[لا فات الفوت ما ينفع الصوت] ملامح الشخصية القطيفية في فلكلور الأمثال الشعبية (13) – بقلم علي عبد المحسن الجشي

{لا فات الفوت ما ينفع الصوت}

حرف “لا” في أصل المثل للتقوية والتأكيد، و “الفوت” ما بعد ويتعذر إدراكه أو الفرصة التي ضاعت، و”الصوت” كناية عن الأسى والندم الذي يرافق التأوه.

في هذا المثل

تحفيز للاستفادة من الحاضر وتنبيه لاستشراف المستقبل وتحذير من التشبث الماضي.

مصدر الصورة: lsj.com.au

لب المثل

هذا المثل يحثُ على التفكير السليم بالانتباه للظروف التي تحيط بنا، وتأمل المستقبل، وفهم من نتعامل معهم، وإتقان ما نعمله، وضبط ما نتفوه به، والاستفادة من الفرص المتاحة والسعي إليها والإسراع في الإقدام عليها بكل ما نملكه من مقومات، والتغلب على صعوبات اقتناصها، واتخاذ القرارات الصحيح في الزمان والمكان المناسبين، فعن علي عليه السلام “الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود” و “الفرصة تمر مر السحاب، فانتهزوا فرص الخير.”

كما يدعو المثل الى عدم التوقف عند الأحداث التي مضت، ويطلب نسيان ما فات من احداث أو التغافل عنها، والتخلص من آثارها السلبية. فالمهم هو الاستفادة من التجربة والتعلم واستنتاج الدروس واستخلاص العبر.

البعض يندم بعد فوات الأوان على فرص ضاعت بعد أن كانت “قاب قوسين أو أدنى” لتحقيقها، فيبكون حين لا يجدي البكاء، ويندمون حين لا ينفع الندم، وكما تعبر الآية الكريمة ببلاغتها {ولات حين مناص}، فالبكاء على الماضي لا يُصلح الحاضر ولا يبني المستقبل، فالبديل الذي لا يستبدل اذن هو استحضار الطاقة الإيجابية وتحويل الألم إلى أمل والسعي في العمل لبناء الجسور التي تخرجنا من المأزق، وتوصلنا لمبتغانا لنتعافى ونتقدم بمستوانا.

ولابد أن ندرك إن مشاعر الأسى على ما فات هي مشاعر عاطفية طبيعية لا يمكن لطبيعة الإنسان البشري أن يمسحها من تفاعله العقلي والوجداني، وعلينا التعامل معها بوعي، وأن نعرف الأسباب الكامنة وراءها لنهذبها كما ينبغي ونسيطر على ظروفها.

في خطبته التي بدأها بقوله “أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَعُوا، مَنْ عَاشَ مَات، وَمَنْ مَاتَ فَات، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آت، أنشد قس أبن ساعدة:

لا يَرجعُ الماضي إلىَّ … ولا مِن الباقين غابر.

والفرصُ تفوت لأسباب عديدة: منها ما هو خارج عن الإرادة؛ كالمنافسة الغير عادلة والخذلان والضغينة والاحقاد والتعصب والحسد والشح بالنصيحة والمخادعة وضعف التربية وسوء التوجيه وخلق الصعوبات وصنع العوائق واختلاق الأعذار من قبل الطرف الآخر، وهذه الأمور يصعب تلافيها لأنها خارج دائرة تحكمنا، ولكن، وبالتأكيد، يمكننا التعامل معها بالوعي والحكمة وتطوير القدرات الذاتية في فنون التعامل والسيطرة.

فمنها ما يمكن تلافيه بالإرادة؛ كغياب الرؤية وقصر النظر ونقص الخبرة وضعف التجارب وقلة العلم والاكتفاء والانكفاء والتردد والكسل والأنانية والتعلق بالماضي والركون للتثبيط والخوف من المجازفة والاحجام عن المواجهة والاستسلام للفشل، وهذه كلها أوجه قصور ومواطن ضعف ذاتية تؤثر على قدراتنا في تحقيق النجاح والتقدم وتؤدي إلى التقهقر والخسارة، ولكنها على أية حال أمور تقع في منطقة التحكم التي يمكننا توجيهها بالاستعداد والإرادة والتعلم وكسب المعرفة.

حكايةُ المثل

تُسند حكايةُ هذا المثل إلى قصةٍ حدثت حينَ نزلَ ضيفٌ شاعر عند شيخ قبلي، وفي إحدى الأمسيات، خرج أبنُ الشيخِ، واسمه أجود، راكبًا أفضلَ حصانٍ عنده مرافقًا الضيفِ في نزهةٍ إلى وادٍ قريبٍ اعتادَ الذهابِ إليه للاستمتاعِ بجمالِ الطبيعةِ.

وعند وصولهما الوادي، اعطى أجودُ لجامَ الحصانِ للضيف كي يربطه بشجرة دون أن يفصحَ عن مبتغاه، فاستغل الشاعرُ الضيفُ اللبيبُ اللَكيع الطلبَ، وبادر قائلَا “تعطي المزيد” كناية عن شكر المانح، وتلميحًا لنجلِ الشيخِ بأن الحصان أُعتبرَ كهدية من كرماء، وربما قصد بذلك الاستدراج، وكما يقول البعض عند طلب شيء أو قبول العطاء “أنت كريم واحنا نستأهل” وهي عبارةٌ تحرجُ من أعطى وتلزم الكريم بالعطاء. وهكذا، خجِلَ أجودُ من إيضاح مقصده للضيف كي لا يعتبره بخيلًا، فسُقِطَ في يده وخسر أجودُ الحصانَ الثمين الذي يعزه.

وحين عادوا إلى مضاربهم، أخبرَ أجودُ أباه بما حدثَ، فعزِمَ الشيخُ على مفاتحةِ الضيفِ ليبينَ له ما وقع من التباس، إلا إن أجودَ كان له رأي آخر مخافةَ لسانِ الشاعرِ المسترزقِ الذي كان سيصفهم بالبخل، وأشار على أبيه بالتناسي، قائلًا “لا فات الفوت ما ينفع الصوتُ”، فذهبَ قولُه مثلًا.

تشابه الأمثال في الأدب العالمي

هذا المثل العربي يشابهه مثلٌ في الأدب الإنجليزي يقول “لا تبكي على اللبن المسكوب”، وقصة هذا المثل أن أحد التلامذة الانجليز كان يأوي إلى فراشه كل ليلة ويتذكر ما وقع فيه من أخطاء، وكان هذا يصيبه بهمٍ وقلق كبيرين، ولاحظ معلمه استمرار قلقه وتكدر حاله فاراد أن يلقنه وأقرانه درسًا ليتعلموا منه، ففاجأهم ذات يوم ومعه كوب من اللبن وضعه أمامهم دون أن يتكلم، فصار التلاميذ ينظرون إلى الكوب وهم متعجبين.

وفجأة ضرب الأستاذ كوب اللبن بيده فكسره، وسال اللبن على الأرض، ثم أمر المعلم تلامذته أن ينظروا إلى اللبن المسكوب وقطع الزجاج المنكسرة، وقال لهم: إنكم لن تستطيعوا أن تعيدوا هذا الكوب إلى ما كان عليه، وما عليكم إلا أن تلملموا الزجاج المتكسر، ثم تواصلوا عملكم، ومن يومهـا تعلم هذا الصبي ألا يندم على أخطائه إلا بالقدر الذي يستفيد من دروسها لتلافيها في المستقبل؛

فالأهم هو الاستفادة من التجارب، والحكيم من استفاد من التجارب. فلا جدوى ترجى من البكاء على اللبن المسكوب.

تطبيقات المثل

على المستوى الشخصي، يكون الأسف على ضياع فرص فردية كالحصول على وظيفة أو نيل ترقية أو شراء قطعة أرض لبناء منزل أو عمارة او إكمال مستوى دراسي والحصول على شهادة علمية أو بدء مشروع ناجح يدر مالًا أو عدم الاشتراك في التأمينات الاجتماعية أو التفوه بكلمة ليست في مكانها أو عبارة يُساء تفسيرها أو التعهد بشيء لم يتم الوفاء به أو موقف غير مناسب من قضية أو صحبة سوء، والأمثلة متعددة وكثيرة.

وعلى المستوى الاجتماعي، ينطبق هذا المثل على تجارب المجتمعات كالتغيرات البيئية التي تصاحب “تمدين الريف” (Urbanization of the “countryside) أو عدم المحافظة على المعالم الأثرية للمناطق التاريخية أو التلوث البيئي.

قد يختلف البعض في تعريف مفهوم التمدن وتمييزه عن التحضر بربط المدنية بالمظهر في مقابل ربط الحضارة بالجوهر، ولكن بالتأكيد تتضمن كلتا الحالتين عمليات إبدال وتحول من طرق المعيشة الريفية إلى العيش في أجواء المدينة نتيجة المتغيرات الحضرية والاجتماعية التي تصاحب التمدن كالتصنيع، والتسويق الحديث، وبناء المعاهد والجامعات، وفرص العمل، والخدمات الصحية والتعليمية والحكومية والبنكية والفندقية، وشبكات الطرق والاتصالات والكهرباء وغيرها من البنى التحتية والخدمية التي تسهم في توفير حياة مدنية حديثة بما لها وما عليها ولكنها بطبيعة الحال مختلفة عن الحياة الريفية.

مع اكتشاف النفط، في تلة الظهران التي كانت تسمى “الجبل”، وحفر البئر رقم 7 الذي انتج أول كمية تجارية نفطية في عام 1938م (1357هـ)، وبداية التصدير على نطاق عالمي عام 1939م، بدأ الطموح في البلاد يكبر، وبدأت نشأة التجمعات السكنية الجديدة في المنطقة الشرقية تكثر.

ونتيجة لذلك، تحولت القطيف من مناطق ريفية في عمومها الى مناطق مدنية هجينة في ذات البقعة الجغرافية التي قبع فيها الريف لمئات أو الأصح الاف السنين استطاعت خلالها وعلى امتداد وجودها لأكثر من 5000 سنة المحافظة على مجتمع مستدام مستفيدة من ملائمتها البيئية وموقعها الجغرافي في محيطٍ كان يعاني من شظف العيش في نطاق بيئة صحراوية عانت أكثر من غيرها بسبب ندرة الموارد اللازمة للحياة.

اعتمدت استمرارية القطيف كمركز اقتصادي مستقر ومزدهر بشكل أساسي على الثروات الزراعية والحيوانية والبحرية إضافة إلى منتجات الحرف المهنية المتعددة واستغلال مناجم الطين والصخور البحرية وممارسة التجارة بسوق تخدم التجمعات السكنية المحيطة بها من الحواضر والبوادي وتتعامل بالاستيراد والتصدير عبر مينائها، المعروف بالفرضة التي ربط سوقها الرئيسي بالبحرين والهند ومرافئ سواحل الخليج الأخرى وخارجها.

هذا المستوى الاقتصادي كان يتناسب مع نوعية المعيشة وتعداد السكان والمتطلبات البسيطة بساطة ذلك الزمان الذي كانت القطيف تعيشه بواحتها الغناء الثرية بالمياه الجوفية الغزيرة النابعة من عيونها المتناثرة، بطول ارضها وعرضها، وبمنتوجاتها الزراعية المتنوعة وإمكانياتها البشرية المهنية المتعددة التي مثلت بكليتها ركيزة أساسية للبلاد واقتصادها ومكانًا للمعيشة السهلة والسكن المريح الآمن. لكن التطور الذي حدث في علوم الإنسان لاستكشاف واستغلال الموارد الكامنة وتوظيف الامكانيات في تغيير المعالم الطبيعية سحب البساط من الإمكانيات الأولية التي كانت عماد اقتصادها طوال هذه السنين.

في بدايات التحول الى اقتصاد النفط، حافظت القطيف على مكانتها التجارية كونها موقع اقتصادي تاريخي رائد في المنطقة، ولأن التجمعات السكنية الجديدة في الظهران ورأس تنورة والدمام والخبر كانت في حينها صغيرة وتحتاج لمنتجات وخدمات واحة القطيف القريبة، فكان هذا القرب عاملًا مساعدًا في البداية لتحسين حركة سوق القطيف، إلا إن هذا الوضع لم يستمر طويلًا.

وشيئًا فشيئًا، بدأت مكانة القطيف الاقتصادية في الاضمحلال نتيجة تغير الرافد الاقتصادي في المنطقة، بشكل جذري، ليعتمد على النفط، بدلًا من الزراعة؛ والذي افقد القطيف مكانتها الاقتصادية العريقة التي استمدتها، لقرون غائرة في التاريخ، من الزراعة المحلية ومهارات سكانها الحرفية التي بدأت في الانكماش بزيادة الاعتماد، شيئًا فشيء، على الاستيراد إلى أن أصبح هو الأساس.

وكنتيجة طبيعية لهذا التغيير وما رافقه من تغيرات طرأت على العالم بأسره، لم تعد القطيف تتمتعْ بكونها كما كانت مجتمعًا مكتفًا بقدرته على تحقيق احتياجاته المحلية دون استيعاب المتغيرات والتحرك مع دوران عجلة المسيرة الاقتصادية الجديدة.

في ذات الوقت بدأت الدمام، والتجمعات الحضرية المجاورة، تتحول تحولًا سريعًا لتكون مدن رئيسية مهمة فأصبحت الدمام عاصمة المنطقة الشرقية ومركز ثقلها الإداري والتجاري ومكانًا للمديريات العامة للدوائر الحكومية والمعاهد والمؤسسات التعليمية والبنوك ووكلاء السلع التجارية وتجار الجملة، وذلك بعد أن تم نقل أمارة المنطقة إليها من الأحساء في 10 ابريل 1953 (25 رجب 1372هـ)، أي بعد 15 عام من بدء إنتاج النفط، وبعد أن بقت في الأحساء لمدة استمرت 41 عام بدأً من نشأتها في 1913م (1331هـ) لإدارة كامل شئون المنطقة الشرقية بما في ذلك القطيف كثاني مركز مدني حينها في المنطقة.

ونتيجة لهذه المتغيرات الاقتصادية والإدارية، تطورت الدمام، التي نشأت كقرية صغيرة في عام 1922م (1341هـ) ببعض الأكواخ التي بنيت بمساعدة أهالي القطيف على الساحل الجنوبي، تتسع في النمو العمراني المطرد وتشهد تطور متسارع حتى اصبحت مدينة عالمية.

فبعد حي الدواسر، بُني حي العدامة على تلة صغيرة من الرمال جنوب السوق، وبني عند طرف حي العدامة الجنوبي الغربي القصر الملكي القديم بالدمام. وبدأت المشاريع التنموية الصناعية والتجارية والسكنية ومشاريع البنى التحتية تتوالى بخطى متسارعة في الدمام والخبر والظهران، وبعد ذلك الجبيل. ومن المشاريع التاريخية المفصلية العديدة التي شملتها هذه التنمية في البدايات:

  • مركز أعمال إدارة أرامكو بالظهران، واحياءها السكنية، بدأً من نوفمبر 1933م حين تأسست الشركة قانونيًّا وبدأت أعمالها لتنفيذ اتفاقية الامتياز مع حكومة المملكة التي وُقّعت قبل ذلك بـ 6 شهور من نفس العام
  • فرضة الخبر، في عام 1935م لخدمة اعمال ارامكو، والتي كان اسمها عندئذٍ “كاسوك”، وهو مختصر «كاليفورنيا أريبيان ستاندرد أويل كومباني»،
  • مصفاة رأس تنورة، في عام 1948م، وهي أول مصفاة نفط في المملكة، وأحد أكبر مصافي النفط في العالم والأكبر على مستوى الشرق الأوسط حينذاك.
  • شركة القوى الكهربائية لمحافظة الظهران في عام 1950م (1369هـ)، كما أنتجت شركة أرامكو الكهرباء لأعمالها الخاصة.
  • سكة حديد قطار الدمام الرياض في اكتوبر 1951م
  • مدن العمال السعوديين في الدمام والخبر في عام 1956 ضمن مشاريع تملك البيوت لموظفي ارامكو السعوديين الذي اعتمدته الشركة بناءً على توجيهات سامية.
  • ميناء الملك عبدالعزيز بالدمام الذي تمت توسعته في 1961م (1380 هـ) وكان الميناء قد تأسس بأمر من الملك عبدالعزيز آل سعود لأرامكو وفقًا للمتطلبات الصناعة النفطية.
  • مطار الظهران الدولي للطيران المدني، والذي أُصدرت طوابع بريدية بمناسبة افتتاحه في عام 1963م بعد أن كان مطارًا صغيرًا أنشأته أرامكو في عام 1934م لخدمة أعمالها.
  • جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، والتي تم افتتاحها رسمياً بالمرسوم الملكي الصادر في تاريخ 5 جمادى الأولى 1383هـ الموافق 23 سبتمبر 1963م بمسمى كلية البترول والمعادن وفي عام 1975م تم تغيير مكانتها الأكاديمية واسمها لتصبح جامعة البترول والمعادن، وفي عام 1986م تم تغيير اسم الجامعة ليستقر كما هو الآن جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
  • مستشفى الملك سعود (الدمام المركزي) بالدمام في 1964م (1384هـ).
  • المدينة الصناعية الأولى بمساحة 2440000م² في 1973م، تلتها الصناعية الثانية بمساحة 25000000م² في 1978م
  • جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل (جامعة الملك فيصل) في 1975 م،
  • مدينة الجبيل الصناعية في 1975،
  • بناء مستشفى الملك فهد التخصصي في 1984،
  • جسر الملك فهد بين السعودية بالبحرين في 1986.
  • جامعة الأمير محمد بن فهد (أهلية سعودية) في 2006

وهكذا اصبحت حاضرة الدمام مع بدء صناعة النفط في المملكة، مركزًا اقتصاديًا وإداريًا ومكانًا جاذبًا يستقطب السكان من مناطق كثيرة بالمملكة. وكما يتم تداوله، قامت البلدية سعيًا في تنمية المدينة بتوزيع اراضٍ فيها للمواطنين بأسعار رمزية، ويقال إنها كانت بقيمة طابع معروض لطلب الأرض. كل ذلك للمساعدة وللتشجيع على بناء المساكن والاستقرار في المدينة الناشئة، وكذلك لإقامة مشاريع تجارية وصناعية استفاد منها الكثير.

فوت الفوت

باستثناء نفر قليل منهم، عزف اهل القطيف عن استغلال هذه الفرصة التي كانت سانحة لتنقلهم إلى مجالٍ اوسع في دنيا المال والأعمال وليوسعوا من قدراتهم المالية والتجارية والاقتصادية رغم إن بعضًا من أثرياهم افادوا الكثير ممن بدأوا في اعمال المشاريع والمقاولات في المنطقة بمساعدات مادية.

ونتيجة لهذا العزوف أصبح البعض يتأسف لضياع الكثير من الفرص وخاصة ما تعلق منها بالعقار، وبعد أن اصبحت اسعار اراضي السكن في القطيف مرتفعة جدًا مقارنة بأغلب المناطق في المملكة. ويعزى ارتفاع اسعار الأراضي في القطيف إلى عدة عوامل منها:

  • اصرار اغلب السكان على استمرار السكن في قراهم وبلداتهم
  • الشح الشديد في الأراضي الجاهزة للأعمار لأن رقعتها مغطاة بالمزارع ومحصورة بالبحر.
  • استغلال تجارة العقار لعاملي العرض والطلب (الإصرار والشح) فأصبحت تجارة الأراضي في القطيف تستهوي كل من اراد الاستثمار بمورد عديم المخاطر وكما اشاعوا “العقار يمرض ولا يموت” أي أنه لا خسارة فيه.

استمر هذا الوضع لسنوات عديدة، ونتيجة لكثرة الطلب على الأراضي وانحصار التنمية في الإطار العمراني اصبحت القطيف في عمومها منطقة سكنية حصرية حيث حلت المخططات السكنية محل المسطحات الزراعية وكسحتها فلم يبقى منها أثر يُذكر.

كما أقيمت كثير من المناطق السكنية في مناطق بحرية ساحلية تعد من أفضل الأماكن التي تساهم في إثراء الثروة السمكية في الخليج كون هذه السواحل الهادئة مكانًا خصبًا لنمو شجر القرم في غابات كثيفة مما يجعلها مناسبة لتكاثر الأسماك والربيان.

هذه المناطق الساحلية مثلت ايضًا، بطبيعتها وطوبوغرافيتها وجغرافيتها التي يتداخل فيها البر والبحر وتطل منها ساحات النخيل الباسقات وما حولها من مزارع على ضفاف الخليج الهادئ المسالم، منطقة سياحية جذابة ترسم لوحة بانارومية بديعة ساحرة، وقد ابدع الشاعر السوري مسلم البرازي في نشيد المنطقة الشرقية حين اشار إليها قبل ما يتجاوز الخمسين عامًا بكلمات شذى بها فهد بلان مترنمًا:

ومن سيهات حتى رأس تنورة … تموج الخيل صورة تغار من صورة
وسواقي الموية والخضرة والجو اللطيف… ترحب بقدومك في بلد القطيف

تغير بيئة الواحة

هذه الصورة البديعة بدأت في التغير والتلاشي المتسارع قبل ما يزيد عن خمسين عامًا نتيجة التوسع العمراني الذي حول الواحة الجميلة الغناء بمزارعها وشواطئها الطبيعية إلى كتل خرسانية من المباني والشوارع الاسفلتية بشكل متسارع فضاعت امكانياتُ وميزاتُ منطقةٍ كان بالإمكان الاستثمار فيها بالمنتوجات الزراعية وتصنيعها؛ والمحافظة عليها لتكون منطقة سياحية رافدة لاقتصاد البلاد لو تم تخطيط واعتماد مخططات سكنية خارج نطاق البيئة الزراعية والبحرية الطبيعية للمنطقة،

ولكن كما قيل “لا فات الفوت ما ينفع الصوت”، ودوام الحال من المحال، فلا يمكن أكل التفاحة والاحتفاظ بها، وكذا لم يكن بالإمكان الاحتفاظ بهيئة واحة القطيف الزراعية وفي نفس الوقت يتم تحويلها لاماكن سكنية مكتظة، رغم الجهود الكثيرة التي بدلتها وزارة الزراعة.

طبيعة الواحة السكنية

يعزى سبب تمسك أهل القطيف بالسكن فيها وعدم التحول للسكن في المدن الناشئة الحديثة لأسباب عديدة منها:

  • البعد التاريخي: تاريخيًا، اشارَ مسمى القطيف إلى المنطقة الممتدة بطولِ الساحل الشرقي للخليج العربي وكانت تعرف بالخط وهو اقليم من اقاليم البحرين التاريخية المكون من هجر (الأحساء)، والخط (القطيف) وأوال (جزيرة البحرين) وربما جاء مسمى الخط كتوصيف جغرافي للخط الممتد على الساحل من حدود البصرة إلى عمان. ومع مرور الحقب الزمنية المتعاقبة تقلص التوصيف الجغرافي للقطيف تقلصًا تدريجيًا.

ففي عهد “العيونيون” اصبحَ مسمى القطيفِ يشيرُ إلى المنطقة التي تمتد من صفوى إلى الظهران كما ورد في شعر ابن المقرب:

والخط من صفواء حازوها فما…أبقوا بها شبراً إلى الظهرانِ

هنا، حدد الشاعر امتداد القطيف الجغرافي من صفواء (صفوى) في شمالها إلى الظهران في جنوبها، وفي كتابه دليل الخليج ضم لوريمر مدينة الدمام ضمن القطيف. وحسبما نسب إلى الأزهار الفرجية شملت القطيف 42 محلة سكنية.

في الوقت الحالي اقتصر مسمى القطيف على مدن وقرى منطقة الواحة المتلاصقة والمتقاربة والتي تمتد من صفوى شمالاً إلى سيهات جنوباً.

من هذا التوصيف يتبين إن اسم القطيف في الأصل هو أسم عام وشامل لكامل المنطقة ولا يخص مكانًا معينًا بحد ذاته. في فترة من الفترات وبالتحديد عند بداية التوسع العمراني اصبح الاسم يشير إلى المركز كمدينة حوت الإدارات الحكومية الرئيسية وكمحافظة تشير إلى كافة بلدات القطيف، ومع استمرار التوسع العمراني وانحسار الأحياء القديمة وخاصة تلك التي في مركزها وتقارب المسافات بسبب تطور المواصلات وإنشاء طرق رابطة بين البلدات التي تجاورت مبانيها عاد مفهوم مسمى القطيف ليشمل كافة مناطق الواحة.

ما يجدر الاشارة إليه ان المناطق السكنية في مركز القطيف، والتي سميت احياء بعد أن تأسست بلدة القطيف في عام 1927م (1346 هـ)، كانت قبل ذلك تسمى قرى وليست احياء حسب التوصيف اللاحق لتأسيس البلدية:

  • الموقع الجغرافي: مع التقدم الاقتصادي والتطور العمراني الذي ساد المنطقة الشرقية، وجدت القطيف نفسها في وسط البقعة الجغرافية لهذا التوسع الصناعي والتجاري والمدني، وعلى مسافة مواصلات قريبة تمكن سكانها من الوصول إلى مراكز أعمالهم وإدارات التوظيف بسهولة ويسر، خاصة بعد توفر السيارات والطرق المعبدة، مما جعل الرحلة الأبعد لا تتجاوز ساعة. وحتى في البداية، وقبل تسهيل المواصلات، حيث كان التنقل بين السكن وأماكن العمل سيرا على الأقدام واستخدام الحيوانات، كان أهالي القطيف يحتفظون بعائلاتهم في مكان إقامتهم، ويعيش العمال في محيط عملهم ويعودون إلى عائلاتهم خلال العطلات.
  • الترابط الأسري: كما هو الحال في معظم المجتمعات القديمة، كانت مسؤولية إعالة الاسرة تتبع تنظيمات وترتيبات الاسرة الممتدة التي تضع إدارتها وتقنين مصاريفها وتدبير امورها بيد كبير الاسرة، الأب العود أو الأخ الأكبر المتواجد، ويكون تسيير شئون البيت بيد الأم العودة التي توزع مسئوليات خدمة المنزل على زوجات أولادها أو بناتها أو باقي نساء الاسرة. وكان من الصعب حينها انفكاك ما يعرف اليوم بالأسرة النووية عن الاسرة الممتدة. لهذا السبب كان نظامُ الاسرةِ الممتدةُ يكفي أفرادها المضطرين للذهاب للعمل بعيدًا عن محيط الاسرة عناء مسئوليتهم المباشرةَ لرعاية أفراد اسرتهم النووية، الزوجة والأولاد، مما سهل اغتراب الأفراد العاملين وابتعادهم عن ذويهم لكسب رزقهم.
  • التآلف الاجتماعي: كونه مجتمع قديم، عاش، فيما مضى بنظام القرية، وجد افراد المجتمع انفسهم متآلفين فيما بينهم، آلفين لمكانهم، مطمئنين في ديارهم. هذه الحالة من التآلف والاطمئنان والالفة خلقت ارتباطًا روحيًا بالمكان وانسجامًا بين الأفراد تجعل الابتعاد عنهما سببًا في خلق شعور بالحنين إلى الوطن (homesickness)، والذي يعرفه علم الاجتماع بأنه شعورٌ بالحزن الشديد والشوق الناجم عن الغياب عن المنزل أو الوطن الأصلي. يترجم الشيخ عبد الحميد الخطي رحمه الله هذه المشاعر في القصيدة التي يقول في مطلعها:

قالوا القطيفُ فقلتُ غاية مقصدي…ألقِ المراسي أيُّها الربّانُ.

  • التلاصق الديموغرافي: تتكون الرقعة السكانية للقطيف من مجموعة قرى وبلدات متواصلة بمساحات من الأراضي الزراعية الواسعة المليئة بغابات النخيل الكثيفة، فيما عدا صفوى، ومعها أم الساهك، شمالًا والتي تفصلها عن العوامية بضع كيلومترات. هذا التلاصق خلق حبية للمجتمع القطيفي الأوسع، وهو مجتمعٌ لطيفٌ بطبعه، وودود في تعامله، وحاضنٌ بأريحية لأهله.
  • البيئة الريفية: بعكس العيش في الصحراء الذي يحتاج العيش فيه الى التنقل الدائم تبعًا لتواجد المياه والكَلأُ وخضرة المرعى، يتعود أهل الريف على العيش في دَعَةٍ وهدوء وراحة، وبالتالي يكتسبون الرغبة في الاستقرار في أماكنهم فيحجمون عن الابتعاد عن محل سكناهم.
  • البعد الثقافي: أعطى التاريخ والجغرافيا والموروثات الاجتماعية أبعادا ثقافية ذات خصوصيات معينة خلقت بيئة حاضنة، فوجد الأفراد وجماعاتهم أنفسهم في وسط يمكنهم من ممارسة وتطبيق موروثاتهم ومفاهيمهم وقيمهم بحرية وانفتاح في منطقتهم الجغرافية في وقت لا يملكون فيه مساحة خارج منطقتهم لإظهار هويتهم الثقافية.
  • الوضع الاقتصادي: “القطيف ما يجوع فيها أحد” هذا قول متواتر ومرده الى الخيرات والنعم التي حبيت بها المنطقة، ومن هنا لم يقسر الوضع الاقتصادي الناس بشكل عام على الابتعاد عن القطيف واقتصر التغرب عنها على من لديه طموح لتحسين معيشته أو تغيير وضعه.
  • البعد النفسي ويتضمن:
    • غياب التفاؤل بالمستقبل نتيجة حصر التفكير في الحاضر،
    • عدم استنتاج التوقعات المستقبلية بسبب عدم الاستفادة من التاريخ بالوقوف عند أحداثه وتحليلها،
    • عدم الاستعداد والاستثمار للمستقبل بسبب قصر النظر بالتوقعات،
    • عدم الاستعداد لتحمل المخاطر بسبب الخوف من المجازفة لاقتحام مجالات جديدة،
    • عدم القدرة على اتخاذ القرار الصحيح أو إضعافِه بسبب نقص الخبرة المبنية على العلم لقراءة الأحداث والمتغيرات وتوظيفها بالتحليل لاستشراف المستقبل،
    • التردد في اتخاذ القرار في الوقت والمكان المناسبين،
    • غياب الطموح والاكتفاء بما هو موجود لتسيير أمور الحياة ولو بالحد الأدنى،
    • الانكفاء على النفس والخلود للراحة والامتناع عن خوض غمار الحياة خارج منطقة الراحة،
    • الخوف من مواجهة المنتفعين والانتهازيين والمتسلقين على حساب الآخرين،
    • التكاسل في أخذ زمام المبادرة والتطلع لمراكز قيادية،
    • التعلق بالماضي والتغني بأمجاده ومحاولة انكار المتغيرات وتأثيراتها،
    • الركون للتثبيط بالاستماع لأقوال المحبطين،
    • الخوف من الفشل.

———————————————————————

المصادر:

  1. https://sharqiah.gov.sa/Pages/AboutEmirate)
  2. (https://byjusexamprep.com/upsc-exam/what-are-the-main-causes-of-urbanisation#
  3. (https://www.aramco.com/ar/news-media/news/2016)
  4. (ww.alyaum.com/articles/716577/) ،
  5. (https://www.aramcolife.com/ar/publications/al-quafilah-weekly/articles/2022/week23/90-years-of-aramco)
  6. (https://emtyiaz.com)
  7. (https://www.bayut.sa/blog)
  8. (https://mawani.gov.sa/ports?port)
  9. (ar.wikipedia.org/wiki/مدينة_الجبيل_الصناعية)
  10. (alyaum.com/articles/1144320/الشرقية-اليوم/)
  11. (https://a r.wikipedia.org/wiki/جامعة_الملك_فهد_للبترول_والمعادن)
  12. (https://a r.wikipedia.org/wiki/قاعدة_الملك_عبد_العزيز_الجوية)
  13. (https://www.s ar.com.sa/ar/about-sar /)
  14. (ar.wikipedia.org/wiki مستشفى_الدمام_المركزي
  15. (https://modon.gov.sa/ar/Cities/IndustrialCities)
  16. (جامعة الأمير محمد بن فهدhttps://ar.wikipedia.org/wiki)
  17. ar.wikipedia.org/wiki/محافظة_القطيف
  18. ar.wikipedia.org/wiki/تاريخ_الكهرباء_في_السعودية
المهندس علي عبد المحسن الجشي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *