إلى أولئك الذين يعرفون أن المدن تموت مرتين، مرة حين تُهدم جدرانها، ومرة حين يُنسى اسمها…لا نكتب عن القطيف لنوثّق فقط، بل لننقذ ما يمكن إنقاذه من الذاكرة. فالمدينة، كالكائن الحي، إن لم تجد من يحبها، تضمحل في صمتٍ بطيء. وإن لم تجد من يكتب عنها، تتحوّل إلى هامشٍ في كتب التاريخ، تُقرأ دون شعور، وتُطوى دون أسى.
القطيف ليست مجرد رقعةٍ من الأرض عند ضفاف الخليج، بل هي نقطةُ التقاءٍ بين البحر والنخلة، بين التجارة والمعرفة، بين صراع الجغرافيا وثبات الروح.
كانت القطيف، منذ قرون، موئلًا للتعدد، ومرفأً للملح والعطر، ومأوى لحرفٍ بقيت حيًا رغم كل محاولات التناسي والنسيان.
لكننا اليوم أمام سؤالٍ كبير: ماذا تبقّى من القطيف؟ وماذا بقي للقطيف؟ أصوت الأسواق؟ أم ظلّ النخيل؟ أم مجرد صور قديمة في متحف رقميّ؟ أم أن ما تبقى هو ما نحمله نحن في الذاكرة، وما نرفض أن نتنازل عنه من هويةٍ نحاول فكّ شيفراتها بين طيّات الخرائط المتحوّلة؟
الهوية ليست شعارًا يُرفع في موسم الحنين، بل هي وعيٌ يتراكم، ومسؤولية نعيشها لا نحتفي بها فقط. ومن يبحث عن هوية القطيف اليوم، عليه أن يبدأ من الأسئلة المؤلمة: لماذا لم تعد القطيف تُروى كما كانت؟ ولماذا صارت تُمثل في خطاب التنمية كمجرد ضاحية، لا كمدينة عريقة؟ ومتى تخلّت القطيف عن صوتها؟ أم هل أصابها الخرس!!؟
في كل زاوية من زواياها، كانت الحكاية حاضرة: في “الدبابية” و”العوامية” و”صفوى”، في “دارين” و”الربيعية” و”تاروت” و….
كل اسم فيها قصيدة، وكل شارعٍ قصّة، وكل نخلةٍ شاهد على عناد البقاء. لكن التحوّلات العمرانية السريعة، والمشاريع التي تأتي غالبًا دون روح، جعلت المدينة تتثاءب كمن أنهكته الذاكرة.
القطيف لا تحتاج لمن يرثيها، بل لمن يراها. لمن يعيد تشكيل السؤال حولها، لا بمن يكتفي بتمجيد ماضيها. ولكيلا تصبح حكاية من حكايات الزمن، علينا أن نعيد إليها مركزيتها في الوعي، وأن نمنحها موقعها في الخطاب، لا كمجرد فضاء جغرافي، بل كصوتٍ ثقافي، واجتماعي، وتاريخي في قلب الخليج.
وانا اكتب هذا النص، لا كمن يودّع مدينته، بل كمن يهمس في أذنها: “انهضي، ما زال فيكِ ما يستحق الحياة”. وفي زوايا الأحياء القديمة، بين جدرانٍ متشققة وممراتٍ ضيقة، ما زالت القطيف تنبض بالحياة. لا لأن بناياتها شامخة، بل لأن أرواح الناس فيها كانت أعلى من كل الطوابق.
القطيف ليست مدينةً من حجر، بل من ذاكرةُ امرأةٍ كانت تزرع النخل وتسقيه بدعائها. وذاكرةُ رجلٍ كان يعبر البحر ليعود بحكاياتٍ أكثر من اللؤلؤ. وذاكرةُ أطفالٍ كانوا يحفظون الأهازيج قبل حروف الأبجدية.
ولكن، كم بقي من تلك الذاكرة؟ إنها تتآكل ببطء. لا لأن الناس نسوا، بل لأن المدينة تغيّرت قبل أن نُمهلها لتروي حكايتها. في السنين الأخيرة، تسارعت مشاريع التطوير، ولكنها جاءت كثيرًا دون أن تصغي لنبض الأرض.
الشوارع اتسعت، نعم، لكن الأرواح ضاقت. البنيان ارتفعت، لكن المعنى تراجع. صارت القطيف تشبه مدنًا أخرى لا نعرفها، وتكاد تفقد ملامحها الخاصة.
وفي خضمّ هذا التحوّل، تقف الهوية كقارب صغير في مدٍّ عارم. الهوية ليست الماضي فقط، بل هي سؤال عن الكيفية التي نحيا بها الآن.
هل القطيف اليوم تُعبّر عن روحها؟ هل مهرجاناتها، احتفالاتها، عمرانها، مدارسها، كتبها، تُجسّد حقًا صوتها العميق؟ أم أننا نُجمّل القشرة، بينما نخسر النواة؟
من يستطيع الحديث عن القطيف دون أن يذكر علماءها ومفكريها؟ من يستطيع أن يروي قصة المدينة دون أن يمر على أسماء مثل المرحوم الشيخ علي المرهون، أو المرحوم الشيخ عبد الحميد الخطي، أو المرحوم الشيخ فرج العمران؟ ومن منا يمكنه تجاهل الأثر الثقافي العميق الذي تركه مثقفوها ومؤرخوها؟
القطيف كانت ولا تزال رئة فكرية في الخليج، ولكن التحدي الحقيقي الآن ليس فيما قاله السابقون، بل في كيف نواصل هذا النفس وسط ضجيج الحداثة؟ كيف نحفظ الصوت من أن يضيع في الزحام؟ كيف نجعل من النخلة رمزًا للثبات، لا فقط شعارًا على ورقة؟
في المساء، حين تهمد حركة الشوارع، وتغفو الأرصفة، يشعر ابن القطيف بشيءٍ داخله يتهامس: “أين ذهب كل ذلك الجمال؟” “أين الروح التي كانت تجمع الناس في الساحات؟” “متى فقدنا قدرتنا على الكلام؟”
ليست المشكلة أن الزمن الذي يتغير، فهذا قدر كل مدينة. لكن المشكلة الكبرى أن تتغير المدينة قبل أن نُؤرّخ وجدانها، قبل أن نحتفظ بلغتها الداخلية، قبل أن نُعلم أبناءنا أن القطيف ليست مجرد مكانٍ يُسكن، بل معنى يُعاش.
أخطر ما يمكن أن يحدث لمدينةٍ مثل القطيف، هو أن تُختزل في الأرقام: عدد سكان، مساحة جغرافية، مشاريع قائمة، إحصاءات تنموية…كل هذا مهم، لكنه لا يكفي. فالهوية لا تُقاس بالكيلومترات، بل بمقدار الحنين الذي تتركه المدينة في قلوب أبنائها حين يغيبون عنها.
كان البحر في القطيف أكثر من ماءٍ وملح، كان مرآةً للناس. ينظرون إليه كما ينظر الإنسان في داخله. فهو يهبهم الرزق كما يهبهم المعنى، ويمتحنهم ويطهّرهم.
البحر علّم ابناء القطيف الصبر. الصيادون العائدون مع الغروب، والبحارة المتشبثون بالريح، واللآلئ التي لا تُنتزع إلا بالغوص إلى الأعماق، كل ذلك صنع شخصيةً لا تخشى الغرق في سبيل الاكتشاف، ولا التجديف في وجه التيارات.
وفي قلب اليابسة، كانت النخلة واقفة كأمٍ لا تنكسر. تمدّ ظلّها للمارّين، وتُثمر حتى حين يُهملها الناس. عانقت البيوت، ورافقت الأغاني، ودخلت في المثل والحكمة والطعام. وكانت الشاهدَ الصامت على الفصول كلّها: من زمن الرخاء، إلى عصور الاضطراب، إلى لحظة التيه الحديثة.
إنّ بين البحر والنخلة، تكمن معادلة القطيف الوجودية: أن تكون لك جذورٌ في التراب، وأجنحةٌ في الأفق. أن تعرف كيف تُقاوم التغيير، دون أن تفقد رهافتك. أن تكون ابن مكانٍ عريق، وأنت في قلب عالم يتغيّر.
وفي الختام: لن نمنع الزمن من المرور، لكن يمكننا أن نُحصّن المدن من الذوبان في مجراه. والقطيف، التي صمدت لقرون، لا تستحق أن تصبح مجرّد فصل في كتاب منسيّ. إنها نداءٌ مفتوح، صوتٌ في بحرٍ مضطرب، نخلةٌ في مهبّ الريح، لكنها ثابتة. وما نكتبه الآن ليس حنينًا، بل مقاومة، لكيلا تصبح القطيف لا قَدّر الله حكاية من حكايات الزمن.

ياصادق انت القطيف. لافض فوك …اثلجت صدري بكل كلمة رحم الله والديك وكثر الله من امثالك ومن امثال هذا القلم الرائع الوطني المخلص كل الشكر لك ياباش مهندس .
اخوك منير الحجي
اخي العزيز منير الحجي ايها الفنان المبدع انت احد اعمدة الفن لاحياء تراث القطيف فبلوحاتك حسدت الكثير من مشاهد الحياة لهذة الارض فشكرا لك على هذا الجهد الجميل. تحياتي لك
الحمد لله رب العالمين…القطيف واي هم اصبحت…كيف كانت وكيف اصبحت…الكتابه عنها اضحت كآبه واين رجال الاعمال اين دورهم في الحفاظ على التراث……لا احب الانتقاد ولكن الانسان هو السبب لانه هو الذي يحمل هوية المكان…وقالوا المكان بالمكين لذلك حاسبوا الانسان واجعلوه يتجذر بقوه في ارضه بقيمها وعاداتها وجميع مفاصل موروثها حتى ترجع هوية القطيف المضروب بها المثل….اذا هو دور الإنسان…شكرا جزيلا اخ صادق على صدقك وجزالة رأيك وطرحك.
السلام غليكم اخي العزيز ابو حسن
اولا اشكرك على على حسن مشاعرك اتجاة الارض التي ولدت فيها و ترعرعت فيها في جذورنا العميقة التي غرسها اجدادنا في ارصها فحبها يسري في دمنا و عروقنا.
ثانيا كل واحد عليه دور يقوم به لاجل هدة الارض لحياء تراثها تاريخها لكي لا تصبح صفحة في عالم النسيان كما يريد البعض طمسها و تحجيمها فالكاتب و الشاعر و الفنان و الاذيب و العالم و العمل و كل فرد من هذة الارض عليه دور يقوم به كل على قذر استطاعته, و هذة الارض باقبة رغم كل التهميش المتعمد. تحياتي