرٍ عَاتِیَةࣲ ۝٦ سَخَّرَهَا عَلَیۡهِمۡ سَبۡعَ لَیَالࣲ وَثَمَـٰنِیَةَ أَیَّامٍ حُسُومࣰاۖ فَتَرَى ٱلۡقَوۡمَ فِیهَا صَرۡعَىٰ كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٍ خَاوِیَةࣲ ۝٧ فَهَلۡ تَرَىٰ لَهُم مِّنۢ بَاقِیَةࣲ ۝٨﴾ [الحاقة ٥-٨].

وهذا البرد -كما أشرت- يأتي بعد أن يدفأ الجو فيطمئن الناس ويأمنوا مكره وينسون أيامه ولكنه سرعان مايعود في أشده، فهو برد حاسم وفاصل فالحسوم -كما يُعَرِّفها العرب- هي أيام الشؤم والشدة ومنها الحسم أي البت في الأمر ووضع الحد له، فهي أيام شديدة البرد ولكن رغم شدة بردها فهي غير مضرة فعلينا أن نترقب أيامها ونتلقاها بكل راحة بال. البعض من العرب يفسر الحسوم بأنه الحسم أي الفصل بين موسم البرد وبين موسم الدفء فالحسم هو القطع والفصل.

بعد خروج شهر مارس يُوَدَّع الشبط وتنتهي أيام الحسوم ويخرج موسم چول الضبعة والخبل بياع عباته وبرد العجوز لتأتي أيام الربيع فيبدأ مايسمى بالإعتدال الربيعي في ٢٢ مارس وتعرف هذه الأيام عند أهالي الخليج بخروج النيروز أو النوروز وكلمة نيروز بالفارسية تعني يوم جديد والصفة هنا سبقت الموصوف لكون تصنيف الفارسية أحيانا من اللغات الهندو اوروبية (Indo-European language) أي أن كلمة “نو” أو “ني” تعني جديد وكلمة “روز” تعني يوم وهو أول أيام السنة الشمسية بحساب الفرس ولكنها كلمة مستعملة في اللغة العربية بل إنها مذكورة في أغلب المعاجم العربية كمعجم اللغة العربية المعاصر ومعجم الغني ومعجم الرائد والمعجم الوسيط ومعجم لغة الفقهاء وغيرها،

كما وقد ذُكِرَت هذه اللفظة في كثير من الأدب العربي القديم فها هو الشاعر البحتري وهو من شعراء العصر العباسي يصف الربيع ويذكر فيه لفظ النيروز حين قال:

أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكًا مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَلَّما
وَقَد نَبَّهَ النَوروزُ في غَلَسِ الدُجى أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُوَّما.

فقدوم أيام النيروز يعتبر مؤشرا لانتهاء فصل الشتاء ودخول فصل الربيع. وهنا أود ان أشير إلى إسهام دور الفلكلور القطيفي وخصوصا عند الأطفال وذلك بعد أنتهاء موسم چول الضبعة فإنك ترى زرافات زرافات من الصبية والشبان ينتشرون في أنحاء القطيف سعيا للتوجه نحو عيون السيح والأرتوازية المتناثرة والمتوزعة في أنحاء واحة القطيف الغناء بين مدنها وقراها استعدادا للسباحة في كل عين فيرمزون لها برمز (من كل كرُّوز) حين يرددون الفلكلور القطيفي القديم الذي كاد أن ينسى ذكره بعد مرور ردح من الزمان والذي عادة مايصحبه التصفيق حين يتغنون به قائلين:

طلع النيروز في ده روز
واتسبح ياولد من كل كَرُّوز

وكلِمَتَيّ (ده روز): تعني عشرة أيام أو عقد أو مجموعة من الأيام وهي أيام بداية الربيع التي يُحْتَفل فيها.
فالكَرُّوز باللهجة القطيفية والذي استخدموه في هذا الفلكلور أو الإرجوزه كرمز للعيون حين يقولون (واتسبح ياولد من كل كرُّوز) انما يقصدون به تسبح في كل عين تصادفها في طريقك مع أن الكرُّوز أيضا وعاء له علاقة بالماء والأرض والإستحمام فا لكرُّوز لفظة مُحَرَّفة لإسم الكرَّاز المعروف اسمه وصناعته والمتداول استعماله في القطيف،

ولعل التحريف هنا جاء لكي تتوافق اللفظة مع توازن الأرجوزة، فالكرَّاز لفظة من أصل عربي كما جاء تعريفها في بعض المعاجم العربية كمعجم الرائد الذي يُعَرِّف الكراز بأنه جمع كراريز و كرزان وهو كوز ضيق الرأس ويُعَرِّفُها المعجم الوسيط بأنها القاروره وجمع كراز كرزان.

إن تعريف الكراز بالقطيفي أيضا هو كوز أو إبريق من الفخار ولكن ذِكْرُه في هذه الأرجوزة ماهو إلا تعبيرا عن أن برد الشتاء قد ولى وأعقبه الربيع الطلق الذي لاتضر مياهه جسم الإنسان حين ينغمس فيها حتى مع انخفاض برودتها عندما يسبح أو يستحم في تلك العيون المكشوفة فهم يعبرون أيضاً عن ثقتهم المطلقة في عدم مضرة برودة الماء في هذا الموسم كما تستعمل رمزيته كأداة قياسية زمنية يعلن بها عن الإنتقال من موسم لآخر فيطمئنونك ويؤكدون لك بأن تسكب على بدنك ماء كل كرَّاز مررت به وأن تتسبح به (أي تستحم) ولاتخف من الإصابة بأي مرض شتوي مهما كانت درجة برودة الماء منخفضة،

كما أن ذكر الكراز في هذا الفلكلور أيضا يبين لنا مدى برودة الماء وذلك لأنه من المعروف أن الأواني الفخارية تقوم بتبريد الماء وتخفض من درجة حرارته.
هذا الموسم الربيعي الذي دخلت فيه أيام النوروز أو النيروز أيضا هي امتداد موسم المدرزات الذي فيه تورق الأشجار وتنمو ويزهر غالبيتها وتعرف محليا بأيام المدرزات -كماسبق ذكره.

تلك هي الأساطير والحكايات الشعبية العريقة التي ينسجها قدماء الشعوب في المجتمعات العريقة من أجل توضيح وتسهيل معرفة الظواهر الطبيعية وكذلك لترسيخها في الذاكرة وأيضا لتوثيق أحداثها وتاريخها وتفاصيلها وتطبيقاتها فهي بهذه الطريقة مقبولة ليتناقلها الأجيال بسهولة وخصوصا إذا ماصيغت في قوالب الفلكلورات الشعبية التي تجعلها ذات طابع ارتساخي في الذهن.

وقد استعملوا أيضا أساليب الرمزية للدلالة على حقائق واقعية كتعيين موسم جز صوف الخراف وماله من تأثير إذا ما سبق أوانه وكذاك ربط تحديد أوان تنبيت النخلة (تأبيرها) بهذا الموسم بالإضافة لتنبيه الناس لما ينبغي عليهم من التأهبات والأستعدادات لعودة البرد المفاجئ وإعداد الملابس الثقيلة اللازمة الواقية في المواسم المتقلبة وكذلك رمزية العجوز الدالة على عجز موسم البرد وتوديعه وكذلك لما للبرد من تأثير على أجسام كبار السن أكثر من غيرهم، فكلها رموز توضيحية لترسيخها في أذهان الناس ومعرفتها من أجل الإستعداد.

وقد اشتهر قدماء العرب باتباع هذه الأساليب في مختلفة مجالات الظواهر الطبيعية فهم يطلقون العنان لمخيلاتهم لتسهيل تفسير هذه الظواهر كوصفهم لمسميات أشكال مجموعات النجوم ومواقعها وعلاقتها بالمواسم وكذلك لتقسيم الأبراج ولوصف الأحوال الجوية في صور أساطير وحكايات وأشعار وأمثال وفلكلورات تشد الإنتباه لها.

*الأستاذ عبد الرسول الغريافي باحث في التراث ومؤرخ.

4 تعليقات

  1. بسم الله ماشاء الله
    رائع وممتاز وجميل تميزت بالسرد والحكي واسهبت فيها مما جعل ما كتبته سهل وممتنع ورجوعك للمعاجم خير شاهد لقدراتك الفكرية وتمنك من اللغة الجمل قصيرة والعبارات بسيطة أعطت رونق جميل لحديثك
    اكمل حواراتك وعش مع الماضي تكسب وتفيد شباب اليوم فهم في حاجة لمن يمدهم بالماضي العريق
    أحسنت وبارك الله خطواتك.

  2. السيد هاشم بن السيد محمد الماجد النجار

    جميل و ممتع الله يجمل حالك استاذنا الكبير ويمتعها منك بالمزيد من كتاباتك الفئة

  3. موضوع جميل من استاذ أجمل. كم هي جميلة لغتنا ومصطلحاتنا القطيفية، تنقلك إلى الماضي الأروع من طبيعة غناء وينابيع صافية وقلوب طيبة. حفظ الله بنانك وزادك إبداعا وعطاء.

اترك رداً على سيد أحمد عباس إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *