كارل بوبر والموقف الوجودي والمعرفي من النظرية الكمية – د. جاسم حسن العلوي

لم يحدث على مدى التاريخ العلمي أن أحدثت نظرية علمية جدلا علميا وفلسفيا ظل مستمرا وبكل حيوية مثل ما أحدثته النظرية الكمية في الفيزياء وذلك منذ ولادتها مع بداية القرن العشرين والى يومنا هذا. كما أنه لم يحدث أن انقسم العلماء في تفسيرهم لنظرية علمية مثل ما انقسموا حول هذه النظرية المتجددة والحاضرة في الوعي العلمي والفلسفي بكل ذلك الزخم والعنفوان والضجيج الذي أحدثته يوم أن ولدت. ولعل القارئ الكريم يتساءل عن سبب هذا الإنقسام والجدل، إن سببه يعود إلى أن هذه النظرية أعادت بعث التساؤلات الفلسفية الكبرى حول حقيقة العالم الخارجي وواقعيته في سلم الوجود وعن العلاقة بين الإدراك والواقع الخارجي وعما إذا كان بالإمكان معرفة العالم كما هو بدون أن يؤثر وعينا وإدراكنا له على حقيقته كما هي في الخارج وعما إذا كان هناك حدود لمعرفتنا بهذا العالم متصلة بمحدودية حواسنا وأجهزتنا التي تعمل كمجسات أو مستقبلات للظواهر الكونية. هذه التساؤلات المصيرية والإنسانية الكبرى والمتجذرة في أعماق الإنسان الباحثة عن معنى لهذه الحياة قد وقف أمامها الفلاسفة والحكماء المتألهون منذ أن بدأ الإنسان يعي وجوده ويحاول أن يدرك علاقته بالأشياء من حوله. لم يأخذ هذا الإنقسام الطابع الفلسفي بل هو أيضا متأصل في البناء العلمي لهذه النظرية. فلا أحد من علماء الفيزياء يزعم أنه يفهم المنطق الرياضي الذي قامت عليه هذه النظرية، كل ما يمكن أن يقوله الفيزيائيون أن هذا البناء الرياضي الذي طابعه إحصائي واحتمالي والذي تبنته النظرية الكمية يستطيع أن ينتج لنا أرقاما مشابهة لما تنتجه التجارب العلمية وليس غير ذلك. يعني أن هذا البناء الرياضي غير المفهوم هو كما يشبهه البعض بالآلة التي تنتج لنا الأرقام المطلوبة والمتوافقة مع نتائج التجارب. هذا ما دعا فيزيائيين كبار مثل أينشتاين إلى إعتبار أن هذه النظرية غير مكتملة لأنها تتضمن عوامل خفية لا نعلمها. لقد خضعت هذه النظرية ضمن الوسط العلمي لعدة تفسيرات شكلت عددا من المدارس ولكن أهم مدرستين واللتين تعبران عن عميق هذا التصدع هما المدرسة الواقعية يقودها الفيزيائي الكبير ألبرت أينشتاين ومدرسة كوبنهاغن وعلى رأسها الفيزيائيان بور وهايزنبرغ.

كارل بوبر الفيلسوف النمساوي كان معاصرا لكل التطورات التي حدثت لهذه النظرية وما رافقها من جدل علمي وفلسفي. وكارل بوبر يمثل استمرارا للعقلانية النقدية التي ابتدأت مع كانت في الفلسفة الغربية. ويقف كارل بوبر إزاء المعطيات العلمية لهذه النظرية والتفسيرات التي طالت أبعادا أنطولوجية (وجودية) وإبيستمولوجية (معرفية) موقف المعارض لمدرسة كوبنهاغن. وسنحاول في هذه المقالة أن نتعرف ولو بشكل موجز على الموقف الوجودي والمعرفي لـكارل بوبر من هذه النظرية.

يرى كارل بوبر أن الأزمة الوجودية والمعرفية النابعة من فهم هذه النظرية تكمن في عنصرين رئيسيين هما عنصر الذاتية في الفيزياء وانتصار فكرة أن النظرية كاملة وأنها تشكل الحقيقة النهائية ولذلك يطلق كارل بوبر على النظرية الكمية بوصفها، كما تعبر بذلك مدرسة كوبنهاغن، حقيقة مكتملة ونهائية “فرضية آخر الطريق.”

ورغم أن أينشتاين قبل بالنظرية الكمية لكن ظل إلى آخر لحظات حياته رافضا لفكرة أنها مكتملة ونهائية وكل الجدل الذي دار بين بور و أينشتاين كان يتمركز حول صحة أو خطأ هذه الأطروحة. وينظر بوبر إلى فرضية نهاية الطريق على أنها تثير الغضب لأنها تعني أن الفيزياء قد وصلت الى نهاية الطريق وأنه لا يوجد ثورة أخرى تقدمها لنا الفيزياء في المستقبل.

ويتمثل الموقف النقدي لـكارل بوبر إزاء التفسير الذي قدمته مدرسة كوبنهاغن في دفاعه عن واقعية العالم الخارجي، فهو أي الواقع الخارجي يشكل حقيقة موضوعية قائمة خارج ذواتنا المدركة وسيبقى هذا العالم قائما بموضوعيته حتى عندما نرحل عنه. ذلك أن مدرسة كوبنهاغن قد أفصحت عن واقعية جديدة يشكلها الوعي مع الواقع الخارجي ومما أوحى لهذه المدرسة في اعتبار الوعي جزءا مكونا لموضوعية وواقعية هذا العالم الذري وما دون الذري هو أن بعض التجارب قد أكدت أن المراقب الواعي لهذا العالم الصغير يؤثر في نتائج التجربة بحيث يصبح جزءا من هذه الواقعية. وليس الأمر كما يقوله صدر المتألهين باتحاد العاقل والمعقول بل هو درجة من سلم الوجود يتداخل فيها الوعي والعالم الصغير – الذري وما دون الذري- في واقعية واحدة. وإذا استعرنا من الحكمة المتعالية عبارة الوجود المشكك فإن هذا يعني أن العالم يتشكل من طيف من الواقعيات المتعددة. فهناك واقعية صلبة كالعالم الذي نراه وندركه بحواسنا ليس للمراقب الواعي ولا لأدوات القياس أدنى تأثير في واقعيته الموضوعية بينما عندما نتحرك في هذا الطيف إلى العالم الصغير – المايكروسكوبي – فإننا نواجه درجة من الواقعية مختلفة.

ويرى كارل بوبر فيما يتعلق بالجانب الوجودي للعالم أن النظرة التي ترى أن الحقائق العلمية هي حصيلة ما نشاهده وأن تصوراتنا وخبرتنا الحسية هي أكثر واقعية من العالم الخارجي قد أدت إلى التفسير الذاتي والمثالي للوجود. كما أن صعود نظرية الإحتمالات في الفيزياء والتي كانت على الدوام مرتبطة بعدم إحاطتنا الكلية بالموضوع أضحت مع الفيزياء الذرية تعبر عن واقعية قائمة بذاتها على الإحتمال والإحصاء وقد ساهمت في تعزيز التفسير الذاتي – المثالي للوجود. إن كارل بوبر يرفض بشدة هذا الفهم الذي يربط الإحتمالات على أساس القصور المعرفي وهو بهذا يوجه نقده إلى كلتي المدرستين، أقصد مدرسة كوبنهاغن والمدرسة الواقعية.

ويقدم كارل بوبر مناقشته في موقفه النقدي من تفسير مدرسة كوبنهاغن مدافعا عن واقعية العالم الفيزيائي باعتبار أن هذا العالم يمتلك واقعية واحدة بمختلف درجاته على أساس عقلاني وأخلاقي وشخصي كما سيتضح في هذه المقالة. وقبل أن أقدم رؤية كارل بوبر عن النظرية الكمية سأبدأ بذكر شيء عن لقاءاته مع رموز هاتين المدرستين لأنه وكما يرى بوبر أن التفسير الذي قدماه للنظرية الكمية له علاقة في جزء منه بالجانب الشخصي والأخلاقي لهؤلاء الرموز.

لقاءات بوبر مع رموز مدرسة كوبنهاغن

التقى بوبر بهايزنبرغ في العام 1935 عندما قدم هايزنبرغ إلى فينا وكان هايزنبرغ في ذلك الوقت يرى أن النظرية الكمية لن تتطور أكثر مما هي عليه برغم الأبحاث الجارية حول أنوية الذرات. وكان هايزنبرغ يرى أن حدود معرفتنا بالعالم الكمي الذي كشفت عنه نظريته المعروفة بمبدأ اللاتحديد سوف تكون في النظرية النووية أشد منها في النظرية الذرية.  لكن التطورات اللاحقة التي حصلت في ذلك الوقت من اكتشاف النيوترون والبوزترون أثبتت أن فرضية نهاية الطريق، كما يسميها بوبر والتي رسمت حدودا لما يمكن أن نعرف به هذا العالم الصغير غير صحيحة.

يذكرنا بوبر في المقابل بالجانب الشخصي والأخلاقي لأينشتاين الذي لم يعتبر نظرياته في الفيزياء نهائية بل على العكس تماما كان ينظر نظرة نقدية حادة لكل نظرياته. فلم يكن أينشتاين على سبيل المثال راضيا عن نظريته النسبية الخاصة لعدة أسباب منها أنه استبدل مفهوم المكان المطلق بالمرجعيات المتحركة بسرعة ثابته. كما أنه وصف نظريته النسبية العامة بأنها مرحلية وقد حاول حتى نهاية حياته أن يستبدلها. ولكن المسألة كانت مختلفة مع بور وهايزنبرغ، والتقييم هنا لكارل بوبر، فقد تركت نظرية هايزنبرغ أثرا عميقا عليه وعلى سلوكه جعلته يشعر بأنها الحقيقة النهائية وجعلته كذلك يلوم الآخرين على عدم رؤيتهم ما يراه من أن النظرية نهائية. وينقل بوبر موقفا آخر لهايزنبرغ يذكره صديق مقرب منه ومعاون له فون ويزازكر في كتابه أن هايزنبرغ كان يرى الموقف النقدي لأينشتاين من النظرية على أنه مؤشر على أنه إنسان تقليدي ورجعي وفقد الصلة بالنظرية الكمية. ويعتقد بوبر أن هايزنبرغ قد أخذ جيلا من الفيزيائيين ليقبلوا أن الواقعية الموضوعية في العالم الكمي قد تبخرت.

كما التقى بوبر بور في العام 1936 وقد وصفه بأنه شخص رائع ويعتقد بوبر أن شخصية بور كانت مختلفة عن هايزنبرغ فقد كان واقعيا في نظرته للعالم لكن النظرية الكمية كانت بالنسبة له لغزا. فقد واجه صعوبات عندما أراد وضع نموذجه الذري في عام 1913 ولم يستطع أن يتغلب على هذه الصعوبات مما جعله في نهاية المطاف يعتقد أن النظرية الكمية ليست وصفا للواقع.

كارل بوبر ومبدأ اللاتحديد لهايزنبرغ

في الفيزياء الكلاسيكية أي جسم متحرك له موقع محدد وسرعة محددة (كمية حركة أو زخم محدد) ويمكن لنا أن نحدد على نحو الدقة موقع هذا الجسم وسرعته في نفس الوقت. لكن نظرا لصغر العالم الكمي فلم يعد بالإمكان أن نقيس موقع جسيم متحرك وسرعته في نفس الوقت. ذلك لأن أدوات القياس تحدث اضطرابا في حركة الجسيم يصعب معها التحديد الدقيق لموقعه وسرعته في ذات اللحظة. فإما أن نقيس موقعه بدقة متناهية أو أن نقيس سرعته بدقة متناهية ولا يمكن لنا أن نجمع بين الأمرين في نفس اللحظة، وهذا ما يعرف بمبدأ اللاتحديد لهايزنبرغ ووصفها الرياضي يعطى بالمعادلة التالية:

وهذه المعادلة تبين أن حاصل ضرب القيم غير المحددة لكمية الحركة والموقع في اتجاه المحور السيني لا يمكن أن يكون أصغر من ثابت بلانك مقسوما على π2 ودلالة هذه المعادلة أنه كلما صغرنا مدى القيم لكمية الحركة فإن مدى قيم الموقع تكبر والعكس صحيح. يعني وعليه فكلما حاولنا تحديد أحدهما فإننا نخسر القدرة على تحديد الآخر. ولا يوجد غرابة في هذه المعادلة فهذه المعادلة، والقول هنا لـكارل بوبر، تتشابه مع نظائرها في النظرية الموجية ويمكننا أن نشتقها إذا طبقنا النظرية الموجية للضوء على حالة مشابهة. فإذا تصورنا أن شعاعا ضوئيا يتحرك في الإتجاه السيني ويسقط على شاشة بها فتحة ضيقة فإن هذا الضوء بعد مروره من الفتحة سوف يتشتت باتجاه المحور الصادي. وكلما كانت الفتحة ضيقة أكثر زاد هذا التشتت باتجاه المحور الصادي. ويمكن الحصول على نتائج مشابهة إذا طبقنا المعادلة الموجية لشرودينغر لشعاع من الإلكترونات. ولذلك اقترح كارل بوبر في العام 1934 أن يستبدل مسمى مبدأ اللاتحديد لهايزنبرغ بـ “علاقة التشتت”.

ولكن الإشكالية تبدأ عندما قدمت مدرسة كوبنهاغن تفسيرا خاصا لهذا المبدأ يتجاوز معضلة القياس لينفي موضوعية هذا العالم الكمي. فهذا العالم بحسب مدرسة كوبنهاغن يفتقد الخصائص الموضوعية التي في العادة تمتلكها الأجسام في الواقع الكبير، العالم المايكروسكوبي، كالموقع والسرعة المحددتين قبل عملية القياس. وعند القياس فقط تتشكل واقعية العالم الكمي الموضوعية بسبب أن الموجة المرافقة للجسيم تنهار لتعطي قيمة محددة لموقعه أو سرعته. في البداية حاول هايزنبرغ أن يشرح اللاتحديد على أنه معضلة القياس حيث أن أدوات القياس تتداخل مع الجسيم وهذا يعني أنه قبل القياس فإن الجسيم له موقع محدد وكذلك له سرعه محددة ولكن بسبب التداخل أو الإضطراب الذي تحدثه أدوات القياس فإننا لا نستطيع قياس كليهما بالدقة نفسها. ولكن هذا التفسير الواضح لمعضلة القياس تغير إلى نفي واقعية العالم الكمي وذلك بنفي كامل لكل الخصائص التي يمتلكها الجسم المتحرك. وحدث هذا التغيير من فهم مبدأ اللاتحديد أو كما يسميها بوبر بعلاقة التشتت بعد أن إقترح شرودينغر أنه يمكن أن نمثل الجسيم بموجة.

ثم جاءت التجربة الإفتراضية لأينشتاين وبودلوسكي وروزن والمعروفة بتجربة EPR  عام 1935 باتجاه، والتحليل هنا لـبوبر، أولا إثبات أن الجسيم لدية قيم محددة من السرعة والموقع في نفس الوقت. وثانيا لنفي أن قياس موقع جسيم لابد أن يتداخل ويؤثر على كمية حركته والعكس صحيح. وهذه التجربة تفترض أنه لو كان هناك نظام مكون من جسيمين (أ) و (ب) يمكن وصفه باستخدام معادلة شرودينغر بحيث أن الجسيمان يتصادمان بحيث يحدث بينهما ارتباط يسمى بالتشابك (Entanglement) وبعد الإصطدام يذهب (أ) في اتجاه ويذهب (ب) في الإتجاه المعاكس. فإذا قمنا بقياس موقع الجسيم (أ) فإننا سنعرف موقع الجسيم الآخر (ب) دون الحاجة لقياسه. وكذلك لو قمنا بقياس كمية حركة الجسيم (أ) فإننا سنعرف كمية حركة الجسيم (ب) دون الحاجة لقياسها.  والإفتراض الأساسي لهذه التجربة أنه يمكن التنبؤ بموقع وكمية حركة (ب) بدون أن تتداخل أدوات القياس معه وذلك عند قيامنا بقياس (أ). ولنفي أي تأثير يمكن أن يحدثه قياس (أ) على (ب) تفترض التجربة أن يكون (ب) قد ذهب بعيدا جدا في الإتجاه الآخر. والتجربة تفترض وكما هو الحال في الفيزياء الكلاسيكية أنه لا يوجد تأثير من بعد وهذا يعرف “بمبدأ المحلية” (Locality). وبحسب هذا المبدأ فإن الأجسام يكون لها استقلالية إذا كانت منفصلة عن بعضها وغير متفاعلة. فالجسيم (ب) له حقيقة واقعية مستقلة بغض النظر عن عملية القياس ولذلك فإن له قيم محددة من الموقع وكمية الحركة حتى ولوكنا غير قادرين على أن نعرفهما في نفس الوقت.

يعتقد بوبر أن هذه التجربة أثارت سؤالين أحدهما إذا كان مبدأ اللاتحديد يمكن توجيهه بنحو يحفظ موضوعية العالم الكمي ويضع إشكالية التحديد في إطار التداخل بين أدوات القياس والجسيم؟ والسؤال الآخر يضع مبدأ المحلية على المحك، هل هناك تأثير من بُعد، هل قياسنا للجسيم (أ) يؤثر على الجسيم (ب) الذي يفصله عن (أ) مسافات كبيرة جدا في نفس لحظة القياس؟

ويرى بوبر أن أينشتاين قد قدم حجة بسيطة ضد تفسير كوبنهاغن. فإذا كانت النظرية الكمية صحيحة ومكتملة كما فسرها بور وهايزنبرغ فلا بد أن يوجد هذا التأثير من بعد. بل إن سؤال “المحلية” ليس فقط يضع تصور كوبنهاغن للنظرية الكمية على المحك بل هو أيضا يضع على المحك تفسير أينشتاين للنظرية النسبية ذلك لأن النظرية النسبية تفترض مبدأ المحلية.

قدم ديفيد بوم نسخة جديدة لتجربة EPR وأستبدل قياس الموقع وكمية الحركة بقياس الدوران. ومن وجهة نظر بوبر فإن هذه الصياغة الجديدة للتجربة تختلف كليا عن نسختها الأصلية ذلك لأن الدوران يحتاج إلى إعداد الحالة الكمية بطريقة اختيارية كما لو أننا قمنا مثلا باختيار حالة الجسيم عن طريق استقطابه. كما أن الدوران في النظرية الكمية لا يأخذ ذات المعنى الكلاسيكي للدوران. وبهذا ينظر بوبر على أن الصياغة الجديدة ممكن أن تسقط مبدأ المحلية.

يعترف بوبر بأن التجارب جاءت لصالح التفسير الذي قدمته مدرسة كوبنهاغن. ورغم أن بوبر سجل ملاحظاته على النسخة الجديدة من هذه التجربة إلا أن بوبر يرى أنه حتى لو سقط مبدأ المحلية فإن ذلك لا ينفي واقعية العالم الكمي وإنما يتعارض مع تفسير أينشتاين للنظرية النسبية.  إذ لو صح التأثير من بُعد فسوف يعني ذلك أن هناك تزامنا في الأحداث أي يمكن لحدثين يبعدان عن بعضهما مسافة ما أن يحدثا في ذات اللحظة بالنسبة لمرجعية متحركة بسرعة ثابتة. وهذا يناقض تفسير أينشتاين للنسبية الخاصة. وإذا كانت الأحداث تتزامن فإن ذلك يعني أن الفضاء مطلق كما يتصوره نيوتن.

وينظر بوبر إلى معادلات اللاتحديد أو كما يسميها علاقات التشتت على أنها معادلات إحصائية لعلاقات التشتت وهي تضع حدا للتحديد الدقيق. كما أنه يوكد على أن هذه المعادلات (معادلات اللاتحديد) يمكن استنتاجها من نظريات أقدم من النظرية الكمية. فيمكن إستنتاج هذه المعادلات باستخدام مبدأ في علم الضوء يسمى بمبدأ الوضوح التناغمي. Principle of harmonic resolving power وله كلام كثير ودقيق في هذا المجال نترك تفاصيله إلى مقالة أخرى.

كيف يفهم ويفسر كارل بوبر النظرية الكمية

النظرية الكمية كما يفهما بوبر هي نظرية كغيرها من النظريات الفيزيائية التي طابعها إحتمالي –إحصائي. والطبيعة الإحصائية لهذه النظريات تتطلب برأي بوبر معالجة إحصائية. ولكن بوبر يوكد على أنه لمن الخطأ أن نعتبر النظرية الكمية ذات طبيعة احتمالية بسبب عدم إحاطتنا المعرفية بهذا العالم الكمي فنلجأ على ضوء هذا النقص في الإحاطة الكلية بهذا العالم إلى استخدام الإحصاء والإحتمالات. لأن النظر إلى الاحتمالات المستخدمة من هذه الزاوية أدى لإدخال عنصر المراقب الواعي في النظرية الكمية والذي قاد في نهاية المطاف إلى التفسير الذاتي للنظرية. بمعنى النظر إلى الإحتمالات على أنها مقياس لدرجة معرفتنا أو جهلنا بالواقع هو الذي أفضى إلى جعل المراقب الواعي جزءا أساسيا في تفسير النظرية. إذن يربط بوبر مشكلة تفسير النظرية بالكيفية التي نفسر بها النظرية الإحتمالية. والأخطر من ذلك برأي بوبر هو أن هذا التفسير الذاتي للنظرية الإحتمالية أي الذي يربط الإحتمالات بعدم المعرفة أدى إلى رؤية مشوشة تخلط بين التفسير الذاتي والموضوعي للنظرية الإحتمالية مما خلق لنا كل هذه المظاهر من اللاعقلانية في فهمنا للعالم الكمي. ويمضي بوبر درجة أعمق في التحليل ويرى أن كل الذين يؤمنون بالطبيعة التحديدية للفيزياء الكلاسيكية أي القدرة على معرفة حالة جسم ما في المستقبل بمعرفة حالته الإبتدائية يؤمنون بالتفسير الذاتي للإحتمالات. فمن وجهة نظره إن الإحتمالات الموضوعية غير متوافقة مع التحديد فإذا كانت الفيزياء الكلاسيكية تحديدية فهي بالضرورة غير متوافقة مع التفسير الموضوعي للميكانيكا الإحصائية.

ويثير بوبر السؤال التالي كيف نفهم النظرية العلمية؟ أو ما الذي نريده من النظريات العلمية؟ هناك الرؤية الأورثودكسية كما يسميها كارل بوبر وهي المدرسة أو الجماعة التي قادها بور وهايزنبرغ وبولي وأخرين، التي ترى في النظريات العلمية ليست مقاربة للواقع أو محاولة لفهم الواقع كما هو بل هي مجرد وصف رياضي له تطبيقاته المفيدة. ويطلق بوبر على مثل هذه الرؤية بالآلية وعلى أصحابها مسمى الآليين. وهناك الواقعيين كأينشتاين وشرودينغر (ويشاطرهم بوبر هذه الرؤية) يرون الفيزياء ليست مجرد آلة لتفسير التجارب بل هي وسيلة لمعرفة العالم الذي نعيش فيه. ويقدم بوبر رؤيته للنظرية الفيزيائية والتفسير الفيزيائي باعتبارهما رؤية كافية ومحددة تزيح بعض الصعوبات وقابلة للنقد العقلي. وهنا وقبل أن أغادر هذه النقطة أود أن اعرض الموقف المعرفي العام لبوبر من النظريات العلمية. يقدم بوبر إعجابه بالموقف المعرفي لكانت الذي يرى أن النظريات العلمية ليست تفسيرا للواقع رغم أنها تحاول أن تفعل ذلك بقدر ماهي نتاج العقل. ويقصد كانت إن المعرفة التي تأتي من الخارج يشكلها العقل ضمن قوالبه العقلية فتصبح في نهاية المطاف صناعته. لكن بوبر يضيف شيئا مهما لهذه الفكرة وهي أن التعارض بين نظرياتنا والواقع الخارجي هو بحسب بوبر الشيء الوحيد الذي يمكن أن نحصل منه على معلومات نصفها بالحقائق وكل شيء آخر هي أفكارنا.

إذا كانت الإحتمالات ليست لها علاقة بمدى ما نعلمه أو ما نجهله بالواقع فكيف يفسر بوبر النظرية الإحتمالية؟ يفسر بوبر النظرية الإحتمالية على أنها نظرية الميل الطبيعي. ويدعي بوبر أنها بهذا التفسير تستطيع معالجة كل الإشكاليات التي أفرزتها النظرية الكمية. ولإيضاح المعنى الذي يقصده من هذا التفسير يضرب لذلك مثالا. لنتصور دورقا مفرغا من الهواء ونضع بداخله قنينة مليئة بالهواء مسدودة من أعلى بسدادة. عندما نزيل السدادة فإن الهواء سيخرج بسرعة خارج القنينة إلى الدورق وسوف يتوزع بالتساوي داخل الدورق. ولو انتظرنا لفترة طويلة فإننا لن نشاهد العملية العكسية أي أن يعود الهواء إلى داخل القنية. ويرى بوبر إنه من غير المستحيل للهواء أن يعود إلى القنينة، فإذا كان جزيء الهواء يتحرك باتجاه لابد أن يكون لدية الإمكانية أن يتحرك بالإتجاه المعاكس.  إذن هناك إمكانية غير مستحيلة في أن ينسحب الهواء إلى داخل القنينة. لكن نحن هنا نوضح حقيقة تجريبية مفادها أن هناك إحتمال ضعيف جدا لهذه العملية أن تحدث. عدم الإنعكاسية للعملية هي حقيقة تجريبية موضوعية وبالتالي فإن الإحتمالية وعدم الإحتمالية ينبغي أن تكون موضوعية أيضا. والتفسير الموضوعي لإحتمال عدم الإنعكاسية يرتبط بالحالة الإبتدائية لجزيئات الهواء والتي أفضت إلى أن نقرر أن احتمال الإنعكاسية أي الخروج عن السلوك الإعتيادي ضئيل للغاية. ولكي تتضح الصورة أكثر فإننا نستنتج الإحتمالية المتساوية لظهور الصورة أو الكتابة يساوي نصف ويمكن أن نصل إلى هذه النتيجة بعد أن نقوم برمي قطعة النقود وحساب معدل ظهور الصورة أو الكتابة. في الحالة الأولى لدينا افتراض مسبق مرتبط بجهلنا أن احتمال ظهور أحد الوجهين يساوي النصف وفي الحالة الثانية وصلنا إلى نفس النتيجة ولكن بطريقة موضوعية وذلك بحساب متوسط ظهور أحد الوجهين بعد إلقاء قطعة النقود عدد من المرات. إذن على ضوء التصور الموضوعي للإحتمالات فإن عدم الإنعكاسية غير متعلقة بجهلنا بالحالة الإبتدائية لجزيئات الغاز فحتى لو أحطنا بكامل الحالة الإبتدائية للجزيئات فإن ذلك لا يغير من الواقع شيئا. كما أننا لو رمينا قطعة النقود وعلمنا مسبقا بأن وجه الكتابة سيظهر فإن ذلك لا يغير من كون الإحتمال يساوي نصف. فإذا وجهنا السؤال التالي للموضوعيين والذاتيين عن السبب في خروج الغاز من القنينة فإن كلاهما سيجيب أن ذلك يحدث نتيجة قانون الإنتروبي أي الفوضى. لكن الموضوعي سوف يوضح أن مواقع الجزيئات داخل القنية ستكون في انتظام عالي وسيكون هناك ميل طبيعي عال لجزيئات (إحتمال كبير) الغاز أن تأخذ وضعية تكون فيها مواقعها موزعة بطريقة عشوائية. ولكن الذاتي لا يستطيع أن يعطي جوابا كل ما يمكن أن يقوله إن حالة جهلنا بعد خروج الغاز من القنينة قد إزدادت.  وإن ذلك لأمر غريب أن نوضح حالة الجهل لدينا بدل أن نوضح حالة الغاز.

في المحصلة النهائية فإن بوبر يرى بأن الإحتمالات في النظرية الكمية تمثل دائما ميل الجسيمات لتأخذ حالة كمومية معينة في ظروف معينة.

آمل لهذه المقالة أن توضح الموقف النقدي لكارل بوبر من النظرية الكمية رغم إننا لم نحط بكامل رؤيته النقدية والتي تحتوي على دقائق مهمة للغاية تصب في إتجاه ترسيخ الرؤية الموضوعية للعالم وتحفظ للعلوم قيمتها الموضوعية.

 

تعليق واحد

  1. اشكرك على هذه المادة الفيزيائية الجميلة و التي تكشف عن معرفتك العميقة بالمادة و اطلاعك الغزير على آراء المدرستين. لك مني الف شكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *