“حين كانت الأسواق تقول صباح الخير…”
في قلب قلعة القطيف، حيث تتشابك الأزقة كأصابع متشابكة،
يمتد السوق القديم كحكايةٍ لا تعرف النهاية.
طين الجدران يحتفظ بأصوات المساومة،
وخشب السقوف يميل كلما مرّت تحته ضحكة، أو سلام، أو دعاء.
الفجر لا يُعلن عن السوق، السوق هو الذي يوقظ الفجر.
يُفتح دكان الحاج سلمان أولًا، يفرش سجادة صغيرة، يصلي،
ثم يُخرج علب اللوز، والهيل، وحبات العلك القديم التي يشتريها الأطفال بنصف فلس.
تَتَتابع الأبواب الخشبية وهي تُفتح،
كأن السوق يأخذ شهيقًا طويلًا… قبل أن يبدأ اليوم.
النساء هنّ أول الداخلين.
يأتين بثيابهن الملوّنة، تحمل كل واحدة سَلة خوص،
وفي عيونهنّ خليطٌ من الهمّ والحنين،
يُساومن بلطف، لكنهن يعرفن جيدًا كيف تُدار الحسبة.
الباعة يصرخون:
“تمور القطيف يا ناس… سِكر من نخيلكم!”
“حنا مرّينا البحر… وجبنا لكم عطر الهند وتوابل زنجبار!”
“بخور عود… يضوي الدار ويطيب السهر!”
في الزوايا، بائعو السمك يضعون صيد اليوم في سلالٍ مبللة،
تفوح منها رائحة البحر،
والأطفال يركضون، يسرقون حبة رطب، ويضحكون حين تُمسكهم يدٌ متغضنة بالخبرة والمحبة.
السوق لم يكن للتجارة فقط…
بل كان مجلسًا، ومنبرًا، وديوانًا شعبيًا.
الناس يتبادلون الأخبار،
يتحدثون عن سفينةٍ تأخرت،
أو موسم زراعة سيبدأ،
أو دعوةٍ لحفل زفاف سيُقام في البراحة يوم الخميس.
حتى العابرين…
كان السوق يحتضنهم دون أن يسألهم من أين جاؤوا.
ففي قلعة القطيف، السوق لم يكن فقط مساحة… بل كان ضيافة.
وفي نهاية النهار،
حين تغيب الشمس خلف النخيل،
وتُغلق الأبواب واحدًا تلو الآخر،
يبقى في السوق أثرُ خطى،
وصدى ضحكات،
ورائحةُ عودٍ لا تزال تتصاعد رغم انتهاء اليوم.
