الحسين ومسيرة التوحيد – بقلم الدكتور عبدالجليل عبدالله الخليفه

خلق الله الإنسان وأودع فيه فطرة التوحيد ولم يتركه سدًى بل بعث له الرسل والأنبياء ليثيروا فيه هذه الفطرة، وليحفظوا عقيدة التوحيد صافيةً نقيةً من أيّ تحريفٍ. فأخبروا بأنّ لله سبحانه وتعالى صفاتٌ ذاتيةٌ هي الحياة والعلم والقدرة، وله صفاتٌ فعلية فهو الخالق الرازق المحيي المميت الغفور الرحمن الرحيم وغيرها.

وصفاته عين ذاته، فهو الأحد الذي لا تركيب فيه ولا حدّ يحدّه ولا نهاية لأمده، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير. فهو الخالق المدبّر العادل الرحمن الرحيم، الواحد القهّار لذي لا ثاني له، هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن، لا منتهى لجلاله وجماله.

امّا أسمه الجامع لصفاته وأسمائه الحسنى فهو لفظ الجلالة ( الله ) سبحانه وتعالى عمّا يصفون: (بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ، قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ، ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ ، لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ ، وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُ).

عقيدة التوحيد هذه ليست فكريةً باهتةً لا أثر لها في حياة البشر، ولا أمرًا جانبيًا ذا أثرٍ بسيطٍ يمكن التغافل عنه. إنّها محور الوجود الذي تدور حوله حياة البشرية منذ بداية الخلق وحتى يومنا هذا، وهي التي تضمن للإنسان الحياة الحقيقية والسعادة الدنيوية والأخروية لأنها تعني أنّ:

  • أن يتحرّر الإنسان من أغلال الهوى (الشهوة والغريزة) ومن قيود الذات والأنانية،
  • أن يتحرر الإنسان من عبادة المخلوق والتذلل له في معصية الخالق،
  • أن يخلص الإنسان عبادته لله وحده لا شريك له دون أغلالٍ او قيود.

لذلك كان تركيز القرآن الكريم على محورية التوحيد في حياة البشر وظواهر الانحراف لدى بعض الأمم السابقة والدور العظيم الذي قام به الأنبياء والرسل لتصحيح مسيرة البشرية. فمن الواضح، أنّ مسيرة التوحيد في حياة البشرية بدأت بأبينا آدم عليه السلام واستمرت حتى يومنا هذا وستبقى هذه المسيرة الخالدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. هذه المسيرة التوحيدية العظيمة الخالدة مرّت وستمرّ بتحدياتٍ عبر العصور ولكن الوعد الإلهي يبقى لعباده الصالحين: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) التوبة:32، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) التوبة: 33.

مظاهر الانحراف:

لقد بدأ الانحراف عن مسيرة التوحيد منذ أن إستكبر ابليس ولم يسجد لأبينا آدم عليه السلام نتيجة تكبّره وعناده وحين توعدّه الله بالنار طلب من الله أن يمهله ليزيّن للإنسان الانحراف عن مسيرة التوحيد. وبعد أن بدأت حياة البشر في هذه الأرض، قتل قابيل أخاه هابيل عليه السلام نتيجة حسده ونزغه، وحين تكاثر البشر، إشتدّ التنافس بينهم وظهرت الخصومات وبرز عبر التاريخ من عبد شهواته ومصالحه المادية او أعتدى على الآخرين فانحرف عن مسيرة التوحيد الخالصة وتآزر مع شياطين الإنس والجّن ونصب العداء لأهل التوحيد، فلم ينكر بعضهم وجود الخالق ولكنّه لم يعترف ببعثة الأنبياء ولا بيوم الآخرة، بل جعل من الأصنام والأوثان أربابًا يدّعِي بانصياعه لهم، وهو في الحقيقة قد عبد هواه ومصالحه الدنيوية (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)، الفرقان: 43.

فمن الملاحظ أنّ أغلب المنحرفين عن مسيرة التوحيد يعترفون بأنّ الله هو الخالق (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ)، العنكبوت: 61. لكنّ بعضهم يرى أنّ الله سبحانه وتعالى ترك التدبير والرزق لغيره من الأصنام والأوثان والكواكب والنجوم والوسائط المادية المحسوسة، لذلك جاء الردّ عليهم (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) الزمر: 38، وبلغ ببعضهم أن أدّعى أنّه ربّ الأرباب (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) النازعات: 24، وأنكر يوم المعاد فلا حساب ولا عقاب (وَكَانُواْ يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)، الواقعة: 47.

مسيرة التوحيد:  

من رحمة الله الواسعة ولطفه بعباده أن وهبهم عقلًا بصيرًا وهو حجةٌ باطنة، وجعل لهم حجةٌ ظاهرة حيث بعث فيهم 124000 أنبياء ومرسلين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب والميزان ليحكموا بين الناس بالقسط والعدل، فكان منهم أولو العزم وهم نوحٌ وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتمُ الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلّم. 

وكان للأنبياء دورٌ عظيمٌ في تأصيل مسيرة التوحيد، رغم العناء والبلاء الذي لاقوه من قومهم، فقد دعا النبي نوحٍ عليه السلام قومه مئات السنين دون كللٍ او ملل (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ  ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَٰلِمُونَ) العنكبوت: 14، (قَالَ يَٰقَوۡمِ إِنِّي لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٌ ، أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) نوح: 2 – 3، (وَيَٰقَوْمِ لَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا  إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ)، هود:29، ولم يستجب له إلّا عددٌ محدود. وهكذا فعل أنبياء الله هودٌ وصالحٌ وشعيبٌ وغيرهم، صالحٌ بعد صالح. لقد كانت مسيرةً قاسيةً طويلةً وداميةً قُتِلَ فيها الأنبياء وسفكت دماؤهم (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّۢ) النساء: 155.

إبراهيم الخليل عليه السلام:

لقد جسّد إبراهيم الخليل عليه السلام مسيرة التوحيد عبر ملحمةٍ عظيمةٍ. إن قصّة نبي الله إبراهيم مليئةٌ بالعبر فقد وقف أمام قومه ناصحًا (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَٰنًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، العنكبوت: 17.

ونهض أمام نمرود صادحًا بالحق (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ  قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) البقرة: 258. فكان ردّهم القاسي العنيف ضدّه: (قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ ، وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ)، الأنبياء: 68- 71. وشاء الله سبحانه وتعالى أن يرزق نبيه إبراهيم رغم كبر سنّه ابنين بارين مصلحين وهما إسحاق وإسماعيل وأن يجعلهما نبيين صالحين وأن يجعله أبًا للأنبياء من بعده.

إنّ مسيرة التوحيد التي عاشها الانبياء والمصلحون مرّت عبر الابتلاء والاختبار والتمحيص، فكان من ابتلاء سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام أن يترك ابنه وحبيبه إسماعيل مع أمّه هاجر عليها السلام بوادٍ غير ذي زرع (في مكة، مئات الكيلومترات عن موطنه الأصلي في فلسطين)، فلم يتردّد بل استجاب ثقةً بالله وايمانًا به ودعا الله (رَّبَّنَآ إِنِّىٓ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجْعَلْ أَفْـِٔدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىٓ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، إبراهيم: 37.

وجاءه أمر الإختبار والامتحان حين كبر ابنه إسماعيل (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ ، فَلَمَّآ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِينِ ، وَنَٰدَيۡنَٰهُ أَن يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ ، قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ، إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَٰٓؤُاْ ٱلۡمُبِينُ ، وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ)الصافات: 102-107. لقد حاول الشيطان عدة مراتٍ أن يثني إبراهيم عن تلبية نداء ربه ففشل أمام عزيمة ابراهيم الصلبة وايمانه الخالص بربّ العالمين. وهكذا إستحقّ إبراهيم عليه السلام أن يكون نبيًا وخليلًا وإمامًا (وَإِذِ ٱبْتَلَىٰٓ إِبْرَٰهِيمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٍۢ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) البقرة: 124. 

لقد شاء الله أن يجعل الحجّ تجسيدًا عمليًا لمسيرة التوحيد التي عاشها نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام وانتصر فيها على الشيطان الرجيم عبر اختبارات عديدة وابتلاءات شديدة، فكان له الخلود عبر التاريخ البشري بهذه الشعيرة العظيمة التي بقيت خالدةً في التشريعات السماوية، (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) البقرة: 127- 129. (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) الحج: 26- 27. يا لها من عظمةٍ إستحقها سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام بكرمٍ من الله ولطفٍ منه تعالى بعد أن محض الإخلاص والإيمان والثقة والطمأنينة في قلبه.

سيد الأنبياء وخاتم المرسلين محمد (ص):

إن أيقونة مسيرة التوحيد العظيمة في الخلق قاطبةً هو النبي محمد، العبد المخلص الصادق الأمين ذو القلب الكبير والخلق العظيم والنفس الزاكية والرحمة الواسعة، أمين الله على وحيه وعزائم أمره، الخاتم لما سبق والفاتح لما أستقبل والمهيمن على ذلك كلّه، فقد كسر الله به الأصنام وتبّر به الأوثان وأحلّ به الحلال وبلّغ به الشريعة.

وقد أسرى به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى وعرج بروحه الى السماء حتى كان قاب قوسين أو أدنى قربًا معنويًا من العلي الأعلى. عصمه الله من الزلل وآمنه من الفتن وطهّره من الدنس وفتح الخير على يديه وشرّفه بالجاه العظيم والشأن الكبير والمقام المحمود والشفاعة المقبولة. لقد شرّف الله به الخلق فجعله نورًا يستضاء به في ظلمات الأرض وتصلّي عليه ملائكة السماء (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) الأحزاب: 56، فكان عبدًا شكورًا لم يعصِ الله طرفة عين، جاهد في سبيل الله صابرًا محتسبًا لا تأخذه في الله لومة لائم.

لقد كانت قريش ومكة تعيش في ظلمات الجهل حيث نصبت مئات الأصنام على الكعبة وانتشر الفسق والفجور وشرب الخمر والفحشاء والربا وسيطرت مصالح زعماء قريش وعاش العبيد تحت قبضتهم، فكانت العرب نهبةً للطامع، وقد أحاطت بهم الأمم مثل فارس والروم، حتى بعث الله نبيه الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم بخير الأديان فنقل قريشًا ومكة والبشرية جمعاء نقلةً حضارية عظمى، أخرجهم بها من ظلمات الجهل ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وألّف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا وأنقذهم من شفا جرف الهلكات ومن النار.

الحسين ومسيرة التوحيد:

مضت خمسون عامًا على وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، عاد الإسلام بعدها غريبًا كما بدأ، وتسلّل الخوف الى قلوب الناس، فأنتشر المنكر وغاب المعروف وشاعت الرذيلة في بعض الأوساط، وأحدق الخطر بمسيرة التوحيد التي رفع لواءها النبي محمد وضحّى في سبيلها أهل بيته وأصحابه الكرام، و إذا بالعصبيات والأهواء والشهوات تعود كما كانت سابقًا، فكان لابدّ لمسيرة التوحيد من دمٍ يسقيها ويروي شجرتها لتعود باسقةً مثمرةً مخضرةً كما كانت أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.

وقف الجميع حيارى ينتظرون من ينبري لإصلاح الأوضاع وإذا بسبط رسول الله وابن بنته الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام يمتنع عن بيعة يزيد بن معاوية ويخرج من المدينة قاصدًا حجّ بيت الله الحرام في مكة، وحين بلغه أنّهم نووا اغتياله ولو كان متعلقًا بأستار الكعبة، خشى أن ينتهك بيت الله الحرام بسببه، فحلّ إحرامه وأعلن نهضته أمام الحجيج (والله إنّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا ظالمًا ولا مفسدًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد ان آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر).

وتوجّه بعدها الى العراق لتحدث بعد ذلك الفاجعة الكبرى، إذ حاصر ثلاثون الف او يزيدون من الجيش الأموي الإمام الحسين عليه السلام ومعه اثني وسبعين من أهل بيته ونسائه وأطفاله في كربلاء، ومنعوهم من شرب الماء ثلاثة أيام، وفي يوم العاشر من شهر محرّم الحرام من عام 61 هجرية، إرتكب الجيش الأموي أفجع مذبحةٍ في التاريخ إذ قتلوا الإمام الحسين سيد شباب أهل الجنة وأهل بيته وأنصاره ومنهم بعض الصحابة كحبيب بن مظاهر شرّ قتلة، وقطّعوا رؤوسهم وطحنوا جسد الحسين تحت حوافر الخيول وسلبوا نساءه من بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسبوهم الى الكوفة والشام وأدخلوهم مجلس يزيد بن معاوية ظلمًا وعدوانًا.

كما جسّد إبراهيم الخليل عليه السلام مسيرة التوحيد في مناسك الحج العظيمة، فقد جسّد الحسين عليه السلام مسيرة التوحيد والإخلاص لله سبحانه وتعالى في ملحمة عاشوراء وتضحياتها العظيمة. لقد نهض سبط رسول الله سيد شباب أهل الجنّة مصلحًا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إحقاقًا للتوحيد وحربًا على الانحراف، فضحّى بنفسه وبأبنائه وأخوته وأنصاره وأهل بيته في سبيل التوحيد، صبرًا واحتسابًا وهو يردّد وحيدًا فريدًا رغم نزف الدماء وكثرة الأعداء بنفسٍ مطمئنةٍ وعينٍ ناظرةٍ لرضا الله سبحانه وتعالى (اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي‌ فِي‌ كُلِّ كَرْبٍ وَأَنْتَ رَجَائِي‌ فِي ‌كُلِّ شِدَّةٍ وَأَنْتَ لِي‌ فِي‌ كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِـي‌ ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ، كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ وتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ ويَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ ويَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ، أَنْزَلْتُهُ بِكَ وَشَكَوْتُهُ إلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي‌ إلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي‌ وَكَشَفْتَهُ وَكَفَيْتَهُ، فَأَنْتَ وَلِي‌ُّ كُلِّ نِعْمَةٍ وصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ ومُنْتَهَي‌ كُلِّ رَغْبَةٍ).

لم ينكسر الحسين وأهل بيته وأنصاره ولم يستسلم ولم يخف بل عاش عزيزًا واستشهد بطلًا فسلامٌ عليه يوم وُلِدَ ويوم أستشهد ويوم يُبعثُ حيًا.

لقد كشفت هذه الفاجعة الكبرى والانتهاك البشع لحرمة رسول الله وعياله حالة الانحراف البشعة التي آل اليها حال المسلمين خلال خمسين عام فقط من وفاة رسول الله (ص)، فلم يراعوا قول رسول الله (ص) (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) الشورى: 23. كربلاء أيضًا مدرسةٌ للإخلاص والعشق لله سبحانه وتعالى الذي عاشه الحسين وأهل بيته وأنصاره، وهي مثالٌ رائعٌ لأخوة العباس بن علي بن أبي طالب وإخلاصه لأخيه الحسين، ولشجاعة علي بن الحسين الأكبر وأهل بيت الحسين ولبطولة الأنصار ورباطة جأشهم وعظم إيمانهم ولقوة زينب بنت علي بن أبي طالب وحكمتها وحفظها لأيتام الشهداء وخطبها التي كشفت بها زيف الأعداء في الكوفة والشام.

الخاتمة:

حين نعيش ذكرى شهادة الإمام الحسين عليه السلام في كلّ عام، ونبكي تلك الدماء الطاهرة التي سُفِكَت في سبيل التوحيد، ونجدّد ولاءنا لمسيرة التوحيد والطاعة والعبادة والإخلاص لله سبحانه وتعالى، فكلّ خطوةٍ نمشيها وكل دمعةٍ نسكبها وكلّ عبرةٍ تتكسّر في صدورنا شهادةُ من صميم قلوبنا بأن لا إله إلّا الله وأنّ محمدًا رسول الله، وشهادةٌ بأنّ الإمام الحسين عليه السلام قدوةٌ لكلّ المسلمين بل لكلّ البشرية ومثلٌ أعلى للشجاعة والتضحية والعشق لله سبحانه وتعالى. لقد تعلّم الكثير من البشر دروس الكرامة والعزة والتضحية من كربلاء وكتب فيها الشعراء والأدباء من كلّ الأديان والشعوب.

(إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة)، ونحن إذ نحيي ذكرى سيد الشهداء الحسين عليه السلام فإننا نعاهد الله سبحانه وتعالى أن ننتصر على شيطان أنفسنا الأمّارة بالسوء وأن نسير على خطى الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره، كما انتصر دمه الطاهر على سيوف أعدائه وكما بقيت ذكراه العطرة خالدةً الى قيام الساعة: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا  وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ  كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚفَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) الرعد: 17، والحمد لله ربّ العالمين.

د. عبد الجليل الخليقة

8 تعليقات

  1. في ميزان حسناتكم يا بو محمد

  2. صلى الله عليك يا أباعبدالله
    احسنتم بارك الله لكم وفيكم ..

  3. احمد العسكر

    احسنت على هذا العطاء والقراءة من عطاءات الحسين عليه السلام.

  4. مقال جميل يختصر المسيره التوحيديه بما لها من إثراء لحياة البشر و ما عليها من مسؤوليات لحفظ هذا الإرث الإلهي لبني البشر- الحمد لله على نعمة الهدايه و الرسالات – كان سادة البشر من أنبياء و رسل و أولياءأشد الناس إبتلاء و جهاد خلال هذه المسيره، و لا شك و لا ريب أن سيدنا و مولانا الإمام الحسين عليه السلام وارث علوم الأنبياء و المرسلين و وارث أمير المؤمنين و وارث فاطمة الزهراء صفوة رب العالمين و وارث الحسن المجتبى عليهم السلام كان الشعله التي أوقدت سراج التوحيد للبشريه أجمع و كانت أصدق تمثيل للقيم و المثل الإنسانيه فقد كانت شهادته و الصفوة من أصحابه و سلب و سبي عياله إنقاذ من الجهاله و حيرة الضلاله (السلام على الحسين رحمة الله الواسعه بعباده).
    بوركت دكتورنا العزيز و رحم الله والديك

  5. مقال جميل جعله الله في ميزان حسناتكم جميعا ودمتم بصحة وعافية

    الحياة قد تتعثر ولكنها لا تتوقف
    ‏والأمل قد يختفي ولكن لا يموت ابدًا
    ‏والفرص قد تضيع ولكنها لا تنتهي
    ‏ومهما ضاقت الدنيا ففرج الله قريب.”

    ……. يحفظكم ربي …….

  6. يوسف محمد الناصر

    مأجورين ومثابين
    مقال ودراسة اكثر من رائعة
    بارك الله فيك استاذنا أبا محمد

  7. أحسنت
    أثابك الله
    عطاء لاينضب

  8. مقال اقل مايقال انه اضاءة رائعة

اترك رداً على Z.Alkhalifa إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *