بعض الوجوه تبقى في الذاكرة لا تمحوها الأيام، كأن الزمن ينحني إجلالًا لها كلما مرّ، ومن هذه الوجوه، وجه الحاج أحمد بن مذكور.
كان طويل القامة، ممشوق القوام، تتسع خطاه بثقة، مفتول الساعدين، عريض الكفين، يميل برقبته قليلًا إلى الأمام. عيناه واسعتان، ووجهه سمح، تكسوه راحة ووقار. في نظراته عقل راجح، وفي حضوره طمأنينة، كأن وجوده ضمان لأمن الحارة وسكينة لبيوتها.
مضت ستون سنة أو يزيد، ولا أذكر كم كان عمره حينها، لكنه بدا لي كهلاً هزمه الزمن، رغم صلابته التي صقلتها الحياة. كنت طفلًا صغيرًا، لكنني كنت أشعر نحوه بعطف ينبع من وجداني، وأتمنى لو أن حاله كان أفضل ومعيشته أيسر.
كان يسكن في بيتٍ من “عشيش” بني من سعف النخيل، يحيط به سور من الجريد. فناء الدار فسيح، أرضه مرصوفة بتراب متماسك. أظنه ورث هذا المكان عن أجداده، وربما كانت الأرض نخلاً لأسرته في سالف الزمان، فما من بيت بمثل تلك السعة إلا ويشي بخير مضى.
من الجهة الغربية، كان الشارع العام يحاذي بيته، وقد أنشأ هناك دكانًا صغيرًا يبيع فيه الخضار والفواكه الموسمية. أما من جهة الشرق، فكان مدخل المنزل يقابل “حسينية بن مذكور” المعروفة عند أهل الحي باسمه.
موقع البيت كان محوريًا؛ فالشارع العام يربط سوق المدينة الكبير بقراها الشمالية، وكانت قوافل الفلاحين تمر كل صباح محمّلة بالمنتجات، فتزود دكان الحاج أحمد بما يحتاجه منها.
يقضي الحاج أحمد نهاره بين دكانه والحسينية، وإن غاب عنهما، فإما للحج أو الزيارة. يبدأ يومه بُعيد صلاة الفجر، يشتري ما توفر من الخضار والفواكه: الرويد، البقل، الكرفس، الكزبرة، الحندبان، الطروح، الطماطم، البصل، الموز، اللوز، التوت، الليمون، الرمان، والريحان. يعرضها بربح زهيد يكفي لمصاريف يومه. كان دكانه أشبه بجمعية تعاونية يخدم بها الناس قبل أن يبتغي رزقه.
عند المغيب، يغلق باب الدكان المتصل ببيته، ويعود إلى زوجته زهور. زهور، ضريرة ككثير من نساء جيلها ممن أذهب التراخوما نور أعينهن. كان أهل الحارة ينادونها: “زهور مرّة بن مذكور”. محبوبة، قانعة، لا تشتكي، ولا تذمّ أحدًا، رغم الظلمة التي تسكن عينيها. كانت تحفظ الكثير من قصص التراث، تسردها بطرافتها المعهودة، تمزج الحكمة بالابتسامة، وتؤنس الجالسات إليها.
كان الحاج أحمد يزوّدها ببعض الخضار الزائدة، فتوزعها على المحتاجات بقولها: “هذه من رزقكم، خذوا منها ما يكفيكن”. لا تخرج كثيرًا من بيتها، لكن أخبار الحارة تصلها، وتحرص على السؤال عن جيرانها واحدًا واحدًا.
تعد لزوجها عشاءه بتأنٍ ومحبة. كانت طباخة ماهرة، تعرف ما يرغب إليه، وتقدمه له بسرور. عاشا معًا في تلك العشة الهادئة كزوجين وعصفوري حب. لم ينجبا ولدًا، لكنها كانت حياته، وكان هو سندها وبصرها.
بعد العشاء، يفتح الحاج أحمد باب الحسينية، يوقد النار في “الأوجاغ”، يضع الدلال، ويحضّر القهوة كما يجب. ثم ينقع التتن، ويركب رؤوس النارجيلات ويجهز الجمر. كانت الحسينية ملتقى الرجال، يسمعون “القراءة”، ويشربون القهوة، ويتداولون النارجيلة فيما بينهم. يُسمى شرب الدخان من فم النارجيلة “الخشك”، ويتداولها الحضور بنظام هادئ.
حتى ماء النارجيلة، كان له غرض عجيب؛ تطلبه بعض الأمهات لعلاج مغص الأطفال، فيغفو الطفل مخدرًا، وتظن الأم المسكينة أن العلاج نفعه.
كانت حياة الحاج أحمد وزهور بسيطة، لكنها مفعمة بالمحبة والسكينة. لم يكن يأمرها بشيء، وكان يعاملها كأميرة مدللة، بخلاف جارهم “موسى الجمباز”، الذي كان يدخل بيته وهو يزبد ويرعد، مهددًا زوجته بالطلاق إن أنجبت له بنتًا أخرى. وبعد أن أنجبت خمس بنات، طلّقها حين لم يُرزق بالولد، فحزنت نساء الحارة عليها، واستاء الرجال من قسوته.
لكن الحياة لا تدوم على حال. فوجئ الحاج أحمد بقرار من عمدة الحي بسحب الحسينية منه، بحجة أنها وقف تابع لأسرته. وربما كان طمعًا بها، بعدما أصبحت الحسينيات رمزًا للمكانة الاجتماعية.
تلقى الحاج أحمد الخبر كطعنة. كانت الحسينية جزءًا من كيانه، وامتدادًا لروحه. خدمها عقودًا، فارتبطت باسمه وسُميت باسمه، وكانت مصدر تعويض له عن الفقد والحرمان. بعد سحبها منه، خبا وجهه، وغابت ابتسامته، وسكن الحزن في عينيه، وكأنما رحل قبل أن يرحل، لكنه ترك ذكرى لا تنسى عند من أحبوه وبجلوا نبله وأريحيته.
