[عقب ما رطبت، عودت خلالة] ملامح الشخصية القطيفية في فلكلور الأمثال الشعبية (3) – بقلم علي عبد المحسن الجشي

{عقب ما رطبت، عودت خلالة}

أقرب تبسيط لتوضيح مغزى هذا المثل هو العبارة الدارجة المتداولة: “عدنا للمربع الأول” (We are back to square one). وبالمقارنة يُمكِن ملاحظة الفرق بينهما من ناحية الجمال اللغوي. فبينما نجد الجمود والتعبير المباشر في قول “عدنا للمربع الأول”، نلاحظ في هذا المثل الشعبيُ بساطة المعنى وجزالة اللفظ وسهولة النطق.

يأتي هذا المثلُ راسمًا لوحةِ فنيةٍ ببلاغةٌ لغويةٌ وصورة تشبيهية متضادة لا تخلو من فكاهة وتندر ممزوجة بعنصر الدهشة، إذ لا يمكن للرطبة بأي حال من الأحوال أن يرجع بها الحال لتعود خلالة، فهذا ضرب من الخيال. ولكن هذا المثل عاد بها مع فرض المحال في تراتب عكسي لواقع لا يمكن تحقيقه.

الخلال

يضرب هذا المثل عندما يكون مظهر أحدٍ ما لا يليق بعمره، أو أن يكون تصرفه لا يناسب مكانته؛ وكذلك عندما يتمُ إكمال عملًا ما لكن يتم رفضه ويُطلب، بعد اكتماله، إعادة عمله مرة أخرى؛ أو عندما يأمل الإنسان في الحصول على شيء ويُعشم بالقبول لكنه لا يناله في اللحظة الأخيرة.

؛؛فهذا المثلُ يُعبر عن الامتعاض والاستياء والحسرة وفي نفس الوقت يساعد على التسليم بالأمر الواقع. وكما يقال: لا يمكن إعادة عقارب الساعة الى الوراء، فلو قيل لأحدهم إن الرطبة رجعت لتصبح خلالة، فإن العقل يقول هذا مستحيل، ولا يمكن إلا أن نقبل بالواقع؛؛

ومقارب من التشبيه في هذا المثل ما يُتندر به بقولهم “عودة الشيخ الى صباه” فالشيخ الهرِم لا يمكن ان يعودُ به الزمن ليصبح صبيًا، وإن أمكن شكلاً بطريقة أو بأخرى فلا يُمكن أن يصبح هذا واقعًا. فالرطبة لا يمكن لها، وباستحالة قاطعة، أن تعود لتصبح خلالة.

الرطب

الفكرة الجوهريّة للمعنى المُراد رسمه بهذا المثل آخذ صورته من صميم ثقافة البيئة المحلية، التي اندثرت ويتحسر عليها من شهد بقاياها، فهو يشيء بصورة جمالية بصرية تتمثل في ألوان الرِطبِ الزاهية، والذوق حسي لطعمه الشهي، والفائدة الغذائية والقيمة المالية لهذه النبتة المباركة التي مثلت الركيزة الاقتصادية الأولى للمنطقة منذُ نشأتها.

فالبلح في بداية ثمره يكون ذا لون أخضر جاف في عذقه، ويسمى خلال، والرَّطْبُ خلاف اليابس، وهو الشيء الليِّن ومن هذا المعنى أخذ ثمر النخل مسماه فيقال له إِذا نَضِجَ وقبل أَن يصبح تمرًا “رطب”.

تنمو ثمار النخيل في عناقيد كثيفة، يتعارف اهل القطيف على تسميتها عذوق ومفردها عذق يقول صفي الدين الحلي:

وهَوَى إلَيكَ العِذقُ ثمّ رَدَدتَهُ … في نَخلَة ٍ تُزهَى بهِ وتُزانُ

يتراوح وزن كل عذق بين 10 و 25 كيلوغرامًا، وتنتج النخلة المثمرة الصحية من 12 إلى 14 من هذه العذوق كل عام، وتحتوي على عدة آلاف من الثمار الفردية. وبمجرد أن تنضج الثمرة تتحول إلى اللون الأحمر أو الأصفر، مما يشير إلى أنها جاهزة للحصاد.

والوان الرطب الذي تنتجه نخيل القطيف كثيرة، فمنها الأحمر كرطب الماجي والخنيزي والحلاو الأحمر، ومنها الأصفر كالخلاص والغرة والبجيرة والحلاو الأصفر، وما بين هذين اللونين خليط من الألوان المائلة لشدة الحُمرة أو الصُفرة لتصبح وردية أو بنية بدرجات الوان مختلفة، زاهية وجميلة.

وجمع الرطبِ أَرطابٌ، ورطابٌ، والواحدة: رُطَبة، والفعل منه رَّطب أي أصبح لينًا فيه ماء، والتاء في المثل المذكور للتأنيث. يُقال رطبت أي اصبحت لينة ناعمة، بعد أن كانت خشنة، وفيها شيء من الماء. وقد وردت كلمة الرطب في القرآن مرتين وذلك في قوله تعالى ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ سورة الأنعام (59) ” وقوله تعالى ” ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ سورة: مريم (25)”.

فالبلح في بداية ثمره يكون ذا لون أخضر جاف في عذقه، ويسمى خلال، ومُفرده خلالة، وهو لذيذ الطعمُ يمكن أكله، وتصنع منه قلادات يتزين بها النساء والأطفال في موسم نباته، مع اضافة شيء من الورود والزهور وقشور الرمان والريحان والكرورو فيما بين الخلال لتزيين العقد الذي تلبسه النساء والفتيات.

وإذا نضج الخلال واكتسب لونه الطبيعي وهو في النخلة سمي رطبًا، ويطلق عليه في أوله بسر، أي خشنٍ لم يلن بعد.  والبسر في معاني اللغة يعني الإعجال، وَبَسَرَ حَاجَتَهُ يَبْسُرُهَا بَسْرًا وَبِسَارًا وَابْتَسَرَهَا وَتَبَسَّرَهَا: طَلَبَهَا فِي غَيْرِ أَوَانِهَا أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ لِلرَّاعِي:

إِذَا احْتَجَبَتْ بَنَاتُ الْأَرْضِ عَنْهُ…تَبَسَّرَ يَبْتَغِي فِيهَا الْبِسَارَا.

وعادة ما يتم اقتطاع عذوق البلح من النخلة في طور الخلال لتقوى بقية العذوق وتنتج رطبًا ذو جودةٍ أفضل، حيث وجدت دراسات زراعية أن هناك علاقة عكسية بين عدد العذوق التي تترك على النخلة وحجم ووزن الثمرة، وإذا خف عدد العذوق تتحسن المواصفات الكيماوية للثمرة.

إن استخدام الرطب في هذا المثل كهدف نهائي لنيله دلالة واضحة على أهمية الرطب في حياة المجتمع القطيفي، فيما مضى من الزمان، فثمرة الرطب بغيِته ومناه لأنها القوام الأساسي لمعيشته، وقيمتها المعنوية توازي أهمية الناقة للبدوي في الصحراء، فكلاهما سبيل معيشة أساسي لصاحبه.

المهندس علي عبد المحسن الجشي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *