من مذكرات توماس جيفري بيبي “البحث عن دلمون” (ج1) – بقلم صادق علي القطري

من مذكرات جيفري بيبي الذي كتبها اثناء البحث عن حضارة دلمون والتي يكشف فيها عالم الاثار جيفري حجم وكمية الاثار المتناثرة والموجودة على طول سواحل وتلال وصحاري شرق الجزيرة العربية والتي اشار فيها لألاف المواقع والمدافن المتناثرة في كل مكان وان لم نسلط عليها الضوء فقد تكون مهددة للسرقة والعبث من قبل العابثين وسراق الاثار وان لم تحظى بحماية وتأهيل واكتشاف فإنها ستذهب في مهب الريح وسنفقد حقبة تاريخية تحدث عنها هذا العالم والتي قد تكشف التسلسل التاريخي المفقود لهذه الحضارة العريقة.

“وعندما نتكلم عن حضارة دلمون فإننا نتكلم عن المنطقة الممتدة من جنوب بلاد الرافدين (البصرة حاليا) الى عمان جنوبا ومن الجزر الخليجية (البحرين وتاروت ودارين) شرقا الى هجر (الاحساء) غربا ، أي كامل المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية وجميع جزر الخليج العربي”.

مصدر الصورة: https://alchetron.com/Dilmun

وقبل البدء فيما كتبة عالم الاثار “توماس جيفري بيبي” في مذكراته، يجب تسليط بعض الضوء على هذا العالم والتعرف علية عن قرب، فقد كان هو ورفيقة “بيتر فيلهلم غلوب” قائدي فريق بعثة الاثار الدنماركية، وهي الأولى التي قدمت إلى البحرين في بادئ الامر،  وعمل رجالها فيها لسنوات،  بعد ذلك، تم انتقالهم واستكمال عملهم في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت.

ولولا جهود هذه البعثة والبعثات الاخرى التنقيبية ورجالها المتخصصين وشغفهم باكتشاف الحضارات المجهولة لما تمكنا في منطقة الخليج العربي من نفض غبار التاريخ والعثور على هذه الحضارة وعلى معظم الرسومات والنقوش والخطوط والأختام والأواني المعدنية والفخارية والنقود والتلال والقبور وغيرها من الأشياء المنطوية على سر الوجود على هذه البقعة من العالم.

“توماس جيفري بيبي” (Thomas Geoffrey Bibby) ، هو من قاد البعثة الدنماركية الأولى إلى جانب زميله ومعلمه “بيتر غلوب” (Peter Glob)، وهو من انشغل بالبحث عن الحضارات في كل مكان وتعلم اللغات الشرقية لهذا الغرض وتنقل من بلد إلى آخر إلى أن حل بالبحرين ومن ثم انتقل الى باقي الدول الخليجية الاخرى.

يرجع له الفضل في تحريك السكون المخيم على أعمال التنقيب عن الآثار والشواهد الدالة على حضارتها الإنسانية القديمة، وتمكن بجهوده وعلمه من إدخال البحرين ومناطق الخليج العربي كلها ضمن دائرة الحضارات العريقة، فصار يُعرف بـ “مكتشف حضارة دلمون”، و “رائد الأبحاث الأركيولوجية العربية” والعالم الذي وضع حدًا للتساؤلات الطويلة حول مكان “مملكة دلمون” التي ورد ذكرها في الواح ملحمة جلجامش السومرية قبل حوالي سنة 2100 قبل الميلاد.

ففي أساطير سومريا ، كانت دلمون جزيرة سرية حيث ذهب البطل الملحمي جلجامش بحثًا عن الحياة الأبدية. تم تصويره على أنه مكان خالٍ من الموت أو المرض وبه الكثير من المياه العذبة. باستخدام نص الأسطورة ، المكتوب في شعر على ألواح من الطين ، أنشأ السيد بيبي وزملاؤه صلة بين دلمون ، التي يُفترض أنها جنة أسطورية ، والبحرين ، الجزيرة الحقيقية قبالة سواحل المملكة العربية السعودية.

ولد بيبي في الرابع عشر من أكتوبر 1917 في قرية “هافيرشام” الصغيرة بجنوب انجلترا لأبوين بريطانيين، ودرس أولاً بمدرسة لانكستر الملكية للنحو ثم بكلية كونفيل وكالوس، قبل أن يلتحق بجامعة كامبردج العريقة لدراسة علم الآثار في الفترة السابقة لقيام الحرب العالمية الثانية. فبسبب ظروف تلك الحرب القاسية في بريطانيا لم يعثر على عمل في مجال تخصصه فالتحق بوكالة المخابرات البريطانية التي أرسلته إلى الدنمارك للانضمام إلى المقاومة الدنماركية ضد النازيين.

فبعد انتهاء الحرب واصل الرجل عملية البحث عن وظيفة تناسب تخصصه الأكاديمي، لكنه فشل مجددًا وهو ما جعله يترك بريطانيا إلى العراق للعمل لدى “شركة نفط العراق” البريطانية في الفترة من عام 1947 إلى عام 1950. وخلال هذه الفترة كان يتردد على بريطانيا، فالتقى في إحدى زياراته بمواطنته “فيبيكي تشيرنينغ” التي تزوجها عام 1949، ومن خلال زوجته فيبكي تعرف على البروفسور الدنماركي “بيتر فيلهلم غلوب” الذي ساعده في الحصول على وظيفة أكاديمية في “جامعة آرهوس” الدنماركية (University of Aarhus) وهكذا، استوطن بيبي وزوجته في الدنمارك.

وفي عام 1953 قاد هو وزميله غلوب فريقًا من علماء وخبراء الآثار مكونًا من 30 شخصًا في البحرين، مدشنًا بذلك أحد أكبر مشاريع البحث العلمية لمملكة الدنمارك خارج أراضيها، حيث قام بحفريات على مساحة ممتدة لنحو خمسين هكتارًا تحت أسوار “قلعة البحرين”.

ركز بيبي أبحاثه أيضًا على موقع آخر إلى الغرب من قرية باربار وهو موقع معبد بـُني في الألفية الثالثة قبل الميلاد، وعلى موقع ثالث في جزيرة سترة. ومن خلال عمله المضني في هذه المواقع اكتشف ما يكفي من القطع الأثرية وتلال المدافن الكثيرة لتأكيد أن دلمون كانت عاصمة غنية لمملكة مستقلة (تمتد من حدود أرخبيل البحرين، إلى أقصى الشمال من الكويت وجنوبًا حتى المملكة العربية السعودية) , فوجد انها “جنة أسطورية زاخرة بالمياه العذبة والخضرة، ومركزًا تجاريًا متوسطًا بين حضارة بلاد ما بين النهرين وحضارة وادي السند، ومقرًا لأكبر مقابر ما قبل التاريخ، تمامًا مثلما ورد في الألواح السومرية عن مدينة غنية مقدسة تدعى دلمون”.

لم تمض سنوات قلائل على عمل بيبي ورفاقه حتى اتسعت رقعة العمل التنقيبي في المنطقة بشكل كبير وظهرت الشواهد المتتالية والقاطعة حول أن البحرين كانت موئلاً لتاريخ سحيق يعود إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد.

خريطة تبين الحضارات التي سكنت دلمون وتأثرت بها.  العمل الفني تصميم: صادق علي القطري.

بدأت البعثة الدنماركية أولى حفرياتها في التاسع من يناير 1954 بالاستعانة بخليط من العمال من جنسيات مختلفة (آسيوية وأفريقية وعمانية) كان يتم جمعهم عن طريق مقاول عراقي من سوق باب البحرين، دون أن تكون لهم أدنى دراية بطبيعة الأعمال التي يتطلبها التنقيب عن الآثار.

ولأن النتائج لم تكن مشجعة، اقترح البروفسور غلوب أن تتم الاستعانة بعمال محليين من القرويين من سكان مناطق التنقيب نفسها، لكن هؤلاء لم يتشجعوا في بادئ الأمر، ووجدوا أن الأعمال المعروضة عليهم مخالفة لطبيعتهم الريفية إلى أن تمّ تغيير فكرتهم النمطية السلبية عن أعمال الحفر والتنقيب مع الأجانب من خلال قيام بيبي وفريقه بتقديم الدليل على حسن معاملتهم للعمال المحليين والتماهي مع عاداتهم، طبقا لما كتبه غلوب في كتابه “البحرين، البعثات الدنماركية في دلمون القديمة”.

استمرت البعثة تعمل لمدة سبع سنوات، وضع بيبي على إثرها كتاباً وثق فيه رحلة عمل فريقه الأثري في منطقة الخليج العربي بأسلوب شيق. ومما قاله في هذا الكتاب الصادر عام 1969 أن العمل في البحرين دخل مرحلة جديدة منذ عام 1960 حينما أصبح روتينيا بعد سنوات من البحث والعثور على الأختام والتوابيت والتماثيل والأواني، مضيفًا: كان علينا التوقف ليس لعدم وجود الآثار، بل لأنه من غير المعقول توقع أن يستمر الشيخ سلمان (حاكم البحرين وتوابعها آنذاك) وشركة النفط في تمويلنا إلى أجل غير مسمى.

البعثة الدنماركية بقيادة بيبي وغلوب ليست فقط أول من بدأ التنقيب في البحرين بموافقة السلطات البريطانية، وانما كانت أيضًا أول من بدأ التنقيب في الإمارات في فبراير 1959، وتحديدًا في جزيرة أم النار على بعد عشرة أميال من مدينة أبوظبي، فعثرت على العديد من الكنوز الأثرية التي تعود إلى عام 2000 قبل الميلاد، ومنها تلال كانت عبارة عن مبانٍ خاصة لدفن الموتى بلا تمييز بين فقير أو غني (كما هو حال الأهرامات المصرية) مزودة بحجرات لها مداخل وممرات وأبواب ذات مقابض من الحجر، ومنها أيضًا هدايا فخارية وأسلحة نحاسية رافقت الموتى إلى قبورهم.

استمرت البعثة في عملها في الإمارات إلى عام 1971، شاملة زيارات وتنقيبات في أبو ظبي وواحة البريمي والمناطق المتاخمة للربع الخالي وسفوح جبل حفيت الشمالية، ولقاءات مع الشيخين شخبوط بن سلطان وأخيه زايد بن سلطان رحمهما الله.

ومن البحرين والإمارات امتدت أعمال البعثة التنقيبية الدنماركية نفسها إلى جزيرة فيلكا الكويتية، فعثرت في مارس 1960 على بقايا أطلال لسور ضمّ في أحد جوانبه نقشاً يونانيّاً يتكوّن من 25 سطرًا. وهذا النقش هو في الأصل رسالة الملك الكبير (الملك السلوقي أنطيوخوس الثالث) إلى والي جزيرة إيكاروس (فيلكا)، تحتوي توجيهاته لإنشاء معبد في الجزيرة.

العمل الفني من تصميم: صادق علي القطري

بالإضافة الى ذلك، امتد نشاط بيبي ورفاقه إلى الهفوف بالمنطقة الشرقية من السعودية في عام 1972، فكان ذلك مقدمة لأعمال مسح أثرية أثمرت لاحقًا عن اكتشاف مدينة متكاملة وهي “ثاج” التي يعود تاريخها إلى العصر الهلنستي أو الفترة المعروفة باسم الدولة السلوقية في القرن الثالث قبل الميلاد.

حينما أنهى بيبي عمله التنقيبي في البحرين والخليج عاد إلى الدنمارك فعمل هناك أميناً بمتحف موسغار إلى أن تقاعد عن العمل سنة 1987، لكنه لم ينسَ البحرين بدليل أنه لم يكف عن زيارتها وتفقد الآثار التي اكتشفها فيها، فقد زارها نحو 35 مرة كان آخرها عام 1997 أي قبل وفاته بأربعة أعوام عن 83 عاماً في السادس من فبراير سنة 2001 في مستشفى بالقرب من مدينة آرهوس الدنماركية، وحيث ان رفيق دربه بيتر غلوب قد فارق الحياة قبله سنة 1985.

ترك بيبي خلفه وقت رحيله زوجته ورفيقته في رحلاته العلمية وولدين وعدداً من المؤلفات التي أصدرها في مجال تخصصه وأن أعمال وأبحاث هذا العالم لم تقتصر على منطقة شبه الجزيرة العربية والخليج العربي، فقد أصدر قبل ذلك في عام 1956 كتابًا بعنوان “شهادة الأشياء بأسمائها الحقيقية”، وهي دراسة استقصائية عن التاريخ الأوروبي القديم في عصور ما قبل العصر الحجري والبرونزي في شمال جبال الألب، من 15000 قبل الميلاد إلى الفايكنج، ومن روسيا إلى أيرلندا، ومن سكان الكهوف في فرنسا إلى القبائل “البربرية”.

هذا علاوة على كتاب «البحث عن دلمون» الذي أصدره عام 1961، وكتاب عن “شعب المستنقعات” في شمال أوروبا، ولاسيما رجل الـ (Grauballe) وهو جثة محفوظة جيدًا لرجل مشنوق في حوالي عام 190 قبل الميلاد، وتمّ التنقيب عنه في الدنمارك عام 1950. وشملت اعماله أيضاً أوروبا والعالم، بدليل أنه أصدر عام 1961 كتاباً بعنوان “منذ أربعة آلاف عام”، وهو بانوراما للحياة في معظم أنحاء العالم المأهول من عام 2000 إلى 1000 قبل الميلاد.

توماس جيفري بيبي عالم الاثار الذي اسهم في اكتشاف حضارة دلمون. مصدر الصورة: https://www.alayam.com/

والمذكرات التي نشرها توماس جيفري بيبي من طبعة يناير / فبراير من عام 1970م لمجلة عالم أرامكو السعودية كشفت أن شرق الجزيرة العربية غني بالأثار والكنوز التي تستدعي السلطات الرسمية ان تنظر اليها بعين الجدية ونفض الغبار عنها وحفظها من العابثين وسراق الاثار وتحويلها الى معالم ومتاحف مفتوحة وتعريف العالم بان هذه المنطقة تحتوي على اثار ما قبل التاريخ وما قبل الحضارات القديمة “حضارات ما بين النهرين ووادي الرافدين والحضارة الفينيقية”.

[قريبا في الجزء الثاني: بعض ما جاء في مذكرات توماس جيفري من كتابه “البحث عن دلمون”…]

المصادر:

  1. https://www.albayan.ae/opinions/articles/2022-07-25-1.4482664
  2. https://www.alayam.com/Article/courts-article/419701/Index.html
  3. https://archive.aramcoworld.com/issue/197001/looking.for.dilmun.htm
  4. http://www.alwasatnews.com/news/331714.html
  5. https://alwatannews.net/article/509533/100-%D8%A3%D9%84%D9%81-%D9%82%D8%A8%D8%B1-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%BA%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AE%D9%8A%D9%84-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%AA%D9%81%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B6%D8%A7%D8%A1
  6. https://www.nytimes.com/2001/02/20/world/t-geoffrey-bibby-83-discoverer-of-gilgamesh-s-island-dies.html?auth=login-google1tap&login=google1tap
المهندس صادق علي القطري

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *