أوبنهايمر والوجه الآخر لهوليوود – بقلم علي القطري

“في البداية تشكلت كرة نارية تحولت في غضون ثوان إلى سحب أرجوانية وألسنة لهب تصاعدت فيما يشبه الدوامة نحو السماء،،، قبل أن تختفي المدينة بأكملها تحت طبقة من الغبار الرمادي الداكن”،،،

الجنرال ليزلج غروفز، قائد مشروع “منهاتن” السري لتطوير القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية، في برقيته “السرية” سنة 1945م إلى الرئيس ترومان، واصفاً ما أحدثته أول قنبلة ذرية في التاريخ.

مصدر الصورة: khanacademy.org

يعرض حالياً فيلم أوبنهايمر في صالات السينما حول العالم بما فيها هنا في السعودية، الفيلم هو سيرة ذاتية لعالم الفيزياء الأمريكي روبورت أوبنهايمر، المستمد من كتاب “برومثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة ج روبورت أوبنهايمر”، والملقب ب “أب القنبلة الذرية”. وللمصادفة تحل هذه الايام من شهر آب الذكرى السنوية الثامنة والسبعين للفاجعة التي احلت بالشعب الياباني أثر الدمار الهائل الذي اصاب مدينتي هيروشيما ونجازاكي مخلفاً وراءه الألاف من الضحايا المدنيين.

ترك الفيلم انطباع ايجابي منذ بداية صدوره وعرضه في الصالات على مستوى النقاد والجمهور خصوصاً في وسائل الاعلام الغربية، إذ حصل على تقييم 8.6 في أي ام دي بي على سبيل المثال، حقق ايرادات في شهره الأول من العرض، ما يقارب الستمائة مليون دولار تقريباً، حتى كتابة هذه السطور، وبميزانية تقارب المائة مليون دولار فقط.

على مدى ثلاث ساعات يسرد الفيلم حياة العالم الفيزيائي أوبنهايمر، (لعب دور البطولة الممثل: كيليان مورفي)، منذ أن كان طالباً جامعياً لامعاً، في جامعة كامبرج، ثم استاذاً جامعياً في جامعة بيركلي وصولاً الى ترأسه مشروع مانهتن خلال الحرب العالمية الثانية الذي توج باختبار وصناعة، وإنتاج القنبلة الذرية التي أُلقيت على المدن اليابانية.

العالم الفيزيائي أوبنهايمر

طوال مدة الفيلم تأخدنا الكاميرا الى الوراء، بتقنية الفلاش باك، كثيراً بشكل متقطع بين مشهد وآخر على مدى فترات زمنية قصيرة يستخدم خلالها كاتب ومخرج الفيلم، كروستفر نولان الأبيض والأسود بكثافة ليضفي تأثير خاص على المشاهد المتعلقة بالجوانب الخفية من حياة أوبنهايمر الشخصية كميوله السياسية اليسارية ، وعلاقته العاطفية بجين تاتلوك، العضو في الحزب الشيوعي، وزوجته كاثرين، العضو السابق في الحزب الشيوعي، وبأخيه الشيوعي فرانك، وبالعالم البرت انشتاين وعلى الأخص علاقته بلويس شتراوس (روبورت داوني)، رئيس مؤسسة الطاقة الذي كان يكن لأوبهايمر العداء لأغراض سياسية.

تتحرك الكاميرا كثيراً عبر الزمن الى الوراء خلال جلسات الاستماع للتحقيق مع أوبنهايمر في الشكوك بميوله اليسارية، وبعلاقة (مشبوهة بالتجسس) محتملة لصالح الروس ومدى ولائه للمؤسسة العسكرية ولمشروع مانهاتن. بعد إختياره من قبل الجنرال ليزلي غروفز (قام بالدور الممثل مات دايمون)، لترأسه مشروع مانهاتن يقع الاختيار على صحراء لوس الآموس، في نيو مكسيكو على إجراء التجربة الفعلية للقنبلة، بعد تهجير السكان الاصليين من الهنود الحمر منها.

بالرغم من الإطالة في بعض مقاطع الفيلم والتكرار والدخول في تفاصيل رتيبة، وحوارات مملة خصوصاً فيما يتعلق بلجنة التحقيق واستجواب أوبنهايمر الا أن المخرج قد نجح في إضفاء بعض عناصر الإثارة والتشويق على الأقل لجمهور كبير من الذين أعجبهم الفيلم، خصوصاً في مشاهد إجراء التجربة، من حبس الأنفاس، الشعور المحدق بالخطر واللقطات السريعة على الوجوه بعيون مفتوحة وقلقة، المؤثرات الصوتية والبصرية الى العد التنازلي قبل لحظات “الإنفجار العظيم”،،،

المصدر: nytimes.com

الإنفجار الذي سيغير وجه التاريخ. لحظة الذروة من التشويق عند نجاح التجربة ولحظات من الزهو والفرح بالإنتصار تملأ الشاشة الكبيرة، رُفعت فيها الأعلام الأمريكية والتصفيق لا يتوقف والتهاني من فريق مانهاتن تمطر على أوبنهايمر المبتهج، المنتشي بلحظة الانتصار الكبير.

كان في صالة العرض وفي المقعد الذي امامي شاب في العشرين من العمر او اقل قليلاً أزعجني كثيراً بهاتفه المحمول، ينعكس الضوء الصادر من هاتفه على وجهي، الذي كان يخرجه بين الحين والحين ليلتقط الصور، وفي لحظات التجربة، وهي لحظات مليئة بالترقب والإثارة، تحمس كثيراً في التصوير وكاد أن يقف ويصفق هو ايضاً ويرفع العلم الأمريكي معبراً عن نجاج التجربة. لا أعرف إن كان ذلك الشاب يعلم أن تلك اللحظة أو اللحظات التي كان يلتقط فيها الصور هي “اللحظة” من التاريخ، قبل ثمانية وسبعون عاما، التي ستُفتح فيها ابواب جهنم وستحرق مئات الآلاف من البشر وستؤسس لمرحلة جديدة ليس فقط من سباق التسلح النووي المحموم، بل من الإستقواء والهيمنة المطلقة لأمريكا ليس على المانيا أو اليابان فحسب بل على العالم أجمع.

مرة أخرى بعد فيلم “القناص الأمريكي”، هناك بالطبع قائمة ليست قصيرة من الأفلام لكن هذا الفيلم مشابه في جدليته أو “محاجتٌه” لأبونهايمر، الفيلم هو سيرة ذاتية كما هو الحال في أوبنهايمر من اخراج كلينيت أستود وبطولة برادلي كوبر. يسرد الفيلم حياة جندي أمريكي، كريس كايل، جندي شارك في الحرب على العراق، كان في العراق يصطاد العراقيين كالجراد وقد قتل لوحده مائة وستين عراقياً بدافع الانتقام لزملائه الجنود الذين قتلوا على يد العراقيين، وفي مقابلة مع الجندي، كريس كايل، صاحب السيرة الذاتية يقول انه ليس نادم عما فعل ولو تكرر الأمر لفعل ربما أكثر لأنه يعتقد انه ذهب لمحاربة الإرهابيين ويجب على كل أمريكي فعل ذلك.

مراجعة American Sniper

 يقدم فريق العمل في فيلم أوبنهايمر على أنه سيرة ذاتية ايضاً، ليس أكثر، ليس عن حياة “مجرم حرب”، كاتب ومخرج أوبنهايمر يصف الفيلم بأنه “عاطفي ومثير”، ثنائية الخير والشر هي ثنائية متلازمة في أعمال هوليوود، كان من المهم جداً في الحبكة الدرامية الزج بشخصية، كامنة للشر، مثل “شتراوس” الذي كان معادياً لأوبنهايمر لإضفاء صفة “العاطفية” وشيء من الاثارة “المملة” على مجريات أحداث الفيلم.

في الجزء الأخير من الفيلم يصاب أوبنهايمر بوخزة ضمير “باهتة جداً”، يعبر فيها عن أسفه لما حدث أمام الرئيس هاري ترومان، ليبرر الرئيس حينها وهي الشهادة المعلنة لتبرئة أوبنهايمر من جريمة العصر، أن القيادة السياسية هي المسؤولة وهي التي من أمر بإلقاء القنبلة.

الإدعاء بأن الفيلم هو مجرد سيرة ذاتية غير كاف، او ان الفيلم ليس سياسياً غير مقنع ايضاً، الفيلم يتحدث عن سياق وسلسلة من الأحداث العسكرية والسياسية المصيرية غيرت وجه التاريخ، دمرت بلدان وفرضت هيمنة مطلقة، وفرضت قواعد جديدة تتحكم في النظام السياسي العالمي، والفيلم في المضمون يخفي حقائق تاريخية صلبة ومهمة، وأسئلة مهمة كان يجب أن “يجيب” عليها،،،

كانت الحرب في نهايتها واليابان تحديداً في وضع المستسلم، وهي قبلت بوقف الحرب لماذا القرار بإلقاء القنبلة؟ ولماذا أُلقيت القنبلة الثانية في اليوم الثالث؟ لم نشاهد لقطة واحدة ولو لثواني معدودة للدمار للذي حل بالمدن اليابانية لليوم التالي، بعد حدوث الإنفجار، وكأنه قد انتزع عمداً من الشريط.

هيروشيما عام 1945 – مصدر الصورة: ndependentarabia.com (غيتي)

يحمل فيلم أوبنهايمر كما يحمل فيلم القناص الأمريكي وأفلام كثيرة إرث ثقيل من الكوارث الإنسانية التي كانت أمريكا مسؤولة عنها بدوافع نفعية، استعمارية بحتة، هوليوود تتنصل حتى من نقل الحقيقة كما هي، بل هي تكرار لسرد قصص من وجهة نظر واحدة، هزيلة، مبتورة.

هوليوود تبث صوراً وقصصاً لا تعنينا كثيراً بينما نحمل ويحمل الإنسان من بلدان الجنوب مخزون وتركة ثقيلة من المعاناة وآثار الحروب الأمريكية، هي تبقى في ذاكرتنا الثقيلة، لا يحمل المشاهد الغربي أي منها، فهو ربما “الكائن الخفيف” الذي يرمز اليه ميلان كونديرا حين يتحدث عن الثبات، الوجود والمعاناة الانسانية في روايته، “كائن لا تحتمل خفته”:

“كلما كان الحمل ثقيلاً، كانت حياتنا أقرب إلى الأرض وكانت واقعية أكثر. بالمقابل، فإن الكائن الإنساني عند الغياب التام للحمل يصير أكثر خفة من الهواء، محلقاً بعيداً عن الأرض وعن الكائن الأرضي، يصير شبه واقعي وتصبح حركاته حرة بقدر ماهي تافهة”.

[إذا ماذا ترانا نختار، الخفة أم الثقل؟]

الأستاذ علي القطري

2 تعليقات

  1. أحمد الخميس

    شكراً جزيلاً لهذا العرض الوافي والماتع الذي يكشف عن الوجه الآخر للسينما الهوليودية والتي هي الوجه الآخر للكاوبوي الأمريكي الذي يضع إصبعه دائماً على الزناد تأهباً للقتل والتدمير والسيطرة مجرداً من أدنى مشاعر الإنتماء الإنساني ومدفوعاً بالنزعة الاستعلائية التدميرية وفرض الهيمنة الرأسمالية الإمبريالية على العالم وإشعال الحرائق في كل مكان ولا يهمه كم يسقط من ضحايا الإنسانية ثمناً لجنونه المتغول من أمريكا اللاتينية إلى اليابان وفيتنام وفلسطين والعراق وحتى إفريقيا الفقيرة ….
    وأظنني أميل إلى رؤية الروائي الكبير الراحل ميلان كونديرا في روايته الأثيرة ( كائن لا تحتمل خفته…) فكلما كان هذا الكائن مثقلاً بحمولته الإنسانية وبمشاعر الإنتماء الإنساني كانت الحياة أكثر واقعية وكان المشهد الإنساني الكوني أكثر صدقاً واتساقاً مع قيم الخير والسلام والإزدهار، والعكس تكون التفاهة والعدمية والاستلاب ….

  2. احسنت ابن العم على هذا التحليل الجميل فقد تعودنا من الافلام الهلوودية انهم دائما دعاة للحرية و الخير و الاخلاق و المثل في هذا العالم بينما هم يروجون الى السيطرة الفكرية لاجندتهم الاستعمارية و سرقة موارد الشعوب و جعله تحت رحمتهم. زمنهم ولى و بزوغ فجر جديد للانسانية بداءت ملامحة و ان بريق حظارتهم بدا بالاثول بلا رجعة.

اترك رداً على أحمد الخميس إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *