“ليلة العاشر من المحرّم”
إلى كلّ قلبٍ يؤمن أن الوفاء لا يُقاس بالعدد، بل بالصدق حين تشتدّ الظلمات.
في تلك الليلة التي خجل منها القمر، وأدركت فيها النجوم أنها شاهدة على أعظم مشهدٍ للوفاء، جلس الحسين بن علي (ع) في خيمته، يطالع وجوه أصحابه كما لو كان يودّعهم، ويزرع في أعماقهم الطمأنينة الأخيرة. الليل كان ساكنًا، لكن داخله كانت العاصفة تعصف؛ عاصفة القرار، وعاصفة المصير.
الحسين (ع)، الإمام الذي يعلم أن الصبح سيحمل معه الدماء والدموع، قام ليلقي عليهم كلمته الأخيرة؛ كلمة لا تشبه خطب القادة، بل تشبه عتب قلبٍ يعرف أن القوم لا يريدون إلا رأسه، ويخشى أن يُثقل الآخرين بحمله.
بصوتٍ يفيض حنانًا، وصدقًا، ووجعًا شفيفًا، قال لهم:
“هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملاً، وانجوا بأنفسكم… فإن القوم لا يريدون غيري… فمن لزمنا استُشهد، ومن تركنا نجا”.
يا لها من كلمات… كأنها أبوابُ نجاةٍ فُتحت لهم، لكن أحدًا منهم لم يهرع إليها. لم يُثر فيهم الخوف، ولا فتحت فيهم شهوة الحياة نافذة. بل أجّجت في قلوبهم نار العهد… وأوقدت شوقًا للموت بين يدي من أحبوا.
مسلم بن عوسجة:
الشيخ الكبير، الذي ذاق من الحياة ما يكفي ليتعلّق بها، قالها بصوت حاسمٍ لا يساوم:
“أنخلّي عنك؟! وبم نعتذر إلى الله في أداء حقك؟! لا والله، لا نفارقك حتى نكسر رمحنا في صدورهم، ونضربهم بسيوفنا ما بقيت لنا يد”.
كانت هذه الكلمات كأنها خيوط من نور، تربط الأرض بالسماء، تربط العهد بالدم.
زهير بن القين:
كان رجلاً من أولئك الذين التحقوا بالحسين متأخرين، لكنّه في تلك الليلة، تقدّم بالوفاء حتى سبق السابقين، فقال:
“وددت أني قتلت ثم نشرت، ثم قتلت، ثم نشرت، يُفعل ذلك بي ألف مرة، وأن الله يدفع بذلك القتل عنك وعن أهل بيتك”.
زهير لم يكن يبكي خوفًا، بل كان يبكي لأن الحياة ضاقت عليه وهو يرى إمامه يُحاصر بالموت، وهو لا يستطيع أن يفتديه أكثر من روحه.
العباس بن علي، قمر بني هاشم:
كان صمته في ساحات الحرب أبلغ من الخُطب، لكن في تلك الليلة، حين أراد الحسين أن يُبرّئ ذممهم، قال العباس:
“أفنخلّيك؟! لا أراني الله ذلك أبدًا”.
جملة قصيرة… لكنها حاسمة، كسيفه، دامعة، كقلبه.
الأنصار جميعًا:
تجمّعوا حول الحسين (ع) كما تتجمّع النجوم حول بدرها، وقالوا بصوتٍ واحدٍ يخترق التاريخ:
“يا ابن رسول الله، لو قُتلنا ثم أُحيينا، ثم قُتلنا، ثم أُحرقنا، ثم ذُرّينا في الريح، يُفعل ذلك بنا سبعين مرة، ما تركناك”.
أي قلبٍ هذا؟!
أي عشقٍ هذا الذي يجعل الموت أمنية، والفداء لذة، والنجاة خيانة؟!
{ ليلة الوفاء الخالدة }
ليست ليلة العاشر من المحرّم مجرد لحظة في التاريخ، بل هي مرآة الإنسانية في أنقى تجلياتها. كان يمكن لهؤلاء الرجال أن يرحلوا… أن يختاروا الحياة… أن ينجوا بأجسادهم من السيوف، لكنهم اختاروا أن ينجوا بأرواحهم من الخيانة. اختاروا أن يُدفنوا في الثرى، لا أن يُدفن الوفاء فيهم.
تلك الليلة، حين بكى الحسين (ع) خشية على من أحب، لم يعلم أن حبّهم له سيخلّدهم أكثر من كل الملوك، وأن كلماتهم ستظلّ تتردد في القلوب، هؤلاء الرجال كانوا مصداق هذه الآية:
” مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”
السلام عليك يا حسين (ع)…
أيها الاسم الذي لا يشيخ،
يا رايةً لا تنحني،
يا وجعًا اختلط بالتاريخ حتى صار التاريخ هو الجرح، والجرح هو الحسين (ع).
السلام عليك يا ابن فاطمة الزهراء (ع)،
حين خرجت لا طالبًا لملك، ولا راغبًا في دنيا، بل لأنّ الصمت أمام الباطل موتٌ، والصراخ من أجل الحق حياة…
كنتَ تعلم أن السيوف لا ترحم، لكنك كنتَ أرحم من السيوف.
خرجت وفي قلبك كربلاء، وفي عينيك صور من ذُبحوا ظلمًا،
وفي كفّك عهدٌ لا يخون.
السلام عليك يوم وُلدتَ وفيك النور،
ويوم وقفتَ في كربلاء وحولك العطاشى والصغار،
ويوم سقطتَ وحدك، لا تأنس إلا بدعاء أمّك فاطمة (ع) في العرش.
