{خْرجُ السوق}
أي إن هذا ما يلائم السوق ويناسبها ويجعل العمل سالكًا فيها بالطريقة التي تعمل بها حسب نظام غير مكتوب، ومتفق عليه ضمنًا بين روادها لتسيير وتسهيل معاملاتها، وإذا ما كان لأحدٍ حاجة فيها أو يريد الاستفادة منها، فعليه أن يواكب الركب، ويقبل التعامل بما ينجز حاجته ويحقق هدفه حسب المجريات المتبعة، وإن لم يكن راضٍ أو موافق أو مقتنع تمامًا بمجرى التعاملات التي تتخذ لأجل ذلك، فهذا هو “خرج السوق” أي ما يناسب السوق ونمط التعامل فيها.
والخرج هو ما يصلح للمرء ويناسبه، فيقال هذا “خَرجه” أي ما يستحقّه أو خليق به. ويقال ما هو “بخرجه”، أي لا يصلح له. ويأتي الخرج بمعنى رزق وأجر. و “الخرجية” تعني المصروف الشخصي الراتب الذي تخصصه العائلة للصغار، فيصبح تحت تصرفهم وغير مطالبين بإرجاعه.
وخْرجُ السوق مثلٌ يقال للقبول بالأمر الواقع، ولتبديد الاستغراب عن ممارسات قد تكون غير مرضية أو منقصة للحقوق أو ليست مثالية لإنجاز أعمال أو الحصول على استحقاق أو تحقيق اهداف معينة ولكنها، على أية حال، تكون مناسبة للوضع والظرف الآني الذي تحدث فيه.
وبطبيعة الحال لا تخرج هذه المقولة عن نمط استخدام قواعد التعاملات العامة الأخرى كسياسة العمل في حدود الممكن أو درأ المخاطر أو اقتناص الفرص أو الحاجة للمرونة والإنحناء للعواصف أو القبول بمواصفات تقل عن مستوى المطلوب أو المرغوب فيها أو القبول بوظيفة لا تناسب المؤهلات وغير ذلك من الأمثلة كثير.
استقى هذا المثل الشعبي مفهومه من البيئة المحيطة، وبالتحديد من طبيعة العمل في السوق التي كانت جزء أساس في تكوين المجتمع القطيفي. فبالإضافة لكونه مجتمع زراعي من الدرجة الأولى، وبحري من الطراز الأول، وصناعي بمهارة متقدمة، وعلمي باستنتاجاته ومناظراته، وأدبي بشعره وثقافته، فهو، فيما مضى، مجتمع تجاري بامتياز. ويمكن القول إنه كان لدهور مضت الوحيد والأهم والأقوى على طول ساحل البر الشرقي لجزيرة العرب بامتداد الخليج العربي، بشهادة ما قاله أعشى همدان:
يَمُرّونَ بِالدَهناء خِفافاً غِيابُهُم …وَيَرجِعنَ مِن دارينَ بُجرَ الحقائِبِ
والسوق، في اللغة، هو المكان الذي تباع السلع فيه أو تشترى، وتقدم فيه الخدمات إلى المنتفعين ويضارب فيها بالمساومة قبولًا أو إعراضًا، سواء اكان ذلك بلقاء حضوري شخصي في المكان نفسه أو افتراضي عبر وسائل التواصل الإلكتروني. وكلمة “السُّوق” قابلةٌ للتذكير والتأنيث وهو الغالب عليها.
ومن اسواق القطيف التاريخية على مستوى الإقليم حينها: سوق الجبلة وسوق الخميس وسوق السكة إضافة إلى اسواق المنتجات الزراعية والحيوانية والأسماك ومنتجات المهن الصناعية المحلية الأخرى.
كانت هذه الأسواق تخدم السكان المحليين في الحواضر والأرياف ومن جاورهم من أهل البادية بتنظيم تعاملات البيع والشراء، وتسهيل عمليات التصدير والاستيراد عبر مرفئها التجاري المعروف بالفرضة. كل هذا كان يوفر العمل الحر لجميع افراد المجتمع وبعضٍ من الوافدين كل حسب قدراته المالية والعقلية والعلمية لتسيير عجلة الاقتصاد.
كما مارس افراد المجتمع البيع والشراء في الأسواق التي نشأت في الظهران ورأس تنورة مع بدايات عمل شركة ارامكو وانشائها لمرافق سكن العمال في هذه المواقع وتشغيل مطار الظهران الدولي والقاعدة المجاورة له، ولكن استمرارهم فيها تضاءل الى حدٍ كبير حتى إنتهى تمامًا.
ومن المفارقات، إن المجتمع القطيفي الذي امتهن العمل التجاري، بامتداد تاريخه، عزف في غالبيته عن التوجه للتجارة والعمل الحر في السوق، مثلما عزف عن العمل في الزراعة ودخول البحر والعمل المهني، مما ابعده عن العمل المباشر في الركائز الداعمة للاقتصاد المنتج، وفضل، لسبب أو لآخر، العمل في الوظيفة بأجر بدلًا من أن يكون سيد عمله. وربما كان هذا التغيير في نمط الدخل الاقتصادي للناس في فترة معينة من الزمن هو “خرج السوق”.
أتى التوجه للوظيفة أكلَه إلى حين، إذ خلقت طبقة متوسطة اجتماعية واسعة، ووفر لهم حياة كريمة مريحة بما فيها من عطلات اسبوعية وإجازات سنوية لم تكن ظروف صاحب العمل الحر وطريقة إدارته تتيحها إليه، وربما هو في الأصل لم يدري ما هي أو حتى لم يفكر فيها. كما إن الوظيفة، التي اصبحت حاجة، كانت سببًا مهمًا لبعث اهتمام الشباب بالدراسة والسعي للرقي بمستواهم العلمي والثقافي بما يناسب “خرج السوق”.
جاءت الرغبة، في التغيير من العمل الحر إلى العمل بأجر في وظيفة، متسارعة ومتزامنة مع بدء اعمال صناعة النفط وتوفر العمل في شركاته والشركات المساندة الأخرى، وكذا توفر الوظائف الحكومية والبنكية وغيرها.
شجع على ذلك أيضًا الميزات المالية واساليب الحياة الحديثة التي جاءت بها الوظيفية وفقًا لأنظمة العمل والعمال التي ضمنت للعاملين حقوق يلتزم بها رب العمل. كما اعتمدت الشركات والمؤسسات الكبيرة برامج تدريب وتعليم محلية وبعثات خارجية للموظفين المتفوقين والموهوبين للدراسة والحصول على شهادات جامعية في التخصصات المختلفة مما زاد من رونق الوظيفة وجاذبيتها.
شجعت المميزات التي تعطيها الوظيفة حتى بعض من أبناء التجار ورواد الأعمال بالابتعاد عن اعمال عائلاتهم الخاصة والالتحاق بوظيفة، خاصة وأن هذه الأعمال كانت تدار بطرق تقليدية حيث كان المردود منها شائعًا، ولم تكن تعمل بأسلوب المؤسسات كما هو الحال لضمان حقوق من يعمل فيها ومكافأته حسب جهده وقدراته.
ومن دلائل الرغبة القوية للوظيفة، صارت الفتاة تفضل الزواج بالموظف، وتخشى الارتباط بصاحب العمل الحر لما فيه من مخاطرة، وعدم ضمان لدخل ثابت، ومتطلبه لمجهود مضني وأوقات عمل اطول، وهذا ما كان يفضله ايضًا الأعم الأغلب من العائلات مما دعا الشباب لاعتبار الوظيفة الهدف الأول لهم وأكبر همهم، باستثناء النزر اليسير منهم، فكان هذا “خرج السوق”.
يمكن القول إن المجتمع لم يكن مؤهلً تأهيلًا نفسيًا ولا علميًا كافيًا لامتلاك الجرأة وأخذ المبادرة لمواكبة المتغيرات التي طرأت في تطور العمل التجاري وعولمته وإدارة مخاطره، ولو كان ذلك، وتبنى اصحاب المهن مهنهم وطوروا اساسياتها وفنونها، واتجهوا للتجارة والصناعة فيها وواكبوا النهضة الصناعية والعمرانية والتقدم الذي شهدته البلاد، لحافظت القطيف على مستوى يتناسب مع تاريخها في السوق، ولخرج منها عددًا أكثر وألمع من رجال الأعمال على مستوى البلاد.
إلا إن لكل قاعدة استثناءات، فهناك من اقتحم العمل التجاري ولم يعر الدراسة بالًا كي ينال وظيفة ونال توفيقه من السوق لأنه عرف خرجها. كما إن هناك من اجبرته الظروف على العمل الحر ونال منه خيره، وإن كان في الأساس راغبًا في الوظيفة.
جاء في الأثر عن سيد البشر “إن الرزق عشرة اجزاء تسعة في التجارة وواحدة في غيرها”. ومن الأمور الجيدة أن نرى المزيد ممن بدأوا يدركون فوائد عوائد العمل الحر في القطاعات التجارية والصناعية والخدماتية الخاصة ويهتمون به ويتجهون إليها، ولو كعمل ثانوي مع وجود الوظيفة. وربما يكون هذا التغيير هو “خرج السوق” الآن، لأن بريق الوظيفة لم يكن كما كان في بداياته، وأصبحت الفرص للحصول عليها أقل ومتطلباتها أكثر، والمحافظة عليها اصعب.
كما إن فرص العمل التجاري وممارسة العمل الحر اصبحت أقرب منالًا وأكثر جدوى مع امتلاك الأجيال الشابة الوعي الاقتصادي والعلمي والثقافي مما يعطيهم القدرة على وعي المخاطر وفهم حساباتها ومعرفة “خرج السوق” ليحققوا من النجاح ما يستحقون.
يعطيك العافيه ابو حسن التحليل الاجتماعي اذا صح التعبير جميل جدا لانه قريب من القلب وقريب من الموروث الاجتماعي الذي يساعدنا على تفسير كثير من الامثال الدارجه في مجتمعنا الجميل الذي يحمل في طياته تراث غني امثالكم الاعزاء يحافظون عليه بالمقالات الابداعيه وتجديد الرؤيه والارتباط بها…احسنت ابو حسن مهندسنا واخونا الغالي