يُعنى المقال الحالي بواحدة من أهم العصارات التي دفَقَ بها تجولي في كتاب المفكر التونسي فتحي المسكيني المعنون بــ ” الهجرة إلى الإنسانية “.
لقد حفزني على طَرق الموضوع جملة من الأسباب ، أولها: لإعتقادي بأهمية الموضوع في تعميق فكرة الإنسانية فينا ، وثانيها: لأن موضوع العنصرية ، والذي سنحفر فيه مضاد لفكرة الإنسانية ، وكما يقال الأشياء تعرف بأضدادها ، أما ثالث الأسباب: فيتمثل في القيمة الجوهرية التي يمكن اقتناصها من طرح الدكتور المسكيني ، خاصة وأن لغة الرجل ليست ميسورة ، يكفي أن نتذكر بأنه مترجم “الكينونة والزمان”، أي مترجم ومؤوّل لهايدجر ، حيث أنت على موعد مع فلسفة رجل من أكثر الفلسفات عسراً في الاستيعاب والتأويل.
إن أول تساؤل قد يعتري ذهني ويشدني كقارئ ، لو كنت مكانك ، لماذا جاء العنوان: ” نواة العنصرية “ ، لماذا لم يقتصر على “العنصرية” فقط؟
لعلني من البداية أكفيك المؤونة حينما أخبرك بأني لم أشاركك المقال لكي أسوق إليك بعض تمثلات أو مظاهر العنصرية كنظرة الرجل الدونية للمرأة ، أو كالتنمر النسوي الذي كشّر عن أنيابه مؤخراً ، أو كازدراء وكراهية المخالف في الملة ، أو كاستماتة الأبيض لإثبات مركزيته قبال هامشية باقي البشر.
نعم ، كل ما سبق ، من مظاهر العنصرية ، ونحن نرمي إلى ماهو أعمق ، نسعى معك في جولة فكرية للتأمل في نواة العنصرية.
إنك حينما تحفر في منطقة أعمق ، محاولاً أن تتّبع أساس هذه المظاهر ، ستنتهي إلى أن نواة العنصرية عبارة عن “خصومة لدودة ، ومستترة مع فكرة الانتماء ذاتها” ، وبعبارة أوضح ، إنها رفض غير معلن للانتماءات التي يفرضها الوجود على الكينونة الإنسانية ذاتها.
أريدك فقط أن تلاحظ معي واقع العنصريين الذي لا محيص عنه ، فمع أن كل مرء فينا ، يوجد دون أن يختلِق ذكورته من أنوثته ، أو ينتخب سلالته التي سينحدر منها ، أو يُصوّت للغة التي سيتعالق بها مع الوجود ويدرك بها الموجودات ، أو ينتقي الدين الذي سيشكل رؤيته الوجودية ، وباختصار دون أن يكون لأي مرء سابق جهد ، أو كبير فضل في تشكيل هويته ، وانتماءاته ، والتي أيضاً ، لا يمكن له أن يعي ذاته بمعزل عنها ، يأتيك العنصري ، لا لكي يدينك بما ما هو خلل في سلوكك أو فكرك ، كإدانته لمخالفتك لقواعد سلامة البيئة ، أو لاعتقادك بوجود مربع دائري ؛ بل يأتي لكي يدينك بأفضل ما يمكن أن تتصور به ذاتك ، أعني يدينك بانتمائك.
فالعنصري من الذكور ليس هو الذي يطالب بامتيازات خاصة على زميلته في العمل نظير إنجازه وجهوده وإنتاجه ، بل هو الذي لا يطالب بذلك إلا بما هو ذكر ، وهي أنثى ، وكأن الأنوثة مصدر إدانة.
وكذلك فالعنصري من الأمم هي كل أمة تستحسن احتكار سمة التقدم لنفسها ، فتصنف نفسها كمتقدمة وغيرها كنامية ؛ لا كتقدم وتأخر حكَم وبرهن عليه مسار التاريخ ، بل لانحياز منشؤه عرقي وقومي ليس إلا.
وهكذا العنصري من أصحاب الملل ، لا يعمل لديه إن “رحمة الله قريب من المحسنين” ، أو “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” لا بل “إن كل مخالف لي من الضالّين”.
إذا نجحت السطور السابقة في إيصال الفكرة ، نكون قد اقتربنا من مفهوم نواة العنصرية. أعيدها أنها أكبر من نظرة فوقية ، أو سلوك غير عادل.
إنها “خصومة لدودة مع فكرة الانتماء ذاتها” ، وبتعبير آخر ، إنها خصومة مع قدر الكينونة الإنسانية الخارج عن إرادتها ، إنها شرخ لدى العنصريين في فكرة الإنسانية ذاتها.
الآن ، وبعد كل ذلك ، وفي نهاية الكلِم ، اعتقد أنه بات لديك من الجهوزية ما يكفي لكي تتّفهم المسكيني أكثر حينما يقول : “العنصرية هي سياسة الجنس البشري ضد تصور معين لذاته ، ضد تصور معين لفكرة الإنسانية فينا”.

موضوع جميل.. أسلوب شيق وسلس وفِق لطرح مفاهيم غامضة بطريقة سهلة.
ربما يحتاج لحلقات توضيحية اكثر وأعمق.
هل العنصرية طبع بشري؟
غريزي؟ أو مكتسب؟
ما هي دوافعه؟
هل له مبررات؟
هل يمكن تفهمه؟ والتعامل معه.