القطيف مصدر أكبر وأفضل وأكمل وأثمن لؤلؤة فريدة في العالم ومصدر دانات يتيمات أخرى – بقلم عبد الرسول الغريافي*

تم العثور على أكبر وأفضل وأكمل وأثمن درة في العالم وذلك في القرن السابع عشر الميلادي في أحد مغاصات (أهيرة) القطيف.
وقد قَدَّرَ وزنها جورج فريدريك كونز (George Frederick Kunz) بأنه يصل تقريباً إلى ٥٠٠ قمحة (وحدة وزن) وهي تترجم إلى العربية بالقمحة ولكنها بالإنجليزية (grain) أي واحدة الحبوب.

والقمحة (وحدة الحبوب)، هي وحدة وزن تساوي 0.065 جرام، أو 1/7000 رطل. والقمحة إحدى أقدم وحدات القياس المشتركة ومن أصغرها أيضاً، وهي وحدة موحدة مشتركة بين كل من نظام اثقال الأفواردوبوا ونظام الموازين الصيدلانية وكذلك نظام الوزن الترويسي: وهو سلسلة من الوحدات الخاصة بوزن الجواهر النفيسة.

دعنا إذاً نحسب وزنها بالجرام الذي نستعمله في عصرنا الحالي فمن السهل جداً أن نفعل ذلك طالما أننا نعرف أن القمحة تساوي 0.065 جرام، فخمس مئة قمحة تساوي: 32,5 =500× 0.065
نعم وزنها يساوي ٣٢.٥ جرام (اثنان وثلاثون جراماً ونصف) وهذا يعادل وزن يقل بجرام ونصف فقط عن وزن ثلاث جوزات ونصف بالحجم القياسي (جوزات عين الجمل wall nut).


دعني أقرب لك حجمها التقريبي أو وزنها بالجرام لتتمكن من تصور حجمها التقريبي علماً بأن العلاقة بين أوزان وأحجام الأجسام متفاوتة بحسب كثافة مادة ذلك الجسم ولكن مهما كان هذا التفاوت إلا أنه نسبي ومتقارب بين كثير من المواد إلا ماندر كمعدن الرصاص -مثلاً- أو معدن الزئبق السائل، وعموما عند عرض عدة عينات قد تم وزنها ستصل إلى الأذهان فكرة تصور حجم تلك اللؤلؤة القطيفية العالمية بشكل أفضل.

دعني اصطحبك معي في جولة إلى سوق الخضار لأصور بعض ثمرات الفواكه والخضار المحلية منفردة وهي في كفة ميزان الكتروني رقمي لتساعدنا على تصور مقدار حجم اللؤلؤة القطيفية ولو بشكل تقريبي، لقد وجدتها تعادل عدة ثمرات مجتمعة او عدة أحجار كريمة مع فارق بسيط جداً، وإليك عرض ماقمت بوزنه:
١. وزن ثلاثة أحجار كريمة من بينها حجر عين النمر وحجر عقيق يماني وحجر مكون من معدنين مختلفين هما اللازورد والجشمت الخزامي فكان وزن ثلاثة الأحجار مجتمعة مع بعضها في كفة الميزان هو ٣٢ جراماً وهذا وزن متقارب جداً لتلك اللؤلؤة حيث يقل وزن هذه الأحجار الثلاثة مجتمعة عن وزن اللؤلؤة بنصف جرام،،،

لقد تعمدت بأن أختار ثلاثة أحجار لاحجر واحد كبير من أجل التوضيح ومن أجل تصور تلك اللؤلؤة بصورة أقرب إلى الذهن، إن كثافة الأحجار بشكل عام هي أقرب الى كثافة اللؤلؤة من حيث تقارب المواد في الكثافة، فلو تخيلنا هذه الثلاثة أحجار كقطعة واحدة لنحصي أبعادها فسيكون طولها بالملم: ٢٢+٣٢+٢٢= ٧٦ ملم أي أنها تساوي سبعة سنتيمترات ونصف (٧.٥سم) وبزيادة ١ملم، أما معدل ارتفاع الثلاثة أحجار المتراوح بين ١٨ملم و ١٥ملم و ١٣ملم فهو ١٥.٣٣ ملم (أكثر من ١.٥سم)، وأما معدل قطرها (عرضها) المتمثل في الثلاثة أحجار المتراوح بين ٢٥ ملم و ١٨ ملم و ١٥ ملم فهو ١٩ملم، وبالتالي فإن معدل أبعادها التقريبية هي: ٧٦ملم × ١٩ملم × ١٥ملم (ومانتج من حاصل الضرب فهو مقدار حجمها).


٢. قمت أيضاً بوزن حبتين من الكستن (ابو فروة) متوسطتي الحجم خشنتين وصلبتين فكان وزنهما ٣٢ جراماً اي أن وزن الكستنتين معاً أقل بنصف جرام من وزن لؤلؤتنا القطيفية وهذا وزن قريب أيضاً.
٣. ذكرت سالفاً بأن وزنها يعادل أقل بقليل من ثلاث جوزات ونصف من الصنف المعروف بعين الجمل (wall nut) بالحجم القياسي فكان وزن الجوزات أربعة وثلاثين جراماً وهذا الوزن يزيد عن وزن اللؤلؤة بجرام ونصف فقط.
٤. رأس ثوم متوسط الحجم وزنه ٣٠ جراما وهذا أقل منها بجرامين ونصف أيضاً.


٥. ثمرة لومي قطيفية (ليمون) بقطر ٣.٥سم وبحجم فوق المتوسط وصل وزنها ٣٠جراماً فهي أخف بجرامين ونصف من تلك اللؤلؤة.
٦. بيضة دجاج بحجم طبيعي تزن ٤٤جراماً فوزنها أثقل من وزن اللؤلؤة القطيفية بأحد عشر جرامات ونصف، ولكن لاشك أن هذه اللؤلؤة أثقل وزنا من بيضة الحمام.

{أتوقع الآن بعد عرض نتائج هذه التجارب بات من السهل عليك تصور حجمها ولو بشكل تقريبي}

جورج فريدريك كونز كان له تقديراً تقريبياً لوزن تلك اللؤلؤة القطيفية في كتابه: [The book of the Pearl]
وترجمته بالعربية “كتاب اللؤلؤة” وهو في الأساس مُترجَم ومنقول من مصدر مباشر عن كتاب الرحالة والباحث الفرنسي جين بابتيستيه تافيرنير (Jean Baptiste Tavernier) وهو الذي عاصر حدث استخراج تلك اللؤلؤة كما وقد شهد ببع وشراء واقتناء تلك اللؤلؤة أثناء رحلاته الست (٦) بين بلاد فارس والهند وكان ذلك بين عام ١٦٣٠م وعام ١٦٦٨م في عهد الملك لويس الرابع عشر وقد طُبِع كتابه تحت وصايا ورعاية الملك نفسه ومن ثم تم نشره عام ١٦٧٦م بلغته الفرنسية. لقد كان عنوان كتابه: [Les Six Voiage de Jean Baptiste Tavernier] ، وترجمتها الرحلات البحرية الست “لجين بابتيستيه تافرنير”.

في هذا الكتاب ترك لنا تافرنير تراث ثمين وصف من خلاله تفاصيل رحلاته الست وما دار خلالها من أنشطة تجارية في مجال المجوهرات والأحجار الكريمة وما رآه وسمعه من أخبار عنها والتي من جملتها ذلك القسط الوافي عن أخبار وصف تلك الجوهرة القطيفية الفريدة في الوزن والحجم والشكل واللون الذي وثَّقه ونقله إلينا عبر ثلاثة قرون.

هناك فرق زمني كبير بين العصرين اللذين عاشا فيهما هذان الباحِثَان فهو فرق يتجاوز قرنين من الزمن تقريباً؛ فجورج فردريك عاش بين الفترتين ١٨٥٦م و ١٩٣٢م وهو أمريكي الجنسية خبير في المعادن والأحجار الكريمة، وقد وُلِد في نيويورك وبدأ اهتمامه بالمعادن واقتناء الأحجار الكريمة في سن مبكر جداً حتى استطاع جمع أكثر من أربعة آلاف نوع من الأحجار الكريمة والمعادن الثمينة وهو الذي ترجم وصف اللؤلؤة القطيفية من اللغة الفرنسية إلى اللغة الإنجليزية نقلاً من كتاب الباحث الفرنسي جين بابتيستيه تافرنير [Les Six Voiags de Jean Baptiste Tavernier].

وأما عن هذا الشخص المُقَارن الآخر فهو الرحالة التاجر والباحث عن الأحجار والمجوهرات الثمينة (Jean Baptiste Tavernier). (جين بابتيستيه تافيرنير) فقد وُلِد في باريس بفرنسا وعاش بين عامي ١٦٠٥م و ١٦٨٩م وقد وافاه أجله في موسكو بروسيا ودفن هناك فهو ممن عاشوا في القرن السابع عشر.

ينقل جورج فردريك في كتابه (كتاب اللؤلؤة) عن كتاب جين تافينير (رحلاته الست): أنها أكبر وأكمل لؤلؤة اكتشفت على الإطلاق وخالية من أقل العيوب: {The largest and most perfect pearl ever discovered, and without the least defect} ، وقد أظهر تجسيد شكلها وحجمها في كتابه في خمسة رسوم من جوانب مختلفة.

من الذي اشتراها؟ وكم كان ثمنها؟ ومن هو التاجر الوسيط في بيعها؟

يقول تافينير لقد كانت تلك اللؤلؤة من أثمن مقتنيات سفاح الدماء الشاه الصفوي في بلاد فارس الشاه صفي الذي خلف الشاه عباس الأول وحكم في الفترة مابين ١٦٢٩م و ١٦٤٢م. لقد اشتراها هذا الشاه عام ١٦٣٣م من أحد غواصي اللؤلؤ في القطيف وقد دفع فيها ٣٢٠٠٠ تومان (اثنان وثلاثون ألف) من العملة الإيرانية وهي تعدل ١٤٠٠٠٠٠ ليره فرنسية (مليون وأربع مئة ألف ليرة فرنسي) ، وهي العملة المتداولة في فرنسا في ذلك العصر وهو مبلغ يعدل 552000$ دولار (خمسمائة واثنان وخمسون ألف) دولاراً أمريكياً حسب تحويل جورج كونز في كتابه، وبذلك فقد حملت تلك اللؤلؤة أسم أول مالك لها “شاه الفرس صافي” وهذا هو المعتاد في عالم اللآليء الفريدة لابد لها أن تحمل اسم للشخص الذي اكتشفها أو باعها او اشتراها أو اسم البلد الذي اكتشفت فيه.

جاء هذا التقدير لوزنها وهو الخمسمائة قمحة من جورج كونز وفيما يبدو أن تافينير قد منح امتياز صلاحية فحص تلك اللؤلؤة خلال إحدى رحلاته البحرية عند مروره على اصفهان عاصمة الفرس في ذلك العصر (القرن السابع عشر). ولكن لسؤ الحظ أن تافنير لم يذكر وزن اللؤلؤة والتي قدرها جورج فردريك كونز معتمداً على تخطيطها البياني كما جاء في التصميم الذي رسمه تافينير في التخطيط رقم ١ وطريقة هذا التصنيف مُعتَمد استعمالها حتى بداية القرن العشرين حيث يطلق عليها (جي ون G1) كما سيرد توضيحه، ويقول من المحتمل الكبير أنها على شكل قطرة.
أما السمسار الذي سعى في بيعها فهو أحد طوّاشي البحرين المرموقين فقد تجشم عناء السفر بها إلى بلاد فارس والتقى مع شاه إيران الصافي وقد تم التفاوض معه على سعرها كما وقد تم بعدها البيع واستلام المبلغ.

الوصف وجودة اللون والشكل والسطح:
لم يذكر تافرنير لون اللؤلؤة ، لكن كونز وصفها بأنها ربما تكون اللؤلؤة المكتشفة الأكبر والأكثر كمالاً عرفت على الإطلاق وهي على هيئة قطرة، كما أنها لؤلؤة صدفية من المياه المالحة حيث أنها اكتشفت في مياه الخليج. ويقول انه طبقا لما جاء من وصف تافرنير فمن المفترض أن لها لون متميز بالإضافة إلى لمعان وبريق متوافقين مع كونها اللؤلؤة الأكثر كمالاً اكتشفت على الإطلاق بالإضافة إلى أنها الأكثر نصاعة في البياض بدرجة تناغمات فضية توافقية وذات تميز ببريق لامع.

وهي تخلو من أقل العيوب وهذا ما أشار إليه المرجع الأصلي وهي ذات جودة عالية في سطحها الأملس ولربما أنها خالية حتى من أقل عيب على الإطلاق. أصبح اسمها الآن “لؤلؤة الشاه صافي” وهي مُدْرَجة في قائمة المشاهير اللؤلؤية على أنها الأشهر في العالم وإنها رابع أكبر لؤلؤة على شكل قطرة وهي كمثرية الشكل وانها ثامن أكبر لؤلؤة عرفها التاريخ في العالم.

أما أكبر لؤلؤة سجلها التاريخ فوزنها ٥٠٤ قمحة وهي لؤلؤة فرانكودز گوجيبوس (Francods Gogibus) القادم من منطقة كاليه الفرنسية والذي جلبها من جزر الهند الغربية من أجل الشهرة عام ١٦٢٠ وقد اقتناها ملك اسبانيا فيليب الرابع الذي توفي عام ١٦٦٥، وبوفاته أختفت تلك اللؤلؤة عن الأنظار ولم يعرف أحد مصيرها مطلقا غير أنها عادت إلى الظهور ثانية في يوم ٢١ يناير من عام ٢٠١٠م بعد إختفاء دامت مدتة ٣٤٥ عاماً تحت ظروف غامضة وكان ظهورها هذه المرة من أجل بيعها في مزاد علني ضمن مجموعات “باول فريزر” وقد أُفصِح في الإعلان على أنها لؤلؤة گوجيبوس.

هذه اللؤلؤة وإن زادت عن لؤلؤة القطيف في الوزن بأربعة جرامات إلا أنها لم تصل إلى درجة الكمال واللمعان والخلو من العيوب كما اللؤلؤة القطيفية.

مقارنات:
هناك لآليء تصل أحجامها إلى أكثر من عشرة (١٠) مل كما هو الحال في لؤلؤة الكويت الآخذة شكل القطرة وذات الأبعاد: ٤١ ملم× ١٩ملم، وهناك أيضاً لؤلؤة آسيا ذات الأبعاد: ٧٦ملم × ٥٠ ملم × ٢٨ملم. أما لؤلؤة شاه صافي المستخرجة من قيعان أهيرة القطيف فرغم أنه لم تذكر أبعادها إلا أن وزنها ينطق بأنها دون أدنى شك هي الأكبر وذلك لأن وزنها يقدر ب ٥٠٠ قمحة، فلؤلؤة بهذا الوزن الكبير لا تقارن أبعادها بغيرها من السابقات الذكر. أما لؤلؤة گوجيبوس “Gogibus” والتي وصل وزنها التقريبي ٥٠٤ قمحة فقد كان أبعادها ٦٣ ملم × ٥٠ ملم فهي بلا شك أنها اقرب بكثير إليها في الوزن فالفرق بينهما من ١ إلى ٤ قمحات فقط.

جانب تاريخي لمغاصات القطيف
لقد كسبت سمعة مغاصات القطيف شهرة عالمية واسعة منذ عصور قديمة جداً لدرجة أن أخبارها قد وصلت إلى أوروبا القديمة فقد وثقها -مثلاً لاحصراً- المؤرخ بليني (Pliny The Elder) والمكنى بالأرشد وذلك في موسوعتة الكبيرة “Histora Naturalis” والتي ترجمتها “التاريخ الطبيعي”،
وقد نشرها في آخر أيام الإمبراطورية الرومانية (البيزنطية وقتها) وقبل أن يقضي نحبه بعدما ثار عليهم بركان فيزوف في بمومبي عام ٧٩ ميلادي. كانت موسوعته متخصصة في توثيق ووصف كل ما يُنتَج ويُكتَشف في الحياة الطبيعة الفطرية في أنحاء العالم وقد سجل فيه الفرائد والنفائس الطبيعية فكان من جملة ماوثّقه هو الحديث عن مغاصات القطيف والتي سماها باللاتيني (قطيفا) [(El Katiff) Catifa].
قال فيها أنها “منطقة واقعة على سواحل الجزيرة العربية في الجهة المقابلة لسواحل البحرين وأنها مركز مهم لصيد اللؤلؤ”. هذه العبارة التوثيقية التارخية تكشف لنا ان القطيف وما جاورها من المناطق القديمة كانت تمارس مهنة الغوص لصيد اللؤلؤ منذ عصور ساحقة فهذا توثيق ناهز الألفين سنة.

يعود جورج فريدريك لوصف منطقة اكتشاف لؤلؤة شاه صافي بقوله:
إن مصدر تلك اللؤلؤة الفريدة هو القطيف (El Katif) المنطقة الواقعة على الخليج، ثم يستند فيما كتبه على توثيق تافرنير الذي قال أن من قام بصيد لؤلؤة شاه صافي هم بحارة من أهل القطيف وقد تم صيدها من بحر القطيف وهي منطقة ضاربة في القدم وقد اشتهرت منذ عصور سحيقة بصيد اللآلئ من أعماق الخليج في الساحل الغربي منه المواجه لشبه الجزيرة العربية وهي أغنى مصادر اللؤلؤ في الخليج العربي والمركز حول جزيرة تايلوس -كما يسميها الرومانيون (هكذا نقله فردريك).

إن منطقة صيد اللؤلؤ في القطيف تقع في الجانب الآخر من البحرين والممثلة لساحل الخليج الغربي المطل على شبه الجزيرة العربية -في الضفة المقابلة للبحرين- والغنية بمغاصات اللؤلؤ وكثرتها وكبر أحجامها وهذا هو السبب الذي جعل البرتغاليين يسيطرون على هذه المنطقة بدءا من عام ١٥٢١م وقد فرضوا على أهلها ضرائب باهضة من أجل السماح لهم بصيد اللؤلؤ خلال فترة سيطرتهم التي استمرت على مدى أكثر من قرن من الزمان.

لقد كتب جي. أتش. ڤان لينتشوتن (J.H. Van Linschoten) الذي التقى بصيادي اللؤلؤ لمنطقة الخليج العربي أثناء زيارته للخليج عام ١٥٩٦م عندما كانوا تحت السيطرة البرتغالية، قال في كتابته: “إن أفضل أنواع اللآلئ وأكثرها أصالة في جميع بلاد المشرق، هي تلك اللآلئ التي تنتجها المنطقة الواقعة بين مضيق هرمز والبصرة وتحديداً في المكانين المسميين بارين وقطيفة [Bareyn and Catiffa] (ويقصد بهما البحرين والقطيف) ويضيف إليهما منطقتي (Julfar) و (Camaron) كمناطق أخرى.

ثم يعلق جورج فريدريك بأن القطيف تلك المنطقة العريقة جداً والتي يرجع تاريخها إلى ماقبل العصر البرونزي -إلى ٣٥٠٠ سنة قبل الميلاد والواقعة في أكبر واحة في العالم وذلك في الساحل الغربي من الخليج العربي حيث يضيف قائلاً إن منطقة القطيف قد ذُكرت في كثير من النصوص الآشورية والأكادية والسومرية بالإضافة إلى أنها قد خضعت إلى الحكم الأكادي والبابلي وكذلك أنها خضعت إلى الحكم الآشوري من تاريخ ١٠٠٠ قبل الميلاد إلى ٦٠٠ قبل الميلاد بالإضافة إلى السيطرة الساسانية.

وكانت القطيف معروفة عند الفينيقيين القدماء وكذلك عند الإغريق وقد لعبت دوراً في تاريخ هذه الحضارات. كما ويذكر أهمية القطيف التجارية على أنها كانت مركز تجاري هام لما لها من استراتيجية في الموقع بالنسبة لمنطقة الخليج بالإضافة لثرائها بالموارد الطبيعية بما فيها اللؤلؤ الذي جعل من القطيف بلد ثرية وكذلك بلد مشهورة منذ أزمنة قديمة.

كان اليونانيون يدعون القطيف كيتوس “Caetus” وفي بعض الخرائط التي رسمتها الدول الأوروبية القديمة كان مسمى جميع الخليج فيها هو “بحر القطيف” ويكتب: “Sea of El Catif”.

ومن الواضح أن جذورها الضاربة في أعماق القدم انعكست على كثرة القلاع والحصون والقصور والأبراج بالإضافة إلى الأطلال والمدافن القديمة المتوزعة في انحائها، كما أن القطيف قد لعبت دور المفتاح للطريق التجاري بين الشرق والغرب والذي يقوم بخدمة المركز التجاري ونقطة العبور بين الشرق والغرب لتجارة التوابل التي مصدرها شبه القارة الهندية، ففي القطيف كان لابد للسفن المارّة من أن تفرغ شحنات سفنها في مرافئها استعدادا للإنطلاق لأوروبا وكذلك من أجل التزود بالمياه وبعض الأطعمة، كما وقد عُرفت القطيف في الأزمنة القديمة بأنها مركز مشهور لمصانع الأسلحة الحربية حيث اشتهرت بالرماح الخطية “Khutti Spear” السلاح المفضل عند أشهر الفرسان الأقوياء والشجعان.

مميزات مغاصات (أهيرة) لآليء القطيف:
من المؤكد أنه على مر سالف العصور لم تكن لؤلؤة شاه صافي القطيفية هي آخر لؤلؤة يتيمة استخرجت من قيعان أهيرة القطيف وبهذا الحجم أو بهذه المواصفات الفريدة فلا شك أن هناك حكايات وأخبار كثيرة طالما أن أهالي القطيف وما جاورها من مناطق الخليج قد امتهنوا مهنة الغوص من أجل صيد اللؤلؤ منذ زمن سحيق وطالما أن القطيف قد امتازت بمغاصات (أهيرة) عديدة وذات صفات متميزة يطمح جميع سكان الخليج الغوص فيها من أجل الحصول على المزيد.

لقد تواترت الأخبار عن اكتشاف العديد والعديد من تلك اللآلئ على مر الزمن في مغاصات بحر القطيف والذي كان يعرف في تلك الآونة بإسمها (خليج كيتوس تارة وخليج القطيف تارة أخرى) فهناك الكثير ممن تحدثوا عن بعض اللآلئ الكبيرة المكتشفة والتي بيعت بأسعار يعجز عن دفع ثمنها كبار تجار اللؤلؤ (الطواويش) المحليين حيث أنه من المعروف أن مغاصات القطيف كانت الأكثر والأفضل بين الكثير من مغاصات منطقة الخليج وإليك استعراض لبعض أشهرها والمعروفة محلياً “بالأهيرة” ومفردها “هِير” وهي من أصل فارسي بمعنى قاع البحر.

ذكر عيسى القطامي في كتابه “دليل المحتار في علم البحار” الذي نشره عام ١٣٨٣هج/ ١٩٦٤م أن المغاصات في عرف الغواصين الخليجيين تنقسم إلى خمسة أقسام وهي:
١. مغاصات الكويت (قريبة من سواحل الكويت).
٢. مغاصات القطيف تقع أمام القطيف.
٣. مغاصات البحرين تقع شرقي جزر البحرين وشماليها.
٤. مغاصات قطر تقع أمام شبه جزيرة قطر.
٥. مغاصات عمان وهي المقابلة لساحل عمان والقريبة منه.

وقد نقل سيف بن مرزوق الشملان صاحب كتاب تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي في الجزء الأول صفحة ٤٤٧ نفس تلك المغاصات الشهيرة الخمسة ليستشهد بها وأضاف الكثير من الأخبار حولها وقال من جملة كلامه معلومة مهمة وهي أنه “ليس هناك حدود بيِّنة تفصل بين مغاصات القطيف -مثلاً- ومغاصات البحرين أو مغاصات قطر وعمان وليس هناك حواجز جغرافية عند الغواصين، فللغواص البحريني -مثلاً- أن يباشر الغوص في أي مكان من الخليج كما لم يسبق احد أن منع احد من مباشرة الغوص في جهة ما”.

عندما ذكر عيسى القطامي في كتابه “دليل المحتار في علم البحار” خمسة مغاصات “أهيرة” لكل منطقة من هذه المناطق فما كانت إلا مجرد نماذج قد اكتفى بها، فكانت أهيرة القطيف التي اختارها كنموذج ليوثقها في كتابه هي من بعض الأهيرة المهمة وهي: ١. خوره. ٢. خبابان. ٣. أبو دقل. ٤. الوشيرة. ٥. أبو سعفة.

لقد اكتفى بهذه الأهيرة الخمسة للقطيف كما اكتفى أيضاً بذكر خمسة أهيرة من كل منطقة من تلك المناطق الخمس الآنفة الذكر، لكن دعني استميحك العذر بتزويدك بالمزيد من مسميات بعض مغاصات القطيف التي منها:

مغاص الواسعة الشمالية والواسعة الوسطية بين الفالقتين والسافلية وأم الخريد والدويسين والبطين (وهو مجموعة من الأهيرة تمتد من الزور إلى راس تنوره)، وهناك أيضاً الغمره والجدره (اليدره) والكاش والصفق ولجعيلية والبهيم (أبو البهيم) ولغبية ومسحة (الممتد إلى النجفة والجفيف \اليفيف) وأبو ديچ (ديك) وراس العيچ وخور الفنية والشاغلي وظهر لعليان والغُبُر وأبو الجوافير الممتد إلى جزيرة الحالة والمعروفة أيضاً بحالة الفاتح وحد اللوه وكذلك بين احظور ناصر ولزياج أو لحزيز: (موطن سمك الصافي) وأم جراد وأم لخريش ولخشينه وجميعها على دام خور اسبيطي وخبان والصيّاع وأبو ديقار وأبو دقل وأبو ادقيل والصِلاّة والسلاّة والقمره والصفره وأبو لعروق واليشير ولعبر والسليمونية وبدع جاسم والسطوة والشري وصليف وأبو الجعل وأبو الخرز واشتية ولعميرة والنيوة وراس الوقف ولسلقه والدردور والقحة وأبو حاقول.

لقد اتسمت أهيرة القطيف بميزات قد تختلف فيها عن أهيرة بعض مناطق الخليج حيث أن أهالي القطيف لايمكثون في مغاصات منطقتهم لفترات أكثر من ١٢ أو ١٤ يوم بخلاف أهالي بقية مناطق الخليج الذين يمكثون لمدة شهرين متتابعين أو تزيد قليلاً والسبب هو قرب المغاصات من الشواطئ وهذا أيضا أحد الأسباب التي جعل الكثير من غواصي بعض مناطق الخليج يفضلون الغوص في أهيرة القطيف ولأسباب أخرى أيضاً سيرد ذكرها ولاسيما ذلك التصالح السائد المعروف فيما بين جميع غواصي الخليج والنواخذة وأصحاب السفن في أن المغاصات في كل مكان في الخليج مشتركة وليست حكراً لأصحاب اهالي المنطقة كما ذكرت، فأصحاب كل سفينة ومن أي منطقة خليجية كان بإمكانهم أختيار أي مغاص من مغاصات الخليج كيفما وبقدر مايحلو لهم.

بعد عرض جميع تلك الأهيرة القطيفية والتي يشهد لها جميع خبراء صيد اللؤلؤ في تلك الآونة بأن أكثر وأغنى منطقة خليجية بالأهيرة هي المنطقة الواقعة بين البحرين والقطيف، وأن قيعان هذه المنطقة تمتاز أيضا بوجود ينابيع مياه عذبة في أعماق البحر ويمكن للغواصين النزول بالقربة ليملأ كل غواص قربته من تلك المياهها العذبة ومن أشهرها الينابيع التي هي في خور ملاك الممتد من سيهات حتى شمال شرق عنك (المجيدية اليوم) وتعرف بالشيفي والخالي وهي مجموعة ينابيع حلوة في قاع البحر، والثانية عين احمسة بين صفوى ورحيمه والجبيل قبل نافذ كرنيش راس تنوره اليوم وهناك العديد منها وبعضها في محاذاة شواطيء حي الكويكب والشويكة. ولمغاصات البحرين امتياز في كثرة ينابيعها المغمورة تحت الماء والواقعة في وسطها.

اكتشاف لآلئ قطيفية أخرى متميزة

هل كانت لؤلؤة شاه صافي هي أول وآخر لؤلؤ قطيفية بهذا التميز؟

من جملة ما ذكر من اللآلئ القطيفية المشهورة في بداية القرن العشرين وقبيل ان يترك الناس مهنة الغوص في نهاية أربعينات قرن العشرين كانت هناك لؤلؤة بحجم ومواصفات الجوهرة وقد عرفت بجوهرة أبو عبدالله وكنيته “سؤ الدهر”، وأما الغواص الذي تمكن من صيدها فهو الغواص حسين بن اسعيد “أبو صالح” من أهالي القديح وقد استخرجها من (اخربه)، ولخربه أو الخرابة هي محارة تكون عادة كبيرة تهاجمها الأسماك لأكل لحم جوفها والأسماك هم خير من يجيد اختيار المحارة ذات اللحم والحجم الكبير وبالتالي فهي النوع الذي يحتوي على أفضل وأكبر اللؤلؤ وهناك العديد من القصص التي سردت حول اللآلئ الخليجية التي استخرجت من محار لخربات أو الخرابات وكانت بداخلها لآلئ ذات مواصفات عالية الجودة والحجم والثمن.

جوهرة أبو عبدالله عندما فلقها صاحبها وهو في وسط المركب وكان يحيط به بعض من زملائه من الغواصين أصيب بما يعرف بحجر البهته!

نعم حجر البهته الذي قد لايصدقه من لم يعاصر تلك الأيام أو لم يعرف حقيقة ظروف الحياة فيها وقد يقول قائلهم: (ماتسوى عليه) إنما في الواقع (تسوى ونص!) قديماً كانوا عندما يرون شخصا مبتهجاً جداً أو في حالة نشوة من فرحة كبيرة وضحكاته تملأ شدقيه وقهقهاته المتعالية تملأ الرحب فعندها نسمع أحدهم يعلق على وضع هذا الشخص بقوله (ولا فالق جوهره!) أو (ويش فيك كأنك فالق جوهره؟!) ويقصد بفلق الجوهرة هنا عندما يفلق أحد غواصي اللؤلؤ محارة ويجد داخلها لؤلؤة تصنف بالجوهرة، ولكن هل يستحق هذا الإكتشاف كل هذا السرور؟

بكل تأكيد نعم يستحق ذلك! ففالق الجوهرة يتبدل فجأة سؤ حاله وشقاءه إلى نعيم حسن الحال، فأول مبادرة يقوم بها هو (كسر الغوص) وكما يقال (كسرنا الغوص بسنداله) ويقصد بها (سندان الحداد) أي وضعنا الغوص فوق السندان وجرت عليه رؤوس المطارق تهشمه حتى لم يعد موجوداً ولم يعد الذهاب إليه مستساغاً وهذا كناية عن ترك الغوص والبحر وشقاء أهوالهما والإستغناء عنهما ليتجه إلى رغد العيش بقية حياته القادمة وتأمين مستقبل أولاده وكل ذلك من خيرات ماحصل عليه من نصيب من ثمن تلك الجوهرة!

فلم لا وحسب التقديرات أنه بالإمكان تشييد بلد كامل بثمن تلك اللؤلؤ لذا فمن الطبيعي عندما مايكتشفها أحدهم فإنه يصاب بتلك الأعراض والمتعارف عليها بين البحارة والغواصين بأنه قد أصيب بحجر البهت حيث تخار قواه وتنهار أعصابه وربما أغمي عليه من شدة السرور والحبور الذي يعيشه وحينها يتلقفها من بين يديه من يجلسون حوله من زملائه خشية أن تفلت من يده وتسقط في مياه البحر ثانية، وبعد أن تؤخذ منه تُلَفُ على الفور في قطعة قماش حمراء اللون مخملية الصنف يعرفها أهل الغوص بالنوف.

وقد سميت هذه الحالة التي يصاب بها مكتشف الجوهرة بحجر البهت لأن الجوهرة تصنف من الأحجار الكريمة وإن بعض نفائس الأحجار الكريمة يطلق عليها هذا الإسم لما يعتقدونه أن لتلك الأحجار تأثيرات إيجابية وأخرى سلبية على الإنسان، فهي تبهته وتضعفه عندما يمسك بها! بينما الواقع هو التأثير النفسي الذي يسيطر على مكتشفها لما ينتابه من انذهال وفرحة لتأمين مستقبله الإقتصادي.

صفات جوهرة أبو عبدالله:
كان وزن تلك الجوهرة يقدر بمئة (١٠٠) چواً والحبة تزن خمسة أچوا أي أنها ٢٠ حبة، وأما شكلها فقد صنف بالقبة /جالس أي انها ذات درجة كمال في الإستدارة مثل(التيلة) أو البِلية. وأفضل تصنيف عالي للجوهرة يسمى جي وَنْ ومن المؤكد ان مسمى هذا التصنيف جاء من الهند وهو من أصل أنجليزي (G 1).

وهذا يدل على كمال الجوهرة وكبر حجمها فجوهرة بهذا التصنيف لاشك أنها استحقت تقدير عالي لسعرها وقد تم تثمينها بواسطة شخصين خبيرين أولهما الجوهري والطواش الكبير عبدالله بن حبيب (أبو حسين) وهو من كبار المثمنين من سنابس لقد ثمنها بمبلغ لايقل عن خمسة وخمسين ألف روبية، وقد أكد هذا التثمين أيضاً كبير الطواشين وهو علي بن عبدالله الشيخ آل سيف.

لقد أوصى الحبيب بأن لاتباع هذه الجوهرة بأقل من هذا السعر بالإضافة إلى الشروط، والشروط هي مبالغ يدفعها المشتري نفسه بالإضافة الى ثمنها تصل إلى خمس مئة روبية إضافية يُدفَع منها لكل من الغواص الذي اصطادها والشخص الذي قام بفلقها والسيب بالإضافة إلى النوخذه الذي وصل نصيبه منها إلى ١٠٠٠ روبية، كل هذا المبلغ غير داخل في سعرها الأساسي، ولقد أكد الحبيب بأن تجار بمبي بالهند سيبيعونها بمبلغ لايقل عن مئة وخمسين ألف روبية (150000).

إن مثل هذه الجوهرة لايستطيع شخص تاجر لؤلؤ واحد شرائها بمفرده فحين انتشر خبرها قدم من البحرين ثلاثة طواويش من كبار تجار اللؤلؤ في البحرين للإشتراك في شرائها وهم محمد بن علي الزياني والسيسب وعبدالله سوهد وقد انضم إليهم طواش آخر من تاروت وهو عيسى سليس وقد تم بيعها ب ٥٧ ألف روبيه وهو مبلغ لايستطيع دفعه شخص واحد فقط من أجل ذلك كان البعض يعلق بقوله: إن مثل هذا المبلغ كفيل بأن يهدم بيوت تاروت بأكملها ويعيد بنائها من جديد (في ذلك الزمان).

{أما سعيد الحظ أعني الغواص الذي اصطادها فقد كان يدعى حسين بن اسعيد (أبو صالح) من أهالي القديح}

ليس أهالي القطيف وحدهم من غاصوا في أهيرة القطيف وحصدوا منها اللآلي اليتيمة والتي تعرف عندهم محلياً بالدانة الغلطانه وقد كانت تلك اللآلي تسمى بهذا الإسم لسببين أولهما لأنها أخطأت وكأنها تمردت فخرجت عن طبيعة حجم اللؤلؤ المألوف والمعروف عند الجميع كبقية اللؤلؤ المعتاد حين تجاوزت الحجم والشكل واللون ودرجة النقاء والصفاء واستقامة السطح وتمام الإستدارة الطبيعية التي تعَّود الناس على رؤيتها ولذلك يطلق عليها أيضاً اليتيمة والفريدة، وثانيهما لأن من يكتشفها يكون غير متوقع فترفع من حظه إلى السماء وكأن لسان حال من فاز بصيدها يسألها بقوله هل انتي متأكدة أم أنك غلطانه عندما وقعتي في يدي ورفعتي من حظي؟

وإليك حكاية “دانة غلطانه” أخرى اصطادها غواص كويتي من وسط أهيرة القطيف وذلك طبقا لما جاء في الاتقاق بأن الأهيرة ليست حكراً على أهل منطقتها حيث يذكر سيف مرزوق الشملان في كتابه تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي الجزء الأول ص ٣١٥ بأن السيد هاشم الرفاعي من الكويت توفق في العثور على لؤلؤة كريمة في هيرات مغاصات القطيف وجاء بها إلى دارين ميناء الغواصين الكبيرة التي يقصدها تجار اللؤلؤ للبيع والشراء فباعها على التاجر الكويتي الكبير هلال بن فجحان المطيري بمبلغ خمسة وأربعون ألف روبية وأما هلال فقد ربح فيها مبلغاً طائلاً حيث يقال أنه باعها بمئة ألف روبية فأصبحوا يسمونه سيد دانه بدلاً من سيد هاشم واشتهر في الكويت بهذا الإسم وكان ذلك تقريباً عام ١٣٥٤هج الموافق ١٩٣٥م.

ويذكر الشملان أيضاً في نفس كتابه هذا ص ٣١٣ بأنه تم أكتشاف دانة غلطانة أخرى بيعت بسعر الجوّ الواحد ثلاثة آلاف روبية وقد اشتراها أحد تجار اللؤلؤ من القطيف والتي اكتشفت من احد مغاصات القطيف الواقعة جنوب الجبيل وكان وزنها ١٨ جواً بيعت بمبلغ ١٨٠٠٠ روبية (ثمانية عشر ألف) وقد باعها هذا المشتري على عبدالرحمن القصيبي بمبلغ ٢٨٠٠٠ (ثمانية وعشرين ألف) روبية والقصيبي بدوره باعها بمبلغ خمسين ألف روبية على (البيك) وهو تاجر لؤلؤ فرنسي (ص ٣١٣).

ويذكر أيضاَ في نفس كتابه (ص ٣١٤) أن عمر بن ياقوت كان يجمع محاراً ليستعملها كجيمات (كطعم) في القراقير لصيد السمك وكان في هير خلالوه (في خور البلبول الواقع في القطيف وقتها) ولما فتح المحار بقصد جمع لحومه لصيد الأسماك تفاجأ بوجود لؤلؤة بمستوى حجم الدانة الفريده (دانة غلطانه) كان وزنها ١٧٠ جواً باعها في دارين مركز من مراكز الغوص وذلك على محمد بن علي الزياني من أشهر تجار اللؤلؤ (من البحرين) بمبلغ خيالي قدره مئة وعشرة آلاف روبية، وأما الزياني فقد باعها في الهند بمئة وسبعين ألف روبية عام ١٣٣٧ هجري الموافق ١٩١٨م (ص٣١٤ ج١).

ماذا يميز مغاصات (أهيرة) لؤلؤ القطيف:
وكما سلف الذكر وبشهادة جميع أهالي الخليج: أولا أن مغاصات الخليج في أي بقعة من الخليج هي ليست حكراً على أهل منطقتها وانه لم يحدث أي خلاف يذكر بين أهالي الخليج ولا تبرم أحد من أحد فلأصحاب أي محمل من الخليج الحق بأن يتجهوا لأي مغاص كان في الخليج ويستخرجون مايحلو لهم من اللآلي وقد سلموا من ذلك إلا من هجمات القراصنة وبالأخص البدو، كما وأن سفن تجار اللؤلؤ (الطواشين) تحوم حول سفن الغوص ليتدارك هؤلا التجار شراء السلع أولاً بأول.

وثانياً وبشهادة الجميع أيضاً سواءً ماتناقله الأجيال عن الأجيال أو ما سُطِر بين طيات كتب التاريخ هو أن أغنى منطقة في مغاصات اللؤلؤ هي المنطقة الواقعة بين البحرين والقطيف سواء في كثرة المغاصات (الأهيرة) أو وفرة محّار اللؤلؤ وكذلك جودة لآلئها ماحدا بغواصي الخليج أن يركزوا وجهاتهم شطر هذه المنطقة فعلى سبيل المثال ماينقله سيف في كتابه تاريخ الغوص على اللؤلؤ حين قال بأن “مغاصات الكويت صغيرة المساحة ومحددة على عكس مغاصات البحرين والقطيف الواسعة الانتشار وقد أُطلق على قيعانها لقب نجيده- أي جيدة”، وخير دليل على ذلك أنه في سنة الطبعة عام ١٣٤٤ يوم ١٣ ربيع الأول الموافق ١٩٢٥م قد تم العثور على الكثير من جثث الغرقى في بحر القطيف وكذلك البحرين من مناطق متفرقه من بقاع الخليج من الكويت وقطر والإمارات وحتى عمان ومناطق أخرى.

كما ويؤكد هذا التميز أيضاً الرحالة الشهير ابن بطوطه المتوفي عام ٧٧٩ هجري الموافق ١٣٧٧ ميلادي الذي زار البحرين والقطيف وبعض جزر الخليج منها جزيرة قيس وخارك والتي وصفها مجتمعة بأنها من أهم مواطن الغوص في الخليج حيث يصف رحلته إليها عندما تطرق في حديثه إلى الغوص على اللؤلؤ في صفحة ٢٧٩ في الطبعات الحديثة فكان يقول: “مغاص الجوهر فما بين سيراف والبحرين في خور راكد مثل الوادي العظيم فإذا كان شهر أبريل وشهر مايه تأتي إليه القوارب الكثيرة فيها الغواصون وتجار فارس والبحرين والقطيف”.

ومن ناحية أخرى كانت مغاصات منطقة القطيف مفضلة عند أهالي الخليج فهي بيئة سهلة المنال ومريحة في الغوص وثرية بالمحار العالي الجودة وبهذا يرغب الجميع في التوجه للغوص فيها وباقتناع العاملين على سطوح تلك السفن من غواصين ونواخذة وطواويش لما يتوفر فيها جميع مايتمنونه ويحققون فيها أحلامهم من وسائل تسهيل الصيد وراحة البال وفرص النزول في مواقع للإستجمام فجميع مغاصاتها (اهيرتها) كانت في المتناول وقريبة من الشواطئ لدرجة أن أهالي القطيف قد استمتعوا بتميز لم يحظ به بقية غواضي مناطق الخليج وهو قصر مدة المكوث في البحر أيام الغوص (بين الدشات والقفال) فكانت مدة البقاء في أهيرة القطيف (كما أسلفت) تتراوح بين ١٢ يوماً إلى إسبوعين فقط بينما في بقية الخليج تستغرق (الرَدَّة) عندهم شهرين فأكثر بل تصل الى أكثر من اربعة أشهر وفي هذا الصدد يخاطب الشاعر الفلكلوري البحر في قوله:

توب توب بابحر
ماتخاف من الله يابحر
أربعة والخامس دخل

ويقصد هنا بالأربعة والخامس دخل هي عدد الشهور التي يمكث فيها البحارة في وسط عباب البحر، فإذا ماقورنت بدشات القطيف التي لاتستغرق إلا أياماً معدودوات فسندرك حينها أنها إحدى مزايا الغوص في أهيرة القطيف والتي جعلت أغلب سفن غوص اللؤلؤ في الخليج تتجه إلى مغاصات القطيف.

أثناء فترات الغوص في مغاصات القطيف وسط عباب البحر لايقلق العاملون فوق السفن خوفاً من نقص مياه الشرب مطلقاً! فهناك ينابيع مياه مغمورة في قيعان تلك المغاصات تتدفق بمياه عذبة يغطس إليها الغواصون (بالقربه) وبطرق معينة متبعة تمكنهم من ملئها بتلك المياه العذبة ومن ثم الصعود بها على ظهر السفينة. وجدير بالذكر أن تلك المياه العذبة عندما تختلط بالمياه المالحة أثناء تدفقها تشكل بيئة مناسبة تساعد على تكوين ونمو لآلي كبيرة متميزة أيضاً (حسبما يرويه الخبراء).

وحيث تعدد وكثرة تلك المغاصات فقد أتاحت الفرص لعدم تزاحم السفن وعدم تكتلها في مناطق ضيقة محصورة بل أن هناك اتساع كبير يتيح لكل سفينة السعي بكل أريحية، كما أن تلك المغاصات متتالية ومتقاربة من بعضها فلا تشكل أي عناء للعاملين فوق تلك السفن أثناء الغوص كما وأن مساراتها سهلة لا تتيه فيها السفن أثناء الذهاب إليها.

هناك أسباب أخرى تدعو جميع السفن الخليجية للتردد على المغاصات الواقعة بين البحرين والقطيف وتفضيل الغوص فيها بالإضافة إلى الإطراء الكبير المستمر عند التحدث عن العمل فيها والشعور بالإرتياح وذلك لأن هناك فرص أخرى هي بمثابة الترويح عن النفس وتفريج هم البعد عن الأهل ومايسببه الغوص لهم من متاعب ومشقات بحثاً عن راحة البال واستراحة الأبدان بالإضافة إلى الفوائد الثانوية بجانب الرئيسية الأخرى، ومهما طغى تفاوت ميزات إحدى منطقتي غوص على الأخرى،،،

إلا أن هناك سمة قد تميزت بها مغاصات القطيف حين ورود سفن الغوص إليها فهي ترسو جميعها في منطقة واحدة وينزل جميع من على تلك السفن في بندر واحد بحيث يشعر فيه الجميع بالإرتياح التام والشعور بفرحة اللقاء السنوي وحسن الملتقى بأهالي مناطق مختلفة من الخليج وفرحة العودة من غبات البحر وعدم الشعور بأدنى تبرم أو مضايقات وكأنه مهرجان تلقائي قد نظمته ظروف نهاية مواسم الغوض حيث ترسو جميع السفن حول شواطئ جزيرت تاروت ودارين فيجتمع الشمل عند نزولهم على أرض دارين والتي كانت وقتها خالية من السكان إلا من آثار أطلال بناء يعود تاريخها إلى ماض سحيق لاتتجاوز شخوصاتها فوق سطح الأرض سوى بضعة سنتيمترات بالإضافة إلى قلعة تطل على البحر مباشرة من جهتها الجنوبية وكانت متهالكة لكون اجتيازها الخمس مئة سنة من عمرها فهي إحدى القلاع التي بنيت في المنطقة كقلعة تاروت وقلعة صفوى وقلعة عنك وقلعة القطيف المأهولة بالسكان وغيرها من القلاع والقصور الأخرى في القطيف والمتجاوز عددها العشر قلاع وقصور،،،

وكانت تعرف هذه القلعة بقلعة دارين والتي عرفت فيما بعد بإسم من رممها وقطنها وهو محمد بن عبدالوهاب الفيحاني حيث ظلت دارين قبل قدومه اليها غير مأهولة بالسكان لسنين كثيرة ومنذ عهد قديم حتى عام ١٣٠٣ هجري الموافق ١٨٨٦م وهو العام الذي قدم فيه الفيحاني من قطر مهاجراً إليها ومن كان معه من الرجال وأسرهم من قرية البدع بالدوحة والذي كان مسقط رأسه في الأصل المحرق بالبحرين عام ١٢٨٠هجري الموافق ١٨٦١م فهو طواش كبير ومالك سفن غوص وسفن صيد كثيرة مارس هذه المهنة بعد أن ورثها من أبيه.

وبعد تردد دام طويلاً ومتكرراً على جزيرة دارين الغير مأهولة بالسكان وزيارات عديدة في كل عام خلال مواسم الغوص كسائر أصحاب سفن الغوص من أنحاء الخليج للإلتقاء من أجل تثمين اللؤلؤ ولقضاء فترات الإستجمام فيها قبيل موسم “القفال” ولتقوية أواصر العلاقات بين النواخذية والطواشين “الطواويش” وكذلك العواضين وجميع من يعمل على تلك السفن وحيث أن ذاك التردد أكسبه خبرةً وإلماماً بأحوال دارين وأسباب خلوها من السكان وإصرار الأهالي على تجنب السكن فيها وهجرها منذ عصور غابرة،،،

وبذلك فقد وقع إختياره للإستقرار في هذه الجزيرة بعد تعرضه وتعرض من معه لبعض المضايقات التي أجبرته على النزوح من مقر سكنه الأصلي فهو يعرف أن سكان المنطقة من حول دارين كأنما حرَّموا على أنفسهم السكن فيها بسبب أسطورة أو خرافة (كما يعتقدها البعض) والتي عبر عنها البعض الآخر بأنها نبؤة حيث كان من السائد عند أهل القطيف عامة حكاية رائجة حول هذه الجزيرة وذائعة الصيت فيما بينهم وواسعة الإنتشار حتى أنه قد امتدت أصداء تناقلها حتى السبعينات من قرن العشرين الماضي وغطى انتشار روايتها جميع مناطق ودول الخليج وهذا هو سر تمنعهم للعيش فيها والإكتفاء باستخدامها كمرفأ بحري أو فرضة يبندرون فيها،،،

فأهميتها كانت تكمن في استقبال وتوديع السفن لغرض الصيد والغوض والتجارة والسفر وكذلك كانت مركز إلتقاء تجار اللؤلؤ (الطواويش) وغواصيه ونواخذية سفن الغوص وسائر التجار من كل مكان فهي في نظرهم منطقة غير مأمونة وغير صالحة للسكن لأنها أرض قد تعرضت للزلزال لأكثر من مرة فكانوا يقولون قولتهم الشهيرة والتي تبدو وكأنها أقرب إلى الإسطورة من الواقع إذ نسمع من الجميع وفي جميع أنحاء القطيف كلما ورد ذكر دارين قال كبار السن: (دارين انخسفت مرتين وبتنخسف مره ثالثة!).

ومعنى الانخساف هنا -طبعاً- بلغة القرآن الكريم الذي ورد لأكثر من مرة كقوله تعالى: (فخسفنا به وبداره الأرض) وكذلك في قوله تعالى: (أن يخسف الله بهم الأرض) وفي قوله عز من قائل: (ولولا أن مَنَّ الله علينا لخسف بنا) وكذلك: (ومنهم من خسفنا بهم الأرض). والخسف هو اهتزاز الأرض وانشقاقها من تحت الناس على غير ترقُب أوتوقع منهم فتبتلعهم في باطنها مع ماحواه ظاهر الأرض من عمارة وبناء ومتاع. كان البعض من الكبار يؤكد صحة هذه المعلومة مستشهدين بتلك الآثار البارزة فوق سطح أرضها وأما الجيل الجديد فكانوا يسخرون من خُرافاتهم وأساطيرهم تلك ويفندونها بقولهم مثلاً: ها قد قدم محمد بن عبدالوهاب الفيحاني ومن معه من أقاربه واصدقائه الكرام وسائر من كان يعمل معه واستقروا فيها بكل أمن وطمأنينة وسلام منذ سنين فأرونا أين الخسف؟!

دعك من عبارتهم التنبؤية الأخير في قولهم (بتنخسف مرة ثالثة) فلعهم قصدوا بذلك أخذ الحيطه المستقبلية حيث أنها قد تعرضت للخسف مرتين فربما تعرضت للمرة الثالثة والرابعة مستقبلاً فما لنا وما للسكن فيها وأرض الله واسعة؟!

ولكن ماذا عن حديثهم حول شيء قد مضى في قولهم: (انخسفت مرتين)؟
هل هو أمر واقع متناقل عبر الأجيال أم أنه مجرد اسطورة قديمة؟

لقد تدخل العلم ليفصل لنا بين الاسطورة والواقع! ففي يوم الأربعاء ٢٤ ربيع الأول عام ١٤٣١ هج الموافق ١٠ مارس ٢٠١٠م (كما وثقته جريدة الرياض) عندما بدأ التنقيب في أرض أحد المواطنين في دارين والذي تفاجأ بوجود آثار بناء في باطن أرضه أثناء شروعه في حفرها استعداداً للبناء فأخبر بعدها الجهات المختصة ليكملوا اجراءات التنقيب عن الآثار الأركيولوجية العلمية فكان من ضمن المعثورات هيكل عظمي آدمي يعود تاريخه إلى مئتي سنة قبل الميلاد (أي اكثر من ألفين ومئتين سنة) ثم وصلوا إلى طبقات يعود تاريخها إلى الألف الثاني والثالث والرابع قبل الميلاد.

لقد تم التحقق في تصنيف إحدى عشرة طبقة تمثلت فيها حقبتين زمنيتين: الأولى السفلى وكانت تمثل عصر ماقبل الميلاد بآلاف السنين أي عصر المعابد حيث تم بالفعل اكتشاف آثار معبد، وأما الطبقة الثانية فهي التي تعلوها مباشرة وكانت طبقة العهد المسيحي حيث تم العثور فيها على آثار كنسية !؟

فلنتريث برهة ودعنا نعود لنتأمل فيما قاله أجدادنا أن (دارين انخسفت مرتين)! ودعنا نقارن أيضاً بين ماقالوه وتناقلوه هؤلاء الأجداد وبين التقارير العلمية التي أسفرت عن نتائج تنقيب الخبراء! يبدو أن الأمور بدت تتضح معالمها الآن أكثر وبشكل جلي فالأمر واضح أن كل طبقة تمثل عصر مختلف والفرق الزمني بينهما يصل إلى آلاف السنين كما ذكره الخبراء المنقبون كما ويبدو أن سبب انطمار هذه المعالم المعمارية هو تعرض جزيرة دارين الى زلزالين في عصرين مختلفين،،،

فهل ماقاله الأجداد مجرد أساطير وقصص خرافية لاصحة لها ولاتمت بصلة بالواقع أم أنها حقيقة واقعية حَرَمَتْهم من العيش على أرض انطمر تحت باطنها مدينتين بمن كان يعيش فيهما بما في ذلك منازلهم ومقتنياتهم وأجبرت من نجا منهم على الفرار منها حيث استمر ذلك على مدى آلاف السنين؟

يبدو أن ماتناقلوه هو أقرب إلى الواقع. أما أمر التنبؤ المستقبلي في أنها ستتعرض للزلزال مرة ثالثة فليس هناك مايؤكد صحته إلا تبرير واحد وهو مايبنونه على ما تعرضت له الجزيرة من زلزال قد تكرر للمرة الثانية جعل الخوف من إحتمالية تكراره للمرة الثالثة في نظرهم أمر وارد ومتوقع فمن تلذغة الحية يخاف من جرة الحبل.

خلال زمن الغوص لاستخراج اللؤلؤ الممتدة بدايته من أزمنة غابرة وحتى آخر أيام الغوص ونهايته المعهودة في القرن العشرين والذي تقدر بدايات انقطاعه في نهاية أربعينات قرن العشرين الماضي وإن استمرت حتي الخمسينات بل وحتى الستينات فقد كانت دارين خلالها و -كما سبق القول- أنها أرض الملتقى لجميع صيادي وتجار اللؤلؤ من أنحاء الخليج وقد كانت في ذلك الحين خالية من السكان مايتيح الفرص لهؤلاء الصيادين وقت رجوعهم من الغوص بالإستمتاع بإجازات هانئة هادئة وكأنهم يحضرون مؤتمراً خاصاً باللؤلؤ بالإضافة إلى فرصة الإجتماع بزملائهم تجار اللؤلؤ من القطيف.

ومن قوائد هذا اللقاء أيضاً معرفة مقدار ماتم حصده في الموسم وكذلك تتبع أخبار ما تم اكتشافه من أثمن الجواهر واللآلئ والتعرف على الأسعار الموسمية أيضاً حيث أنه كان هناك -كما اشرت- من يثمن هذه اللآلي من الخبراء المتخصصين بحيث لايتفرقون من تلك الساحة بغية رجوعهم إلى بلدانهم إلا وهم مطمئنون ملمون بالأسعار الموسمية وجاهزون للبيع والشراء دون تردد وقد تتم عملية البيع بشكل فوري على نفس الجزيرة، هذا ماكان يؤكده أيضاً سيف الشملان في “كتابه تاريخ الغوص على اللؤلؤ” فمن جملة ماقاله في الصفحة ٢٨١ حول ذلك: “كان عدد كبير من الطواشين الكبار والصغار يذهبون بسفنهم الخاصة في مياه الكويت والقطيف والبحرين وقطر وكانوا غالباً مايزورون بلدة دارين للبيع والشراء والتزود بما يحتاجون من المؤن”.

فكان عند نزولهم في القطيف يصرف لهم بعض المال (خرجياتهم) وهي مصروفات من استحقاقاتهم يدفعها لهم النواخذة من أجل اعطائهم فرص التسوق في القطيف وجزيرة تاروت ولشراء الهدايا (الصوغات) لأهاليهم فيشترون بعض منتجات القطيف الزراعية الموسمية كالتمور او الرطب والبطيخ التاروتي والطماطم والليمون القطيفي واللوز والرمان والمنتجات الخوصية من احصرة وزنابيل ومراوح وسلال ومديد وغيرها من المنتجات المحلية كالسلوق الخنيزي (الرطب المسلوق المجفف) والذي يتوفر على مدار السنة وهو مايتبقى من السلوق بعد تصديره إلى الهند ومعه اللؤلؤ حيث كانت القطيف أكبر منطقة مصدرة للسلوق الخنيزي على الإطلاق ومن أكبر المناطق الخليجية المصدرة للسلوق بشكل عام ،،،

لذا فقد كان أهالي القطيف مهتمون بإنتاج النخلة الخنيزية أكثر من المناطق الأخرى لكون اعتبار رطبها غلة أقتصادية مهمة وذلك لما له من ميزة قِدْرة التَحَمُّل والمحافظة على نضارته لمدة طويلة بحيث تتحمل مدة النقل وكانت هذه الكميات تصنف إلى ثلاثة استعمالات خلال ثلاثة مواسم:

اولها تصديرها وهي في عذوقها الى بعض مناطق الخليج كالكويت ودبي وقطر، وثانيها أنها وبعد سلقها وتجفيفها ووزنها في ميازين كبيرة وتعبئتها في أكياس الخيش فإنها تصدر إلى الهند وألى بعض المناطق المجاورة لها وذلك من خلال جمرك فرضة القطيف، وحتى بعد انقطاع تصدير اللؤلؤ إلى الهند فقد استمر تصدير السلوق إليها ولم يتوقف حتى عام 1966م عندما تقلدت أنديرا غاندي منصب رئاسة وزراء الهند لتخفف من الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت الهند فبدأت بمنع استيراد الكماليات حيث أن السلوق كان من التقاليد الهندية المستعمل كنثار في ليلة زفاف العروس فمنع منذ تلك الآونة.
وثالثاً: عندما يحل موسم التمور حيث تعبأ في القلال الخوصية لتصدر إلى الهند أيضاً وبعض دول الخليج وكذلك للإستهلاك المحلي.

بالإضافة إلى تعلق المجتمع الخليجي بأهالي القطيف فقد صنعت أيضاً طبيعة القطيف الزراعية الخلابة وخيراتها من الإنتاج الزراعي تعلقاً شديداً وحباً في قلوب بعض تجار اللؤلؤ من أنحاء الخليج ما جعل هذا التعلق بأرض القطيف وأهلها أن يدفعهم لطموح وتطلعات ترتقي إلى امتلاك بعض الأراضي الزراعية منها من أجل الإستمتاع والاستراحة فيها خلال أيام فراغاتهم وزياراتهم المتكررة للقطيف والاستفادة من منتجاتها الزراعية المتاح تصديرها لهم في بلدانهم حسب المواسم وظروفها ومن جملة تلك العوائل الكويتية المالكة عائلة بن خضير وعائلة الزبن وكذلك من هاجر الى الكويت كعائلة التيتون وغيرهم وكانت بعض بساتينهم في جزيرة تاروت في مناطق الوقف والوقيف وكذلك نخل الجديدة والجواسمي وغيرها.

ومن قطر أيضاً هناك من امتلكوا من أعيانها بعض البساتين في القطيف كنخل الهمال الواقع في ساحة التوبي وهذا له وضع آخر، كما أن هناك العديد من البساتين أيضاً لأهالي البحرين، وكل هذا إنما يدل أيضاً على متانة العلاقة بين الطواويش أو تجار اللؤلؤ والبحارة الخليجيين وبين أهالي القطيف وحسن التجاور ورقي التعامل مع بعضهم.

إن رسو سفن البحارة الغواصين في دارين ونزول طواقم المِلاحة فيها يتيح لهم فرصة الإجتماع بزملائهم تجار اللؤلؤ من القطيف”.

ونستشهد لذلك بما قاله الشملان أيضاً في نفس كتابه في صفحة ٢٨٢” “كان من الطواشين الذين يبيعون المؤن عبدالله بن ياقوت -من الكويت- كان يذهب في سفينة خاصة إلى بلدة دارين ويجلب التمر الجديد من تمر القطيف ويسمونه ابچيره/بكيره ومعه أيضاً علي الفرحان وعبدالله الروضان وحمود الروضان وابراهيم الصايغ وكان ذلك بعد القفال”.
فالقطيف لها استراتيجية ومكانة خاصة لصيد اللؤلؤ في نظر جميع تجار لؤلؤ الخليج وهذا ماذكره الشملان أيضاً في صفحة ٣١٥ حين تحدث عن لؤلؤة السيد هاشم الرفاعي الكويتي الذي ظفر بها من أحد اهيرة القطيف بقوله: “دارين ميناء الغواصين الكبيرة التي يقصدها تجّار اللؤلؤ للبيع والشراء”.

لقد مضى بنا الزمان بعيداً عن أيام الغوص من أجل اللؤلؤ فلا اللؤلؤ الطبيعي ثبت في مكانته ليحافظ عليها (رغم انه لايزال المفضل) ولا الإنسان العصري اهتم بالحفاظ على توارث مهنة آبائه وأجداده حتى بقيت تلك المحارات قابعة في قيعان تلك الأهيرة آمنة ومستقرة بسلام لايغزوها أحد إلا ماندر فلا أحد يدري عن مصير تلك المغاصات إن كانت لاتزال تعج بلآلئها أم أن ظروف العصر الحديث قد جار على بيئتها وقضى عليها بشتى أنواع التلوث وجرف تربتها فلم يعد هناك من يهتم بمعرفة مواقعها ولا مسمياتها ولاكثرتها أو حدودها أو الأجود منها بل أصبح التعرف على مواقعها في عداد النسيان فجميع خبراء الغوص فيها غادروا هذا العالم وحتى من توارث معرفة مواقع تلك الأهيرة لم يعد يعرف سوى القليل من مسمياتها ودون الإلمام بالتفاصيل او مما حُفِظ في بعض بطون الكتب النادرة ،،،

فالإنسان الحديث لم تعد وجهته هي نفس وجهة أجداده الأولين وإنما اتخذ المنحى الحديث في صنف الأعمال المواكبة لهذا العصر دون الإكتراث بمهنة أجداده وخصوصاً بعد أن أصبح الطلب عليها شبه معدوم بسبب زراعة اللؤلؤ الحديثة وكذلك الصناعي منها حيث بات من المقدور التحكم في احجامها وألوانها وحتى أشكالها حسب الطلب علماً بأن الطبيعي منها لازال يعد من أثمن الأحجار وأنفسها، كما ولايعني هذا ان الغوص والبحث عن اللآلي الطبيعية البحرية قد انتهى كلياً فهناك من لاتزال لذيهم اهتمامات خاصة بصيد محار اللآلئ بالإضافة إلى الغوص بطرق حديثة بحيث تُمَكِّن الباحث عن اللؤلؤ المكوث في أعماق مياه البحر مدة طويلة وتمكنه من انتقاء وجلب كميات أفضل وأكبر ولكنها ليست كما كانت من حيث الإحترافية أو الأعتماد عليها كمصدر اقتصادي وطني. كما ولاتزال أسواق المجوهرات تعج بعقود اللؤلؤ الطبيعي الذي يجلبه الغواصون من أعماق البحار.

بعد الكساد الذي ضرب أسواق اللؤلؤ في العالم والذي تأثر به أهالي الخليج كثيراً وفي الدرجة الأولى بسبب إحلال اللؤلؤ المزروع والصناعي بدلاً منه، فقد تحولت أسواق اللؤلؤ الخليجي من عالمية إلى أسواق محلية علماً بأن تجارة اللؤلؤ (لطواشة) في الخليج لم تتوقف بشكل مفاجئ منذ بداية كسادها وضعفها في الأربعينات وانما استمرت وهي آخذة في الأفول تدريجياً نحو الأضعف حتى خمسينات قرن العشرين وكذلك في بداية ستينياته وذلك في بعض المناطق ،،،

ولكن تغير كل شئ عنها حتى إجراءات عمليات الصيد ومراسيمه الكبيرة والتنازل عن كثير من الأنظمة التابعة له وطرق إدارته ولم تعد تلك الرحلات سارية المفعول على متون تلك السفن الكبيرة الحجم والكثيرة في العدد حين تتوجه إلى الأهيرة ولم تعد عوائل وأهالي الغواصين يقفون عند حواف الشواطئ لتوديعهم في مواسم الدشات كما ولم تستمر مراسيم مهرجانات الإستقبال بعد القفّال ولم تعد أهازيجها الشعبية التي تملأ الأجواء بهجةً وسرورا تصدح في الآفاق، وإنما أصبحت تلك المهنة تُزاوَل على استحياء وعلى مستوى فردي وشخصي بل وصل بهم الأمر إلى الإستغناء عن أبسط السفن احيانا لكونهم قد اقتصروا في الصيد على الذهاب إلى المناطق القريبة من الشواطئ ومناطق المياه الضحلة وأحياناً يكتفون بالذهاب إليها بواسطة ما يعرف بالقلص أو الخطره وهي قوارب خشبية صغيرة جداً محلية الصنع بل وأن المدهش في الأمر هو توجه البعض إلى جمع محار اللؤلؤ على استحياء وبأبسط الطرق المتواضعة وهي المشي على الأقدام في ضحضاح مياه السِّيف أو الذهاب إليها بالعربات التي تجرها الحمير (قواري الحمير).

لذا فقد انتشرت ظاهرة أسواق اللؤلؤ المحلية أوالشعبية ضمن الأسواق الخليجية ولكن لاتظن أنهم يبيعون في تلك الأسواق الجوهرة والدانة ليتنافس الطواشون في دفع أغلى الأثمان من أجلها كما كانوا وإنما أصبح بيع المحار بعدها بنظام الجملةً (چكية او قوطره أو قفلية) كما يقال أي أنك تشتري كمية من المحار الغير مُفَلَّق بدلاً من شراء اللؤلؤ والجواهر لتتولى بنفسك أمر فلقه وبعدها كما يقال “أنت وحظك” في البحث عن الدانات والحصبات وإلا فالسحتيت والدرور هو نصيبك هذا إن وُجِد فيها مايذكر. والسحتيتة والدرورة هما أصغر أحجام اللؤلؤ وأقله ميزة وفائدة ولايستعمل ضمن الحلي والمجوهرات فهو بالكاد يرى بالعين المجردة ولذلك فإن استعمالات مثل هذه الأحجام مختلفة عن المعتاد حيث تجمع كميات كبيرة منها وتطحن لتحويلها إلى مسحوق دوائي يستخدم لعلاج بعض الأمراض والجروح.

ومرة أخرى أن القِلّة من صيادي اللؤلؤ من استمروا في توجهاتهم للبحث عن النفيس من الدرر وذلك من أجل الاحتفاظ بها كهواية أو رغبة في حب الإقتناء أو بيعها فيما بينهم، ولكن ظلت عمان هي الوحيدة التي استمرت في تجارة اللؤلؤ (الطواشة) كما استمرت في تصديره إلى الدول المهتمة بذلك ولكن لم تكن بتلك القوة التجارية الماضية حتى اضمحلت تجارة اللؤلؤ الطبيعي في العالم تماما، وبدلاً من ذلك فقد أصبحت تلك الأسواق الشعبية المحلية في انحاء الخليج هي البديل المحتضن لانتشارها بشكل تلقائي ففي الكويت -مثلا- أصبحت هناك سوق في مدينة الكويت أمام برج ومبنى البريد والهاتف الشاهق والتي استمرت حتى مابعد منتصف سبعينات قرن العشرين،،،

وفي قطر كانت أهم اسواقه سوق واقف (القديمة)، وفي البحرين كانت في أسواق مختلفة فيها كأسواق المنامة والمحرق، وفي القطيف كانت في سوق الجبلة وسوق الخميس ولم ينقطع بيعه حتي بعد العقد الأول من عام ألفين ميلادي فقد كان هناك من يصر على جمع المحار من بحر سنابس بجزيرة تاروت ويتردد على سوق الخميس لبيعه في حاويات من الفلين فيرتاد إليه الهواة من جامعي اللؤلؤ لشرائه، إضافة إلى مانلاحظه من تلقي بعض الناس من هدايا من هذه اللآلئ وذلك من قِبل بعض الهواة من صياديه وشخصياً تلقيت بنفسي ذات مرة هدية من أحد اصدقائي من تاروت وكانت مجموعة من اللآلئ الصغيرة اعتبرتها من اجمل الهدايا السنيَّة والتي لازلت احتفظ بها.

ومع أن تجارة اللؤلؤ قد كانت في يوم ما حين بلغت أوج نشاطها وارتقت مبيعاتها ألى الذروة حيث كانت تعد وبحسب تعبير أهالي الخليج أنها (طواشة عالمية) تشكل عصب التجارة والأقتصاد المعتمدين كدخل قومي لمواطني مناطق الخليج العربي بشكل عام،،،

إلا أنها بعد ضعفها وكسادها قد واجهت انتكاسة تحولت بعد ضعفها إلى سلع قليلة وبأهمية تكاد لاتذكر فأصبح عرضها وبيعها مقتصراً في تلك الأسواق المحلية الشعبية الخليحية وفي حدود إشباع رغبات هواة جامعي اللؤلؤ والأحجار الكريمة والنفائس بحسب مايحلو لهم من اقتنائها وأما بالنسبة للبسها كعقود وأقرطة نسائية فهو أيضاً بات مقتصراً على الإستعمال المحلي النادر إلى أن وصلت تجارتها الآن في عداد الإضمحلال التام إلا ماندر منها بعد أن أحتل مكانتها اللؤلؤ المزروع والصناعي.

*الأستاذ عبد الرسول الغريافي باحث في التراث ومؤرخ.

5 تعليقات

  1. ازهر التوبي

    الله يعطيك العافيه ابومحمد
    جميل ما طرحت ، يوما ما سيكون مرجع للباحثين والمهتمين

    وفقكم الله

  2. توثيق جميل وللتاريخ . تحياتي اخي العزيز عبد الرسول

  3. ما شاء الله موضوع جميل فيه سبر الغوص في فنون الغوص وتحدي الغواص (ليكسر الغوص بسندانه) وهي واحدة من التعريفات التي ذُكرت في المقالة والتي لفتت نظري مثل اهيرة القطيف كذلك القمحة والجو وهي َوحدات وزن
    المقالة بحث تاريخي شيق في تاريخ الغوص في القطيف وبقية المناطق المجاورة

  4. احمد السويكت ابو مصطفى

    دائما مبدع ومتألق عزيزي ابو محمد في طرح الموضوعات القيمة عن تاريخ وتراث القطيف المحروسة
    حفظكم الله ورعاكم

  5. السيد هاشم السيد محمد الماجد النجار

    عمل غني بالمعلومات اطلب بحث وجهد كبيرين. اهنئك على هذا الإنجاز واسأل الله لك المزيد من التوفيق والابداع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *